مجلة الرسالة/العدد 748/الأسطورة والإعجاز القرآني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 748/الأسطورة والإعجاز القرآني

مجلة الرسالة - العدد 748
الأسطورة والإعجاز القرآني
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 11 - 1947



للأستاذ محمد احمد خلف الله

قلنا في مقالنا السابق إن الأقدمين من المفسرين قد فهموا من الأسطورة أنها ما سطره الأولون من قصصهم وأحاديثهم ونقلنا عن كتبهم من النصوص ما يثبت ذلك. ولعلنا لم ننس بعد ما ذهب إليه الطبري في آخر عبارته من القول بان المشركين ما كانوا يقصدون من وراء كل هذا إلا القول بان هذه الأساطير من عند محمد لم يجئه بها الوحي ولم تنزل عليه من السماء.

وقلنا في نفس المقال أن الرازي قد فطن إلى الصنيع الأدبي في بعض القصص القرآني حين فرق بين جسم القصة وما فيها من توجيهات دينية هي قصد القرآن من قصصه. ولعلنا لم ننس بعد ما ذهب إليه الرازي من أن الأمر الأول هو الذي ادخل الشبهة على عقول المشركين وعلى قلوبهم وانهم من اجل هذا قالوا بان ما يجئ به محمد ليس إلا أساطير الأولين. ومعنى ذلك أيضا انهم ينكرون أن يكون قد جاء بها الوحي أو نزلت عليه من السماء.

واليوم نريد أن ندرس مع القراء موقف القرآن نفسه من هذه الأساطير.

وموقف القرآن يتلخص في الإجابة عن هذا السؤال. هل نفى القرآن عن نفسه بناءه بعض القصص على الأساطير؟.

هذه هي الآيات التي تعرضت لهذه المسالة من القران الكريم:

(1) قال الله تعالى (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونه يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) أنعام 25.

(2) وقال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم) الأنفال 31، 32.

(3) وقال تعالى (وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين) النحل 24

(4) وقال (بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآبائنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) المؤمنون 81، 83

(5) وقال (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض انه كان غفورا رحيما) الفرقان 5، 6

(6) وقال (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) النمل 67، 68

(7) وقال (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين) الأحقاف 17

(8) وقال (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) القلم 10، 15

(9) وقال (ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) المطففين 10، 13

هذه هي الآيات التي صور القران فيها هذه العقيدة فلننظر لنرى ماذا فيها من حديث؟.

أول الأشياء أنها جميعا من القرآن المكي حتى ما نزل فيها من سورة الأنفال المدنية إذ نص القدماء واعتمد ذلك المصحف المكي على أن الآيات من 30 - 36 من سورة الأنفال مكية. ومعنى ذلك أن هذا القول إنما كان من المشركين من أهل مكة وانه اختفى بانتقال النبي إلى المدينة ولذلك سر سنقف عليه بعد حين.

وثاني الأشياء أن القائلين لهذا القول هم في الغالب الذين ينكرون البعث ولا يؤمنون بالآخرة ولك واضح كل الوضوح من آيات سور. المؤمنون، النمل، الأحقاف، المطففين، ذلك لان الحديث معهم في هذه المسالة بالذات.

ثم هو متصل بسبب قوي بالحديث عن الحياة الآخرة في آيات سور الأنعام والنحل.

ومعنى ذلك فيما نرى انهم كانوا يعتبرون الأقاصيص التي تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة والتي تمثلها للناس على أنها قد وقعت. من الأساطير.

وإذا ما ضممنا إلى هذا أمرا آخر هو أن تلك الأقاصيص القرآنية التي يذهب المستشرقون إلى إنها من الأساطير كقصة أهل الكهف تلك التي يسمونها أسطورة السبعة النيام وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير) كان موضوعها البعث وأنها تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة وتمثيلها للناس على أنها قد وقعت. تبين لنا أن الشبهة قد دخلت على أولئك من الباب الذي دخلت منه على هؤلاء.

ومعنى ذلك أن هيكل القصة لا ما فيها من توجيهات دينية كان العامل القوي في الذهاب إلى هذا القول من أولئك وهؤلاء.

ومن الصدف الغريبة ان المحدثين من المفسرين يرون أن هذه القصة الأخيرة قصة الذي مر على قرية وهي خاوية قد يكون القصد منها التمثيل. فقد جاء في المنار ج3 ص49 بعد تفسيره لتلك القصة ما يأتي (ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل).

إن الأمر كما قلت في مقالي السابق يحتاج إلى النظرة الدقيقة الفاحصة. نظرة العلماء الذين يقفون على أسرار الصناعة الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية ويواجهون الحقائق مواجهة العلماء. أما أولئك الذين يفزعون ويهرعون إلى وهمهم كلما تحدث متحدث ليقذفوه بالكفر ويرموه بالإلحاد فأولى للقرآن ثم أولى لهم أن يختفوا من الميدان.

إن قوة عقيدة المشركين وسعة أفق المستشرقين يضطراننا إلى أن نتناول المسالة كما يجب أن يتناولها العلماء.

لنستعرض سويا هذه الآيات ولننظر فسنرى:

في سورة الأنعام يذهب المشركون إلى النبي يستمعون إلى القرآن لكنهم بعد الاستماع يجادلونه ويقولون له ما هذا إلا أساطير الأولين. ونعتقد انهم لم يقولوا هذا القول في مواجهته وأمام سمعه وبصره إلا وهم يعتقدون أن ما يقولونه الحق وما يرونه الصواب. ومعنى ذلك أن الشبهة عندهم قوية جارفة.

وفي سورة الأنفال يذهبون ويستمعون وبعد هذا وذاك يقولون قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ولا يكتفون في هذا الموطن بهذا القول وإنما يذهبون إلى ابعد من هذا في التحدي ويقولون. اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم.

وإذا كنا نعتقد بصدق القرآن في تصوير احساساتهم كان لا بد لنا من التسليم بان هذه العقيدة قوية جارفة وتقوم على أساس يطمئن إليه المشركون ذلك هو ورود بعض الأساطير في القرآن الكريم.

وفي الأحقاف يقف ولد هو فيما يروى المفسرون ابن أبي بكر من والديه هذا الموقف القاسي العنيف (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين).

وإذا كنا نعتقد بصدق القرآن في تصويره لخلجات الأنفس فان الأمر الذي لا بد لنا منه هو الاعتراف بان هذا الشخص الذي يضجر من والديه ويتأفف من قولهما ويشك في عودته إلى الحياة مرة ثانية ويقيم في هذا الشك على ملاحظته لظاهرة من الظواهر هي أن القرون قد خلت من قبله ولم يعد إلى الحياة أحد كان قوي العقيدة شديد اليقين في أن ما يروى له من الأساطير.

وهكذا نلحظ إن الشبهة قوية عنيفة وأن القرآن يصورها تصوير الصادق الأمين. ونحس نحن من تصوير القرآن لها أن القوم كانوا صادقين في التعبير عما يحسون ويشعرون به نحو ما يتلى عليهم من أي القران الكريم.

والمسالة عقلا لا تحتمل اكثر من فرضين.

الأول أن القوم يقولون هذا القول كذبا وادعاء لتضليل الناس وصرفهم عما يتلو عليهم محمد من آي الذكر الحكيم.

الثاني أن القوم كانوا يعبرون التعبير الصادق عما يدور في خلدهم من إحساسهم بان فيما يتلى عليهم بعض الأساطير.

ونرجح نحن الغرض الثاني ولكن نكتفي في ترجيحنا له على القول السابق من صدق القرآن في تصوير إحساسهم من أن الذي يتلى عليهم فيه بعض الأساطير. وإنما سنعمد إلى شئ آخر يدل على صدق عقيدتهم هو موقف القرآن الكريم.

لنستعرض الآيات مرة أخرى فسنرى.

1 - اكتفى القرآن بوصف هذا الصنيع من المشركين في آيات سور الأنفال والمؤمنون والنمل والأحقاف.

2 - اكتفى القرآن بتهديد القوم في آيات سور الأنعام والقلم والمطففين. وهو تهديد يقوم على إنكارهم ليوم البعث أو على صدهم الناس من اتباع النبي وليس منه التهديد على قولهم بان الأساطير قد وردت في القرآن الكريم.

3 - ومرة واحدة رد القرآن عليهم قولهم وهي المرة التي ترد في سورة الفرقان وهذه هي الآيات. قال تعالى (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم سر السموات والأرض انه كان غفوراً رحيماً).

وهو رد لا ينفي كما نرى ورود الأساطير في القرآن وإنما ينفي أنها من عند محمد يكتبها وتملى عليه، ويثبت أنها من عند الله. قل أنزله الذي يعلم السر. . . . الخ.

ويحسن بنا أن نثبت هنا نصاً للرازي في هذه المسالة فقد قال رحمه الله في ج6 ص 354 ما يأتي (البحث الأول في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وتقريره ما قدمنا من انه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بان استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزوا عنه ثبت انه وحي الله وكلامه فلهذا قال (قل أنزله الذي يعلم السر. . . . . .) انتهى.

والذي يحسن بنا ان نلتفت إليه هنا إن الرازي يسال عن كيفية أن يكون قوله تعالى: قل أنزله الذي يعلم السر. . . . . . . الخ إجابة عن قولهم وقالوا أساطير الأولين. . . الخ. ذلك لان الرد الذي كان يتوقعه الرازي إنما يكون بنفي الأسطورية عن القرآن ومن هنا حاول ما حاول ليجعل القرآن ملاقية للشبهة.

واعتقد إن الرازي لم يفطن إلى الصواب فإجابة القرآن هي الإجابة الطبيعية وهي الإجابة التي لا محيد عنها في هذا الميدان ذلك لان مدار الحوار بين القران والمشركين لم يكن عن ورود الأساطير في القرآن وإنما كان على اتخاذهم ورود الأساطير دليلا على إن القرآن من عند محمد لم يجئه به الوحي ولم ينزل علية من السماء. ومن هنا كانت الإجابة في محلها وكانت إثبات أن القرآن من عند الله (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). ولم تكن الإجابة نفي ورود القصص الأسطوري في القرآن. وهذا هو الذي نص عليه الطبري فيما نقلنا منه من حديث في مقالنا السابق. وهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره القران من قبلهم (وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين).

ذلك لأنهم كانوا يستبعدون أن يصدر مثل هذا القصص الأسطوري عن الله. ومن هنا وقفوا موقفهم من النبي وقالوا عنه وعن القران ما قالوا.

والآن نستطيع أن نلتفت قليلا إلى الوراء.

لقد رصدنا في مقالنا السابق ما نجنيه من الفوائد وقلنا إن أهمها تخليص القران من مطاعن الملاحدة والمستشرقين. والآن نعود إلى رصد شئ آخر هو اعز علينا واثر عندنا من كل ماعداه ذلك لأنه سر قوى من أسرار الإعجاز القرآن الكريم.

لقد كان هذا الصنيع الأدبي من القرآن - وهو بناءه بعض قصصه الدينية على أساس من الأساطير القديمة - تجديدا في الحياة الأدبية عند العرب المكيين. وكان تجديدا لم يعرفه القوم من قبل لبعدهم عن الكتب السماوية ومن هنا أنكروه وقالوا ما قالوا عن النبي وعن القرآن الكريم.

ولقد كان هذا الصنيع الأدبي مما ألفه القوم من المدنيين خاصة أهل الكتاب ذلك الصنيع الذي جرت علية التوراة وجاء به الإنجيل ومن هنا لم ينكروه ولم يقولوا فيه مثل ما قال الأولون من المكيين. ولا يزال هذا الصنيع حتى اليوم من عمل الأدباء المجيدين ولا بدع في ان يكون صنيع القرآن وهو في أعلى ما عرفت العربية من طبقات البلاغة وأدب القائلين.

وهذا ما نحسب انه السر الذي أشرنا إليه في أول هذا المقال من وجود هذه العقيدة بمكة واختفائها بانتقال النبي إلى المدينة لمعرفة الآخرين لذلك الصنيع.

تلك هي نظرة القرآن في موقفه من حديث القوم عن الأساطير ألممت بها وشرحتها كما فهمتها وأرجو أن أكون في هذا الفهم من الموفقين.

والآن أفلا يزال الأحمدان الفاضلان عند رأيهما من أنا نستحق أن نتهم بالكفر ونرمى بالزندقة ونوصم بالإلحاد.

اللهم إنك لتعلم أنا نحرص على فقه كتابك المعجز ووحيك العربي المبين.

واللهم إنك لتعلم أنا قلنا ما قلنا طلباً للفهم الدقيق لآياتك وحباً في الوقوف على سر من أسرار إعجازك.

واللهم إنك لتعلم أنا نؤمن إيماناً قوياً جازماً بصدق قولك المنزل على نبيك المرسل (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون).

ولقد صدقت يا الله فانتصر الحق وآمن بالرأي من لم يؤمن به من قبل، والسلام.

محمد أحمد خلف الله

كلية الآداب - جامعة فؤاد