مجلة الرسالة/العدد 75/نظرية الاستقلال القومي وتطبيقها على التاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 75/نظرية الاستقلال القومي وتطبيقها على التاريخ

مجلة الرسالة - العدد 75
نظرية الاستقلال القومي وتطبيقها على التاريخ
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934


المصري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أشارت إحدى الصحف الإنكليزية الكبرى أثناء حديثها أخيراً عن الشؤون المصرية، إلى نظرية تاريخية قديمة ترددها ألسنة الاستعمار في كل مناسبة، وهي أن مصر لم تكن مستقلة في أي عصر من عصور تاريخها. وترمي ألسنة الاستعمار بترويج هذه النظرية إلى غرض واضح، وهو أن مصر التي لم تتمتع خلال هذه الآماد الطويلة من تاريخها بنعمة الاستقلال والحرية، ليست جديرة بأن تتخذ مكانها بين الأمم المستقلة، وأن حكم التاريخ يقضي عليها بأن تكون دائماً مسودة دائماً لغيرها من الأمم القوية؛ فلماذا لا تكون إنكلترا هي الدولة التي تنفذ على مصر حكم التاريخ الخالد؟ ولماذا تحاول مصر أن تغالب قدرها، وطبيعتها كأمة استعبدت مدى الأحقاب تنافي طبائع الحرية والاستقلال؟

وهذه نظرية باطلة بلا ريب، يهدمها حكم التاريخ النزيه الحق؛ ولكنها أيضاً نظرية خطرة؛ وترويجها في العالم المتمدن يضر بالقضية المصرية ضرراً بليغاً، ويسيء إلى تراث مصر التاريخي، وإلى سمعتها كأمة ناهضة تطمح إلى تحقيق استقلالها. ومن الأسف أن هذا القول الباطل في تصوير التاريخ المصري، يروج لها في مصر ذاتها، ويتأثر به الكثير ممن يطغي على أذهانهم وعواطفهم سيل الثقافة الأجنبية، ولا يعرفون شيئاً من تاريخ بلادهم. بل من الأسف أن هذه النظرية الاستعمارية الخطرة، ما زالت تمثل في تعليم التاريخ في بلادنا وفي معاهدنا، لأن برامج التعليم الرسمية ما زالت بعيدة عن التحرر من أغلال المؤثرات الأجنبية، بعيدة عن رعاية النواحي القومية.

ولهذا نرى أن نعرض بهذه المناسبة إلى بحث هذه النظرية لنرى حظها من التطبيق على عصور التاريخ المصري. وأول ما يلفت النظر ذلك التصوير الخاطئ الذي يصور به تعاقب العصور والدول على مصر؛ فمصر حسبما تقول النظرية، قد غادرت منذ أيام الفراعنة عهد الحريات القومية إلى الأبد، وتعاقبت عليها الدول الغالبة تباعاً، فافتتحها الفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب في سلسلة متصلة من السيادة الأجنبية، وتعاقبت عليها بعد ذلك دول إسلامية أجنبية من الشرق والغرب ودول المماليك المختلفة حتى ك الفتح التركي، فاستمرت تحت السيادة التركية حتى كان الفتح الفرنسي وظهور محمد علي؛ ولم يطل أمد استقلالها عندئذ، حتى عادت فوقعت في قبضة الإنكليز، واتصلت بذلك حلقات استعبادها الطويل.

وتصوير أدوار التاريخ المصري على هذا النحو تصوير خاطئ من الوجهة العلمية، وتصوير مغرض وضعه الكتاب الغربيون منذ أوائل القرن الماضي - وهم أول من كتب عن تاريخ مصر في العصر الحديث - ومعظمهم متأثر بنزعة الغرب إلى استعمار الشرق، وتبرير هذه النزعة بالعوامل التاريخية والاقتصادية ونشر المدينة الحديثة. وقد كان لدعواهم أثر كبير في معظم ما كتب عن مصر؛ بل لقد تأثر بها الكتاب المصريون أنفسهم، وتأثرت بها دراسة التاريخ في مصر وبرامجه الرسمية؛ وأضحى واجباً علينا أن نحارب هذه النظرية الخطرة في كل مناسبة، وأن نبين خطأها من الناحية العلمية.

لقد توالت على مصر حقاً عصور طويلة من الغلبة والاستعباد، ولكنها تمتعت أيضاً بعصور طويلة من الحرية والاستقلال والسؤدد القومي. وقد قطعت مصر أيام الفراعنة آماداً بعيدة في ظل الحريات القومية والاستقلال المطلق، وكانت سيدة إمبراطورية مصرية تمتد من قلب السودان إلى الشام؛ وكان لها في تلك العصور من القوة والعظمة والمدنية الزاهرة، ما لم تتمتع به أية أمة من الأمم الغابرة. وإذا كانت مصر قد سقطت في عصور الانحلال فريسة النير الأجنبي، واستمرت ترزح نحو الف وخمسمائة عام تحت نير الهكسوس والفرس واليونان والرومان، فقد تمتعت بحرياتها واستقلالها قبل ذلك آلاف السنين.

ويبدو خطأ نظرية الكتاب الغربيين بنوع خاص في الحكم على تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي، فهم لا يكتفون باعتبار هذا الفتح بدء عصر جديد من الاستعباد بالنسبة لمصر، بل يرون أن مصر كانت طوال الدول الإسلامية التي تعاقبت عليها، أمة مسودة خاضعة لنير الحكم الأجنبي، ويعتبرون هذه الدول كلها، دولا غازية سيدة؛ وهو خطأ كبير في فهم الحقائق التاريخية وفي تصويرها. ويجب أن نذكر أولاً أن الأمة المصرية لبثت أيام الفرس واليونان والرومان تحتفظ بطابعها الفرعوني القديم، وأن هذه الدول الغازية لم تستطع أن تجعل من الأمة المصرية المغلوبة وحدة من وحداتها الاجتماعية، وأن كانت مصر قد تأثرت بلا ريب بنفوذ هذه الدول وحضارتها؛ وعلى هذا فقد كانت مصر في هذه العصور أمة مغلوبة حقاً، ولكن تحتفظ باستقلالها كوحدة اجتماعية. بل لقد استطاعت مصر أن تحتفظ بهذا الاستقلال الاجتماعي، حتى بعد أن أرغمت على اعتناق النصرانية، ولم تندمج قط في الإمبراطورية الرومانية، كما اندمجت أمم وشعوب أخرى. ولكن الأمة المصرية شهدت منذ الفتح الإسلامي تطوراً جوهرياً في تكوينها الاجتماعي؛ فقد استطاع العرب في أقل من قرن أن ينشئوا منها أمة إسلامية، وأن يجعلوا منها وحدة اجتماعية من وحدات الإمبراطورية الإسلامية الكبرى؛

واندمج الغالب والمغلوب في أمة جديدة موحدة تدين بالإسلام وشرائعه، وتتكلم بلغته، وتضطرم بروحه؛ ولم يأت القرن الثالث من الهجرة حتى أضحى التمييز عسيراً بين السلالة العربية النازحة، وبين السلالة المصرية المسلمة. وكانت مصر حتى منتصف القرن الثالث ولاية من ولايات الخلافة؛ ولكنها استطاعت من ذلك الحين أن تنزع إلى الاستقلال في ظل الدولة الإسلامية الكبرى، على يد بعض الحكام والقادة الخارجين على الخلافة؛ وبدأت من ذلك الحين سلسلة الدول الإسلامية المستقلة في مصر.

وهنا تعرض النقطة الجوهرية. هل كانت مصر سيدة أم مسودة في ظل هذه الدول؟ وهل كانت مصر الفاطمية والأيوبية، ومصر في عهد أسر المماليك المختلفة حتى الفتح العثماني، أمة مستقلة أم كانت ترزح تحت النير الأجنبي؟ وجوابنا مصر كانت في تلك العصور أمة مستقلة تتمتع بكامل حرياتها القومية، وكانت أمة سيدة لا مسودة، تسير في ميدان الحرب والسلام من ظفر إلى ظفر. أما هذه الدول الأجنبية المسلمة التي كانت تتبوأ السلطان والحكم، فلم تكن أكثر من أسر نازحة أو مستقرة تبوأت الرياسة لأصولها الملوكية أو لمؤهلاتها الخاصة؛ ولم تكن تتولى هذه الرياسة لحسابها الخاص، وإنما كانت تتولاها لحساب الأمة المصرية، وتعمل باسمها وبتأييدها، فكانت تغدو بعد استقرارها أسراً مصرية خالصة ليس لها مركز للرياسة غير مصر، وليست لها أمة أخرى تمثلها غير مصر؛ وحتى الدولة الفاطمية التي دخلت مصر غازية، لم تشذ بعد استقرارها عن هذه القاعدة، فكانت مصر هي مركز الدولة الفاطمية ومستقرها، وغدت الخلافة الفاطمية مصرية بعد أن كانت مغربية؛ ومنذ الدولة الأيوبية حتى الفتح العثماني تظهر الأسر السلطانية في مصر ذاتها، بين القادة والأمراء النابهين؛ ولم تكن تلك العروش والأسر التي قادت الأمة المصرية منذ الدولة الفاطمية إلى الظفر في ميادين الحرب، وإلى مراتب العظمة والهناء في ميادين السلام والحضارة، سوى عروش وأسر مصرية أو متمصرة، تعمل جميعاً لمصر وباسمها، ولم تكن تلك الجيوش الباسلة التي لبثت أكثر من قرنين تتلقى ضربات الحملات الصليبية في مصر والشام، وتبث أعمالها وانتصاراتها الروع في أمم الغرب، سوى جيوش مصرية تقودها تلك الأسر التي ارتضتها لزعامتها؛ على أن تلك الأسر الملوكية ذاتها لم تلبت غير بعيد أن فقدت زعامتها السياسية، وأصبحت خاضعة في التعيين والعزل لرأي الأمة المصرية ممثلة في زعامتها الدينية والفكرية؛ وأنه لمن التعسف أن تخرج من حظيرة الأمة المصرية أسراً نبهت فيها، وتولت زعامتها بحكم تراثها الموروث آماداً، وعملت لمصر ولم تعمل لسواها، ولم يبق لها من صبغتها الأجنبية سوى ذكريات المنشأ والماضي.

كانت مصر الإسلامية إذا، مذ تقلص عنها ظل الخلافة، أمة مستقلة، وكانت مصر الإسلامية أمة مستقلة حين غزاها الترك العثمانيين وحطموا بها صرح حضارة إسلامية زاهرة تكدست على مر العصور؛ ولقد كان الفتح العثماني عملاً همجياً، كما كانت فتوح القبائل البربرية لرومة وأقطار الدولة الرومانية؛ ولم يكن عملاً إنشائياً، كما كان الفتح الإسلامي؛ على أن مصر استطاعت في ظل أولئك الوندال أن تسترد غير بعيد كثيراً من مظاهر استقلالها المحلي؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى أصبحت السيادة العثمانية على مصر سيادة اسمية، كل ما يهم الحكام الترك منها أن يستدروا بعض الموارد والأموال من الشعب المحكوم.

ولا حاجة بنا للقول بأن مصر استردت كامل استقلالها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأن كانت قد عادت فانضوت تحت لواء أسرة جديدة.

مما تقدم يبدو تصوير النظرية الغربية لعصور التاريخ المصري بأنها سيادات أجنبية متعاقبة، واستعباد متصل للأمة المصرية، تعسفاً لا يؤيده منطق الحقائق التاريخية؛ ولو طبقناً هذه النظرية الخاطئة على التاريخ القومي لبعض الأمم الأوربية العريقة في الاستقلال والحرية لا نهينا في شأنها إلى مثل ما ينتهي الكتاب الغربيون في شأن مصر. ولنتخذ فرنسا مثلاً، فقد نزحت إليها عقب انهيار الدولة الرومانية قبائل غازية من الشمال، وأقام بها (الميروفنجية) على يد زعيمهم كلوفيس، منذ القرن السادس مملكة جديدة هي مملكة الفرنج، ولما انحلت أسرة الميروفنجية، قامت بأمر الفرنج الأسرة (الكارلية) القوية، وانتزعت عرش الفرنج، واستمرت في زعامة فرنسا حتى أواخر القرن التاسع، ونبغ فيها أميران من أعظم أمراء النصرانية هما كارل مارتل الذي رد العرب في بلاط الشهداء (سنة 732م) وكارل الأكبر (شارلمان) أعظم ملوك الغرب في عصره؛ وكان الميروفنجية والكارلية كلاهما من القبائل الألمانية الشمالية، فهل نعتبر أن فرنسا كانت في هذه العصور أمة مستعبدة ترزح تحت حكم النير الأجنبي، لأن أسراً أجنبية نزحت إليها، واستقرت بها، وتولت زعامتها، وعملت لحسابها وباسمها؟ وهل نعتبر نابليون (وهو إيطالي الجنس والأصل) فاتحاً لفرنسا مغتصباً لعرشها وزعامتها، ونعتبر أن فرنسا كانت في عصره خاضعة للحكم الأجنبي؟ ونستطيع أن نلاحظ بهذه المناسبة أيضاً أن أدولف هتلر زعيم ألمانيا وسيد مصيرها اليوم، إنما هو أجنبي نمساوي المولد والنشأة؛ ومن المعروف أن الأسرة التي تتولى عرش إنكلترا اليوم، إنما ترجع إلى أصل ألماني، وأن معظم الأسر الملوكية الأوربية ترجع إلى أصول أجنبية، وإذا كانت هذه الأسر اليوم لا تتمتع بمثل ما كنت تتمتع به أسر السلاطين من السلطة المطلقة، فذلك لأن روح العصر قد تطورت، وغاضت روح العصور الوسطى، وانتهت الأمم بأن جعلت من العروش رمزاً قومياً ليس غير.

وإذا كانت مصر قد رزحت تحت نير الحكم الأجنبي في بعض أدوار تاريخها، فهي لم تشذ في ذلك عن معظم الأمم الغربية التي تتمتع اليوم بكامل حريتها واستقلالها، ولنضرب لذلك مثلاً بأمة عظيمة هي إيطاليا، التي لم تتمتع باستقلالها إلا منذ أواخر القرن الماضي، والتي لبثت طوال العصور الوسطى والحديثة مسرحاً لمطامع الدول والعروش الأجنبية، ولم تستقل فيها سوى البندقية وبعض الجمهوريات الصغيرة. ولنضرب مثلاً آخر باليونان، وقد لبثت زهاء ألفي عام ترزح تحت نير الحكم الأجنبي، منذ الرومان فالبنادقة فالترك، ولم تنل حريتها القومية إلا منذ قرن فقط، ولم تنلها إلا بمؤازرة أوربا النصرانية؛ وهناك غير إيطاليا واليونان؛ وهناك هولندا والبلجيك، وهناك بولونيا التي لبثت ثلاثمائة عام ممزقة بين دول ثلاث من جيرانها، وهنالك رومانيا والمجر، وتشيكوسلوفاكيا، فهذه كلها أمم حديثة في الاستقلال والحريات القومية، ولم يقل إنسان إنها من أجل ذلك تستحق أن يسلب استقلالها وأن تسكن إلى نير المتغلب إلى الأبد. والخلاصة أننا كلما تأملنا هذه النظرية الاستعمارية في تصوير أدوار التاريخ المصري، كلما بدا بطلانها وتعسفها وما يحفزها من الغرض والهوى.

فليستعرض الشباب المصري على تاريخ بلاده، كلما طرقت آذانه هذه النغمة الغادرة. فتاريخ مصر، كتاريخ الأمم العظيمة، حافل بمواطن الفخار والمجد، وعصور الحرية والاستقلال.

محمد عبد الله عنان المحامي