انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 749/حرية الرأي وتبعة الرأي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 749/حرية الرأي وتبعة الرأي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

حرية الرأي مكفولة لكل إنسان.

ولكن لا حرية بغير تبعة. فكل ذي رأي مسئول وحدة عن رأيه، وعليه وحده أن يحمل جميع تبعاته، وليس له أن يلقى هذه التبعات على غيره. لأن حريته تنتهي عند انتهاء التبعة التي يحملها باختياره. . . فلا اختيار له في حريات الآخرين.

وذلك عن الحد الفاصل بين الرأي الذي يسأل عنه الباحث أو الكاتب وحده، وبين الرأي الذي يشرط فيه غيره.

فمن حقه بلا نراع أن ما يشاء في حدود القانون ولكن ليس من حقه أن يحمل غيره على تزكية رأيه وترويجه أو الأذن بأجازته ونشره، ولا سيما إذ يكون ذلك (الغير) هيئة رسمية مفروضة بقوة الدولة على جميع أبناء الأمة، كالجامعة المصرية وما جرى مجراها.

فالجامعة المصرية جامعة حكومة، ومعنى أنها جامعة حكومة أن إلزامها لطلابها هو إلزام يقوم به القانون، وتحميه الدولة، وليس فيه للطالب أو لولى أمره خيار كالذي يملكه الطلاب وأولياء الأمور في الجامعات الأهلية. فهم لا يملكون أن ينتقلوا منها إلى غيرها إذا لم توافقهم دروسها، وليس في وسعهم أن يستغنوا عن شهاداتها وإجازاتها، لأن مستقبلهم في الوظائف أو المزاولات العلمية مرتبط بها. فليس لأحد أن يطلب من هذه الجامعة أن تجيز دروساً تحتاج إلى احتمال تبعة، وليس له أن يلقى عليها تبعاته وينتظر منها أن تقرها وتزكيها، وهم يزعم أنه حر فيما يصنع، وأنها هي المقيدة أمامه فلا حرية لها في رفض هذا الصنيع من شاء أن يقدر حريته فليقدر تبعته قبل تقديره لحريته. ومن تقدير التبعة أن يفهم ما يجوز له عرضه للإقرار والإجازة، وما ينفرد به أو يشرك فيه سواه. فإن لم يفهم ذلك فليس هو بأهل لتقدير الحريات ولا لتقدير التبعات.

وقد سبقتنا إلى النظام الجامعي أمم كثيرة، وسبقتنا إلى حرية الرأي أمم كثيرة، وترجع تقاليد الجامعات في بعض هذه الأمم إلى مئات السنين، وكلها تدين بهذا المبدأ فيما يعرض عليها من الرسائل للإجازة والاقرار، ولم يقل أحد أنها تصادر حرية الآراء، أو تحجر على مباحث المفكرين.

فلم نسمع قط أن أحداً تقدم إلى جامعة السوربون ببحث في تدوين الأناجيل هل هي من كتابة الرسل أو كتابة أناس آخرين مجهولين أو معلومين.

والجامعات الإنجليزية تدرس تواريخ الأديان وتدرس المقابلة بينها، فلم نسمع قط أن دراستها هذه أجازت لصاحب رأى أن يطلب منها إقرار قول من الأقوال، يخالف ما تلتزمه أمام جميع المتعلمين كذلك تدرس الجامعات الإنجليزية، كما تدرس الجامعات الفرنسية، علوماً شتى في نظم الدول، وقواعد الدساتير. فلم نسمع قط أن طالباً فرنسياً عرض على جامعة فرنسية بحثاً في إنكار النظام الجمهوري. وتفضيل النظام الملكي عليه، ولا أن طالباً إنجليزياً عرض على جامعة إنجليزية بحثاً في ترجيح النظام الجمهوري على نظام الدولة الملكية. لأن المسألة ليست مسألة حرية وكفى، بل هي مسألة حرية مقرونة بتعبه. فينبغي التفرقة بين ما تكتبه باسمك على تبعة نفسك، وبين ما تكتبه ثم تلقى بتبعاته كلها أو بعضها، على مؤسسات تحميها الدولة وتلقى دروسها على جميع أبناء الأمة، وهم أحرار أيضاً فيما يقبلون وفيما يرفضون.

فلا خلاف على حرية الرأي كائنا ما كان في حدود القانون وإنما الخلاف في احتمال التبعة وتقديرها، وفي موضع التبعة وتمييزه، وليس بأهل لحرية الرأي ولا بقادر على أمانته من يفوته هذا التمييز.

وكاتب هذه السطور يحرص على حرية الرأي، ويعتقد أن الحرية الشخصية هي غاية كل تقدم وارتقاء في تاريخ بني الإنسان، وأن مقاومة الرأي إنما تكون برأي مثله، ومقابلة البرهان إنما تكون ببرهان على قياسه، وأن المصادرة بالقوة عمل لا يليق بأصحاب الآراء ولا يحسن بهم أن يهيبوا بالحكومة إلى اتخاذه، إلا أن يكون في الرأي إخلال بالآداب متفق على تحريمه.

لكننا لا نعطي حرية الرأي كل هذا الحق إلا لأننا ندين بأنه حق ينتهي عند حده ولا يجوز أن يتعداه.

فليقل من شاء ما شاء ما دام هو صاحب التبعة الوحيد في كل ما يقول:

ولكن هل هو صاحب التبعة الوحيد فيما يلقيه إلى الجامعات الرسمية لتقره باسم الدولة، واسم الأمة بأسرها من وراء الدولة؟ هنا محل التقدير والتمييز.

وليس بعالم ولا مستحق لأمانة العلم من لا يقدر ولا يميز، ولا يفرق بين ما يقرره باسمه، وما يطلب من المشرفين على التعليم في الأمة أن يقرروه.

وقلما يعنيني هنا أمة رسالة بعينها أو بحث بعينه، وإنما يعنيني توضيح الحد الفاصل في مسألة الحرية، ومسألة التبعة الفكرية، وهو حد منسىُّ على ما نرى في حسبان بعض المبتدئين، بل بعض الأدباء المعدودين.

ولو لم يكن هذا الحد محتاجاً إلى التذكير في مرحلتنا هذه من الحياة الفكرية لما رأينا رجلا كصديقنا الأستاذ توفيق الحكيم ينساه وهو ينتقد الجامعة المصرية لأنها رافضة تبعةً تلقى عليها، وليس من حقها أن تقبلها باسم الدولة، وليس من مقتضى رفضها أن تحول بين طالب من الطلاب، أو مدرس من المدرسين، وبين إعلان ما يراه بغير واسطتها إذ شاء.

على أننا نهنئ صديقنا الحكيم ولا نقصر القول كله على الأسف لنسيانه أو تناسيه.

نهنئه لأن حرية الرأي كانت رخيصة عنده يوم كان ينعى على الديمقراطية ويشيد بمآثر الدكتاتورية. فإذا عاد يغليها بعد إرتخاص فإنه بالتهنئة من هذه الناحية لجدير.

أما (التقدميون) الذين حنقوا على الجامعة المصرية لالتزامها حدود حقها وواجبها، فحسبهم من التذكير أن نطلب منهم سطراً واحداً يكتب في روسيا اليوم نقداً لعقيدتهم في التفسير المادي للتاريخ، وهي بعد لم تتجاوز عندهم أن تكون رأي إنسان!. . . فكيف بما يعتقد المؤمنون به أن من عند الله، خالق كل إنسان، وخالق جميع الأكوان؟

عباس محمود العقاد