مجلة الرسالة/العدد 75/مصطفى كمال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

3 - مصطفى كمال «مجلة الرسالة/العدد 75/مصطفى كمال» سيرة حياته للكاتب الإنجليزي أرمسترونج تلخيص وتعليق حنفي غالي وعاش مصطفى كمال مع أمه في سالونيك بعد وفاة زوجها الذي كان يعضه وينفر منه، وهناك حاول أن ينشئ مع زملائه من صغار الضباط فرعاً لجمعية الوطن، فأخفق لأنهم كانوا في ريبة من أمره، فلم يؤيده ولم يعارضوه، كأنما كانوا يريدون أن يقفوا على حقيقته ويتبينوا أمره قبل أن يتوصلوا به ويتعاونوا معه في أمثال هذه المغامرات. وأخيراً أرسل إليه أحدهم أن بسالونيك جمعية ثورية كبيرة تدعى جمعية الاتحاد والترقي، يجتمع أعضاؤها في منازل بعض اليهود من رعايا إيطاليا، فيستطيعون أن يدبروا الخطط، ويتشاوروا في أمرهم بمأمن من بطش الحكومة، ومنجاة من عيون الخليفة، وبعد أن اختبرت الجمعية إخلاص بطلنا، وأنست منه نفساً ثائرة وقلباً قلقاً، دعته إلى الانضمام إليها فتم لها ما تريد. وانخرط مصطفى في سلك أعضائها، فألفى نفسه في جو لا يلائمه ولا يتفق وميوله، إذ رأى من حوله أشخاصاً يتحدثون في أمور لا تعنيه ولا تتصل بتركيا التي يحبها ويفني في سبيلها، فما يهمه من متاعب اليهود وما يلاقونه من اضطهاد في روسيا، فهو تركي قبل كل شيء، وهو معتز بتركيته تياه بها، ولا غرض له سوى إنقاذ تركيا من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية، وفضلا عن ذلك فهو ما زال في الجمعية (أخاً) صغيراً، عليه أن يتلقى الأوامر بالطاعة والإذعان، وعليه أن ينفذها بأمانة ونشاط. وهذا ما لا يرضى بطلنا الذي خلق ليأمر ويسود لا ليأتمر ويخضع، فبرم بالجمعية وسخط عليها، وأخذ ينقدها نقداً حاداً قارصاً غير متلطف فيه ولا متهاون قائلاً: إنه يسمع مناقشات بيزنطية لا يعززها عمل حاسم، وهو يريد خطة محكمة دقيقة، ينفذها بكل ما وسعه من جهد، وكل ما في نفسه من حرارة الأيمان والوطنية، ولم يكن يرعى للرؤساء حرمة أو مقاماً، فمن هم أولئك الذين يستأثرون بالنفوذ ويستبدون بالأمر دونه؟ أأنور ذلك المجازف المتهور، أم جمال ذلك المظلم العقل المضطرب الذهن، أم داود ذلك اليهودي الدنيء الذي أنقلب مسلماً، أم نيازي ذلك الألباني فاقد التوازن، أم طلعت ذلك الموظف المصلحي والدب البطيء، فهكذا كان يراهم بطلنا، ويرى نفسه فوقهم أجمعين، وهكذا نرى العظماء شديدي الأنانية عظام الثقة بأنفسهم، وهي صفة لابد منها لمن يتطلعون إلى مسابح الأفلاك. أما من ضعفت ثقته بنفسه، وتنحني عن نفسه لغيره، فليقنع أذن بمدارج الأسماك. وكان يخاطبهم مخاطبة الأستاذ لتلميذه، وحدث ذات مرة أن كانوا يتحدثون عن جمال ويمتدحون وطنيته فقاطعهم مصطفى كمال متهكماً بهم، وأخذ يلقي عليهم درساً عن العظمة الحقيقية. فلما التقى بجمال في اليوم التالي صارحه برأيه فيه قائلاً له أنه طالب شهرة، وألقي عليه ما ألقي على زملائه بالأمس. وقد كان زملائه الضباط يبغضونه لاعتداده بنفسه واستصغاره لشأنهم وسخرهم منهم، كما كان اليهود لا يثقون به، فلم يرتقي إلى مراكز الماسونية العليا وظل بعيداً عن مركز القيادة أو مبعداً عنه ولم يكن في البيت أيسر نفساً ولا ألين جانباً، ولم يكن يسمح لأحد غير أمه أن ينتقده، وكان مع ذلك يأبى عليها التدخل في عمله أو المساس بكبريائه. وقد اجتمع في يوم من الأيام ببعض زملائه بالمنزل، فأخذ الخدم يتسمعون حديثهم من وراء الأبواب وأخبروا أمه، فعارضت فكرته، فحاول أن يقنعها بصوابها، فركبت رأسها وأصرت على رأيها، وما كان الاثنان ليتفقا، فقد كانت هي امرأة صادقة الإيمان وثيقة الإخلاص لقديمها، بينما أبنها لم يكن يؤمن بشيء أو يجل شيئاً على الإطلاق؛ وأخيراً سايرت الأم الرؤوم ولدها العزيز في طريقه برغم اعتقادها في خطئه، خشية أن يهجر المنزل فيشق عليها فراقه، ولكنها ظلت تحذره سوء المنقلب وظلام المصير، قائلة: أن من الحمق التآمر بالخليفة والدين وقد سئم بطلنا الحياة المنزلية بما يثقلها من ثرثرة الأقارب، وتجسس النساء، وفضول الخدم، إذ لم يكن أبغض إليه من الحد من حريته، فهم يريد أن يكون سيد نفسه مهما كلفه ذلك من مشقة وثمن، فهجر المنزل، ولكن ظل حبل الود متصلاً بينه وبين أمه، فكان يزورها ويصغي إليها. وكان ينفق بياض النهار مكباً على عمله، كما كان ينفق معظم لياليه في المقاهي حيث يجتمع بزملائه أحياناً أو يذهبون إلى مكان خفي بعيد، حيث يشربون ويدخنون ويدبرون الخطط للثورة المقبلة. على أن بطلنا لم يكن ليرضى أن يكون جندياً خاملاً مغموراً، بل يريد أن يكون قائداً له شرف النصر وفخار الغلبة والقهر، ولم يكن يحب الرؤساء أن يقربوه منهم، فقل على توالي الأيام اتصاله بالجمعية واشتراكه في أعمالها، وأصبح أكثر ميلاً للعزلة والصمت. وبينما كان بطلنا في بعده وعزلته إذا بالثورة تثب من غير إنذار، فسار نيازي على رأس فئة قليلة من الثائرين إلى جبال مقدونيا الجنوبية متحدياً الحكومة، وحذا حذوه أنور، وأصدر في الحال منشوراً يعلن فيه الثورة أما بطلنا فظل في سكونه وعزلته، وأبى أن يشاركهم، إذ لم يكن من طبعه المغامرة في مشروع إلا إذا كان متين الأساس مقدراً له بعض النجاح؛ ولكن هذه المغامرة الجنونية نجحت بأعجوبة، وساعد على ذلك سخط رجال الجيش على الحكومة لتأخر مرتباتهم، فأبى بعضهم أن يحارب بني وطنهم، وأنضم آخرون إلى الثوار فسقطت حكومة الظلم كما تسقط أوراق الشجر أمام الريح الضعيفة، وقبل عبد الحميد الحكم الدستوري قائلاً: أنه كان يعمل لهذه الغاية من عهد بعيد!! انحنى باللائمة على مستشاريه، وألقى عليهم تبعت الماضي الفاسد. وألغي الجاسوسية، ورحب بالثوار وعاد نيازي وأنور، وقد أسكرتهم نشوة الانتصار، وتوجت رؤوسهم أكاليل الغار، فأستقبلهم الشعب بحماسة فائقة تجل عن الوصف، وقد لقيهما مصطفى برفقة بعض زملائه، وقف الجميع في شرفة أحد فنادق سالونيك، وأعلن أنور منها الدستور على الشعب الذي يرمقه بعين الإعجاب والإجلال، ووقف من خلفه مصطفى وأن ما به من الهم والحسد ليكاد يقطع قلبه ويذهب بنفسه. وقد عاد إلى الأستانة جميع من نفاهم عبد الحميد، وأخذوا يتنازعون السلطة والحكم، وأرسل أنور ملحقاً حربياً في سفارة برلين، أما نيازي فعاد إلى ألبانيا حيث اغتيل، أما مصطفى كمال فأرسل على رأس بعثة ليتفقد حال حامية طرابلس، ويكتب عنها تقريراً لحكومة الأستانة وقد خشيت دول أوربا أن يستعيد الأتراك قوتهم، فانتهزت فرصة هذه الفتنة الداخلية لتصفى مع الأتراك حسابها، فاستولت النمسا على البوسنة والهرسك، احتلت اليونان كريد، وأعلنت بلغاريا استقلالها تظاهرها لروسيا أما في داخل الإمبراطورية فقد شبت الثورة ببلاد العرب وألبانيا، وأحتدم النزاع بين والمسلمين والمسيحيين اشرأبت الرجعية بعمقها تريد استعادة سلطانها البائد، فلجأت إلى الجيش والشعب لأثارته على أولئك اليهود والملاحدة الذين يريدون هدم الدين، وتقويض خلافة المسلمين، ونجحت هذه الدعاية الخداعة البراقة، وثار الجنود في الأستانة، وقتلوا ضباطهم أو سجنوهم، وأعلنوا إخلاصهم للدين وولاءهم لأمير المؤمنين، واستولوا على الأستانة وطردوا منها أعضاء الجمعية، فلجئوا إلى محمود شوكت قائد الجيش بمقدونيا فتردد بادئ الأمر لأنه كان من المقربين إلى عبد الحميد، ولكنهم وفقوا أخيراً إلى إغرائه بمساعدتهم والعمل معهم فسير أنور - وكان قد عاد مسرعاً من برلين - على رأس فرقة من الفرسان كما ناط بمصطفى - وكان قد عاد من طرابلس - رئاسة أركان الحرب، وتقدم الجميع نحو الآستانة فقضوا على الثورة الداخلية، وقبضوا على عبد الحميد ووضعوه في (فيلا) صغيرة بسالونيك تحت رقابة الضابط فتحي المقدوني وأعادوا الجمعية إلى الحكم وكان أنور إبان هذه الحوادث، الشخصية الفذة، والبطل البارز، ترمقه العيون بالإعجاب والحب، لأنه كان جندياً مقداماً جريئاً، كثير الاتجاه إلى الجمهورية، فأتته الشهرة وسعت أليه، بينما ذهب مصطفى كمال في غمار النسيان والإهمال، إذ لم يحظ بإعجاب الشعب لتردده، ولم يكسب رضاء الرؤساء لصلفه، حتى قالوا عنه (أنه ذو كفاية ممتازة، ولكنه جامد النسيم، كثير التمرد على كل أمر، قارص النقد لكل شخص، شديد الغرور، لا يميل إليه أحد، وهو كثير الاعتداد برأيه، لا يشرف معه أحداً في الأمر) وأبعدوه عن الحكم وأبقوه في منصبه، فأكب على واجبه يؤديه بهمة ونشاط، وأخذ يدرس تاريخ نابليون وفون ملتكه. ثم رقي في سنة 1911 إلى رياسة أركان حرب القسم الثالث من الجيش بمقدونيا وقد أرسل في بعثه حربية إلى باريس تحت أشراف الجنرال علي رضا، وأعجب رئيسه به وأثنى عليه. ولما عاد أنيط به الإشراف على مدرسة الضباط بسالونيك، وبرغم كون بطلنا جندياً بفطرته فقد كان يتطلع بنظره إلى السياسة دائماً، ويحاول أن يجرب طالعه فيها، فلم يرضه هذا المنصب، وأخذ ينقد زعماء جمعية الاتحاد والترقي نقداً لاذعاً في غير تحفظ ولا خشية قائلاً أنهم ليسوا جديرين بالحكم، وأن الدول أخذ طمعها يشتد ويدها تطول عن ذي قبل، ولا سيما ألمانيا التي قبضت على مرافق البلاد الحيوية وسيطرت على سكة حديد بغداد. أما في الداخل فلا يزال السخط عاماً والفقر والبؤس مخيمين، ويجب القيام بعمل حاسم لإصلاح الحال. وأخذ الضباط يصغون إليه ويستمعون له ويلتفون حوله فأرضى هذا كبريائه، وأصبح يشعر أنه ذو مكانة وخطر، وأنه يقترب رويداً رويدا من قيادة حركة ذات شأن، ونمى هذا إلى سمع محمود شوكت، وكان يعرف بطلنا ويقدر خطره، لاسيما في البلقان مصدر كل فتنة ومهد كل حركة، فنقله إلى منصب أخر، وكان شوكت في تصرفه هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد سهل المنصب الجديد بطلنا بلوغ دعوته إلى أنصار أكثر من ذي قبل، ولم يخفه تهديد شوكت ووعيده، وظل في مهاجمته للرجال الجمعية وحملته عليهم غير خائف ولا متحفظ، كما أخذ يستحث أنصاره على طرد الأجانب لتصبح (تركيا للأتراك) ولقد عظم خطر بطلنا حتى كتب أعوان الحكومة إليها ينذرونها ويحذرونها منه ويستحثونها على تدارك الأمر، وطلبت الجمعية معاقبته، فبعث إليه شوكت يتهمه بأنه يحرض الجنود على الثورة، فرد عليه رداً لم يكف في نظر شوكت لدحض التهمة ونفيها عنه، كذلك لم يجد شوكت أدلة قوية تثبت إدانته فنقله إلى المكتب الحربي في الآستانة ليبعده عن البلقان مستودع البارود ومنبع الخطر وليستطيع ومراقبة حركاته ويتبع خطواته، فلم يرده هذا عن خطته، وأخذ يتقرب من بعض سياسي الجمعية الذين كانوا يبغضون الألمان ويمقتون سفيرهم صديق أنور الذي أخذ يعمل بنشاط وكياسة بجعل تركيا آلة في يد ألمانيا، وأخذوهم يشجعونه بعض الشيء، إذا رأوا إمكان استخدامه ضد أنور عند الحاجة، ولكنه مع ذلك لم يستغيث ولم يقربوه كل القرب لذهابه بنفسه، فحز ذلك في نفسه وألمه أشد الألم وبينما هو يجاهد خصومه ويجاهدونه إذا بإيطاليا تنزل جنودها في طرابلس وتحتل الساحل. حنفي غالي