مجلة الرسالة/العدد 748/مولد شاعر
مجلة الرسالة/العدد 748/مولد شاعر
للآنسة نعمت فؤاد
أرى خلل الرماد وميض نار ... وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهموا نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
بهذه الأبيات سار كتاب نصر بن سيار والي خراسان إلى مولاه أمير المؤمنين مروان بن محمد. وكانت الدعوة للرضا من (آل محمد) تسير بنجاح في أنحاء دولة العروبة لاسيما في خراسان موطن الفرس الذين تغلي صدورهم حقداً على بني أمية. ألم يدعوهم (الموالي) إدلالاً عليهم بالسيادة العربية؟ ألم يقصوهم عن المناصب الرفيعة ضناً بها على غير العرب؟ لينتقم الفرس إذن وليهتبلوا الفرصة وهاهي تي قد حانت. إن العرب منقسمون على أنفسهم إلى هاشميين وأمويين كما انقسموا في السقيفة إلى مكيين ومدنيين فليضربوا هؤلاء بهؤلاء عسى أن يذهبوا فينفسح الطريق لعودة المجد السليب.
بث الفرس الدعوة لبني هاشم عساهم إن آل الملك إليهم عرفوا لهم صنيعهم وأثابوهم عليه نفوذاً حرموه، وجاهاً ولى حين آذن القدر شمسهم بالمغيب.
وأنضم إلى الفرس ربيعة واليمن ولم يبق مع بني أمية إلا المضربون. وكان مروان خليقاً بالقضاء على الثورة والانتصار عليها كما انتصر معاوية على أبطال صفين لولا أنها اندلعت في كل مكان فهي تمور.
إذن حان القيام كما قال نصر بن سيار فأرسل الخليفة الجيوش إلى أطراف الدولة لتطفئ الفتنة وتقر السلام.
وسار الجيش الرئيسي إلى خوزستان جيش لهام لا تتبين العين جنوده من العثير المثار. وما إن دخل الأهواز عاصمة خوزستان حتى ألقى الرعب في القلوب قبل أن تقتضي السيوف وتفوق السهام وتشرع الرماح.
وسر الخليفة إذ اطمأن على هيبته وسلطانه في ملكه وفرح الجنود إذ كفاهم الله القتال. ورجع القائد بجيشه بعد أن ترك قوة تقمع من تحدثه نفسه بالوثوب.
وكان (هاني) ممن بقي في الأهواز من الجنود. وتاقت نفسه يوماً إلى الخلوة في ناحية من المدينة يتملى الذكريات ويحيا في الشام بفكره ساعة أو بعض ساعة يستجلي مغازل صباه، ومغاني هواه، وتربة آبائه وأجداده على الذكرى تفيض على قلبه سلاماً بهدهد حنينه ويفثأ لوعته.
وأطاعت (هاني) قدماه حتى انتهى إلى النهير الذي تقع عليه مدينة الأهواز والذي يصب في شط العرب. فرآه أبيض الصفحة صافياً تتهامس مويجاته ويميل النسيم بأغصان الشجر عليها فتخالها تسترق السمع.
ويسير (هاني) مع النهر في اتجاهه مأخوذاً بسحره، طروباً من الأغنية الرائعة التي تتألف من هسيس النهر، وهفهفة النسيم، ومغامسة الشجر.
وسار (هاني) بضع خطوات ثم وقف فجأة مبهوتاً أو كالمبهوت أي فتاة هذه التي راعته هذه الروعة؟
إنها فارسية صغيرة لم تتجاوز بعد عامها العشرين قد أخذت مكانها تحت شجرة فينانة على شاطئ النهر. وكانت بنت الفرس تتألق في ثوب أرجواني جميل قد أرخت غدائر نصف منحلة كليل امرئ القيس إذ كانت تتهدل على كتفيها تارة ويلقي بها النسيم على صدرها تارة أخرى في حركة تشبه موج البحر.
ورجعت الفتاة إلى قريتها (استانة أتار) ومعناها بالفارسية باب النهار وصاحبنا في إثرها لا يلوي على شيء وهناك عرف أن اسم فتاته (جلبان) ومعناها بلغة قومها (غصن الورد).
لكأنما وضع لها هذا الاسم الجميل بعد ما تفتحت من كمها فهذه القامة الفارعة أشبه شيء بالغصن الريان، وهذا الوجه المشرق الذي يتورد إلى كل من لاقاه هو في جمال الورد يجذب إليه الفراش من كل لون.
ولم يمض على زواج (هاني) من جلبان شهور حتى دعي إلى الانضمام إلى الجيش المحارب.
ولبى الفتى العربي داعي الوطن وداعي العصبية التي طالما فخرت على الفرس.
والتقى الجيشان عند نهر الزاب وكان قتال. . . قتال رهيب يحضأ في ناره الفرس الذين هزمهم العرب في القادسية واليرموك فأرادوه ثأراً يبرئ النفوس التي تتمزع من الغيظ، ويغسل العار.
وعثر جد أمية لما أراد الله أن يذهب بدولتهم وطاحت الحرب بمروان ورجع جنود الأمير عندما أصبحت المقاومة عديمة الجدوى وآب هانئ إلى عروسه كاسف البال تعس النفس لهزيمة العرب فوجدها جذلة لظفر الفرس فخورة بنصرهم.
ولما كان القلب لا يعرف الجنس في هواه فقد عاش الزوجان في سعادة لا يرنق صفوها كدر.
وولد لهما في دولة العباس ابنهما (الحسن) الذي عرفته قصور الرشيد والأمين نديماً شاعراً، وعرفته بغداد طائرها الغرد الذي طالما شدا بحضارتها وشاد بمجدها وصور نعيمها، وغنى مجالس انسها. وعرفته البصرة شادياً للعلم والأدب والشعر في مسجدها ومربدها ثم عالماً شاعراً، وعرفته مصر شاعراً فحلاً يفد عليها مادحاً للخسيب مدحته البلقاء التي مطلعها:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
تلك القصيدة التي عارضها شاعرنا البارودي بقصيدته التي مطلعها هذا البيت الرقيق الشجي:
تلاهيت إلا ما يجن ضمير ... وداريت إلا ما يتم زفير
هذا هو الحسن بن هانئ الذي كنى نفسه أو حمله أستاذه خلف الأحمر على التكني بكنى اليمن فتكنى أبا نؤاس.
نعمت فؤاد