مجلة الرسالة/العدد 75/إلى القرية يا بك. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 75/إلى القرية يا بك. . .

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934


أهلاً وسهلاً بعلي بك!. . . كيف حالك؟. . . آنست هنا وأوحشت هناك!. . منذ كم سنة لم أرك؟. . . نعم أكثر من ست سنين!. . .

وكان هذا اللقاء المفاجئ في ميدان إبراهيم أمام (النيوبار)، فمال بنا الشيخ في حماسة الشوق ودهشة المفاجأة إلى مجلس من مجالس هذا المقهى الحاشد، ثم أخذ يسألني عن أمري حتى نقع نفسه ونضح وده. فلما طال بنا نفس الحديث عطفته مترفقاً إلى عمره المفقود، فذاكرته عهود القرية أيام الشمل جامع والحبل واصل والدار نادية! فكانت إرسال هذه الذكر - وا أسفاه - ترتد عن شعوره الأصم ارتداد الأمواج عن صخور الساحل! لقد خفت الماضي في ذاكرته خفوت المحتضر؛ فرجعه البعيد لا يكاد يبين إلا في نظرة قصيرة من عينه المنتفخة، أو نفثة طويلة من نرجيلته المكركرة.

لشد ما صنعت المدينة بهذا الرجل! كان مكتنز اللحم فترهل، ومشبوب

اللون فانكفأ، وخفيف الحركة فثقلته الأملاح، وطليق المشية فقيدته

العلل؛ ثم كان يعقد مجلسه في القرية فيكون في جلالته ديوان عرش،

وفي مهابته جلسة محكمة! يلقي النظرة مثقلة بالدلائل فتأخذها العيون

وعداً لا يخلف، أو وعيداً لا يشفق، أو عاطفة لا تكذب، ويرسل الكلمة

موقرة بالمعاني فتلقفُها الآذان أمراً لا يرد، وقانوناً لا يخالف، ورأياً لا

ينقض، فأصبح في زحمة القاهرة قطعة من الوجود المتطفل، يتسكع في

الطريق، أو يتقمع في القهوة، أو يتمطى في البيت، وليس له رأي في

أمور الناس، ولا أثر في جهاد العيش، ولا شأن في طبقات المجتمع؛

وكان بليل اللسان حافل الخاطر إذا تحدث إلى الفلاحين في شؤون

الفلاحة، فلما حاول مناقلة المدنيين أحاديث السياسة والأدب والاجتماع،

قعد به الجهل عن مجاوراتهم، فغلب الوجوم على نفسه، وختم العي

على فمه! تخاذل حديث (البك) واسترخي حتى انقلب إلى أنة موجعة وشكوى أليمة! قال وهو يطلب من الغلام جمرة ترسل النار في النرجيلة الخامدة: منذ حبَّب إليَّ أبنائي - وهم في المدارس كما تعلم - أن أنقل البيت من القرية إلى الحاضرة، انقلب وجودي رأساً على عقب! فأنا أحيا كالغريب، وأعْمَه كالشريد، وأمشي كالتائه. نقصت غلة الأرض لإتكائي في زرعها على الناس، وزادت أكلاف العيش لاعتمادي في الوجاهة على الشرف، وفدحتني أعباء الديون فأنا من شواغلها في غصة لا تساغ وكربة لا تنسلي، وفسدت على سياسة الأسرة، فالبنون لا يريدون العمل في غير الحكومة، والبنات لا يرغبن الزواج في غير المدينة، والزوجة تأبى إلا

أن تكون كزوجة فلان باشا: لها في كل يوم ملهى، وفي كل أسبوع وليمة، وفي كل شهر (مودة)، وفي كل عام مصيف. فأنا يا صديقي مذبذب العيش بين هنا وهناك، لم أستفد من مزايا الحضر من أتساق الأمر واطراد الحياة، ولم أستعد محامد الريف من سعادة النفس وبساطة العيش وخلوص الفطرة وصحة الدين وسلامة الثروة؛ فهل تطمئن على هذا الحال نفس. وهل تشرق في هذا الوجود سعادة؟ فقلت له وقد تمثل في خاطري ما دهى القرية وأصاب الأمة من أمثال هذا الرجل:

لو أن سراة الريف استقبلوا من أمرك ما استدبرت لما كانوا على أنفسهم شراً وعلى قراهم جنابة. فانك لو بقيت في قريتك، وقمت كما كنت تقوم على تدبير ثروتك، وعاد بنوك من الكلية فاستثمروا علمهم فيها، ونشروا مدينته وثقافتهم بين ربوعها وأهليها، ورجع بناتك من المدرسة فبثثن في نسائها النظام والتدبير والذوق بالإرشاد والقدوة، ثم فعل غيرك ما فعلت، إذن لوفر فيها الرزق، وورف عليها الأمن، وانتقل إليها العلم، وتذوق أهلها المساكين جمال الحضارة ونعيم الصحة ولذة المعرفة، وشعرت أنت في هذه البيئة شعور الغبطة والرضا، لأنك أعنت فريقاً من ضعاف الناس على أن ينعموا بحياتهم ويقوموا بواجباتهم على الوجه الأكمل.

ولكن أكثر القرويين متى ارتجع كثيراً من المال، أو شدا قليلاً من العلم، أغلق (المضيفة)، وخرب (الدوار)، وخلف القرية للفاقة والجهالة والمرض. فلولا أشعة من نور الأزهر الخالد تنتشر في هذه القرى فتدعو إلى الله، وتهدي إلى الحق، لظل الريف وساكنوه على الحال التي عثر فيها بطلائع الإنسان.

أنت لا تزال عميد أسرة مجيدة، لها في سياسة الأمة صحائف مشرقة، وفي ثروة البلاد جهود موفقة، فافزع إلى ماضيك، واستصرخ عزيمة الجنس فيك، واستعد سلطانك على أهلك وبنيك، ثم عد إلى مسقط رأسك ومهبط نفسك ومنبت عواطفك ومنشأ هواك ومرتع صباك وموطن مجدك ومدفن جدودك!

عد إلى القرية يا بك!!

احمد حسن الزيات