مجلة الرسالة/العدد 747/بين السياسة والأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 747/بين السياسة والأدب

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1947



إنجلترا في مرآة حافظ

للشيخ محمد رجب البيومي

كشر الشر عن أنيابه، وبدت بريطانيا للعالم أجمع في صورة مخزية منكرة، فهي تهدر على الملأ حقوق الإنسان، وتئد الحرية القومية بما تستطيع من قوة وجبروت، ولولا أن وجدت مصر من مجلس الأمن منبراً تذيع عليه فضائع الاستعمار، وشنائع الاحتلال، لالتبس الحق بالباطل الصراح ولوجد في الناس من يغتر بتمويه إنجلترا الكاذب، ويصدق ما تخلعه عن نفسها من حلل النزاهة والوفاء.

ولقد مددت يدي إلى ديوان حافظ إبراهيم لأطالع في هذه الآونة الحرجة ما سبق أن هتف به شاعر النيل في أذن هذه الدولة الصماء، ولأشهد في مرآة شعره صورتها الصادقة التي رسمها الشاعر الكبير، ومما حمدت الله عليه أن وجدت هذه العجوز الشوهاء قد بدت كالحة عابسة تبعث في النفس اشمئزازاً وفي الصدر انقباظاً حتى إنك لا تستطيع - مهما تجلدت - أن تديم النظر إليها بضع لحظات متتاليات!!

والحق أن شاعر النيل كان ذا سلاح باتر ضرب به رقبة إنجلترا ضربات متلاحقة، وشهرة في وجه الاستعمار مبارزاً مصاولاً، وما زال يواصل سلاحه الدائب، ونضاله المستميت، حتى تيقظ الشعور الهاجع، وتنبه الإحساس الغافل، فهبت مصر جميعها تثور للكرامة الذبيحة، وتثار للحرية الجريحة، وهاهي ذي تواصل ثوراتها الصاخبة في قوة وإيمان حتى تنقشع السحب وتتبدد الظلمات.

أما كيف استطاع الشاعر أن يؤدي رسالته على وجهها الصحيح، فهذا ما سأبسط أسبابه للقراء في جلاء ووضوح. . .

نشأ حافظ رحمه الله تواقاً للأدب، حريصا على التحليق في أجوائه الشاسعة. وكان البارودي قد نال من نباهة الذكر، وبعد الصيت ما جعل شاعر النيل يتخذه مثلاً أعلى في الحياة، ولئن كان سامي قد ركز بناء مجده على البلاغة والفروسية، فإن حافظ يستطيع أن يملك زمام البيان باطلاعه المتواصل كما يقدر على الالتحاق بالمدرسة الحربية ليكون فارس الحومة، وقائد الكتيبة، ومن هنا ترك الشاعر المحاماة، والتحق بالمدرسة الحربية، وإن أمله ليصور إليه أنه سيكون في يوم من الأيام خليفة لرب السيف والقلم محمود سامي البارودي!!

ظن حافظ أنه سيستفيد من المدرسة الجديدة استفادة يخدم بها وطنه المريض، ولكن صدره قد انقبض في حسرة وغيض إذ رأى بعينيه أن المستر براين الإنكليزي قد صفد المدرسة بأغلال وثيقة من الذل والعبودية، فلا يدرس فيها غير التمرينات الآلية التي لا تنشئ جيشاً، ولا ترفع أمة، أضف إلى ذلك ما كان يبديه القائم بأعمال المدرسة من ازدراء بالغ للعقلية المصرية واحتقار شديد للطلبة المنتسبين، مما جعل الشاعر يؤمن في قرارة نفسه - عن مشاهدة حقيقية - أن الإنكليز جميعاً من هذا الطراز الدخيل، فهم يضمرون السوء للشعب، ويهوون به إلى اسفل درجات الانحطاط.

خرج حافظ من المدرسة بعد انتهاء سنواتها التعليمية ثائراً ناقما، وما ظنك بشاعر مرهف الإحساس، يرى أعداءه الألداء يتحكمون في أمته أبشع تحكم، والشعب سادر في غفلته فلا يكاد يفكر في إزالة الكابوس الجاثم فوق صدره؛ وكان الظروف التي جمعت حافظا بفريق من المستعمرين في المدرسة الحربية قد هيأت له أن يعيش في جوهم المريض مرة ثانية، فقد سافر إلى السودان في الحملة العسكرية التي ذهبت من مصر بقيادة اللورد كتشنر لاسترجاعه من أيدي الثائرين، وكان في النهاية ما خاف حافظ أن يكون، فقد اهتبلت إنجلترا الفرصة، ورفعت علمها الإنكليزي مع العلم المصري على مدينة الخرطوم، ومن ثم بدا الشاعر يخط الصحيفة الأولى في كتاب نضاله السياسي فقد أرسل اللحن الأول من قيثارته الحزينة، يندد بخيانة الإنجليز وينبه الشعب المصري إلى ما يهدده من الخطر الداهم بعد استلاب السودان، وذلك إذ يقول:

رويدك حتى يخفق العلمان ... وننظر ما يجري به الفتيان

فما مصر كالسودان لقمة جائع ... ولكنها مرهونة لأوان

أرى مصر والسودان والهند واحداً ... بها اللورد والفيكنت يستبقان

واكبر ظني أن يوم جلائهم ... ويوم نشور الخلق مقتربان

وطبيعي أن يبث الشعور الوطني في زملائه الضباط، فيؤلف منهم زمرة تناوئ الغاصبين، وتتمرد على قيادتهم الغاشمة. ولم يلبث كتشنر أن وقف على حركته الوطنية، فتربص به الدوائر، ونصب له المكايد الخاتلة، وإذ ذاك لجا الشاعر إلى أستاذه الإمام، فكتب إليه من خطاب طويل (ولقد قعدت همة النجمين، وقصرت يد الجديدين، عن إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد (يريد كتشنر) فقد نما ضب ضغنه عليّ، وبدرت بوادر السوء منه إلي فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم. . .) وكأن الله عز وجل قد أراد الخلاص للشاعر من أقرب طريق فأحيل إلى الاستيداع، وغادر الخرطوم إلى القاهرة، بعد أن ثكل وضيفته الحكومية وضاقت سبل العيش في وجهه، ولم ير غير الشعر صديقا وفياً، يبثه نجواه، ويستطلعه خبيئة سره إذ يقول:

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما

لحا الله عهد القاسطين الذي به ... تهدم من بنياننا ما تهدما

إذا شئت أن تلقي السعادة بينهم ... فلا تك مصرياً ولا تك مسلما

سلام على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما

وواضح أن اختلاط الشاعر بالمحتلين فترتين متعاقبتين قد حول صدره أتوناً ملتهباً يشتعل بالغيض، فهو وحدة بين شعرائنا السياسيين، قد لمس عن كثب شنائع الاحتلال، ولكنه اضطر مرغما أن يكبت عواطفه - وقتاماً - غب قدومه إلى القاهرة كيلا يقف المعتمد البريطاني في وجهه وهو يبحث عن عمل حكومي يرتزق منه؛ وأنى للشاعر أن يصبر على الضيم والذلة، والشعب في شر حاله، تنهب امواله، وتغتصب خيراته، فلا أقل إذن أن يواسيه بعزاء دامع يفصح عن إحساسه، وينطق عن شعوره، كأن يقول:

أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب

والقوم في مصر كالإسفنج قد ظفرت ... بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب

فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب

إذا نطقت فقاع السجن متكأ ... وإن سكت فإن النفس لم تطب

وقد رأى حافظ أن يتوجه في محنته إلى الخديوي، فيخلع عليه بروداً ضافية من مديحه الرائع عسى أن ينقذه من وهدة التعطل والبطالة، ولكن مدائحه الرنانة قد تلاشت في مهب الريح، ومضى الشاعر يطرق أبواب العمل باباً باباً، والأيام تمر ثقيلة بطيئة في غير طائل، والحاجة ماسة والحظ شحيح!! ويشاء الله أن ييأس من العمل الحكومي ياساً تاماً، فينقلب إلى ثائر هائج، يحارب الاستعمار بما في يراعه من قوة وبيان، وهنا تئن القيثارة الحزينة، فتهز الأوتار هزاً عنيفاً، وتخرج الصحف على الشعب ملتهبة بزفرات حافظ، فلا تكاد تمر بها الأعين القارئة، حتى تشعل جمر الغضب في الصدور، وينظر القراء فيجدون مشاعرهم الكظيمة مبسوطة في شعر حافظ السياسي، فيتغنون به في مجالسهم، وينشدونه في الغدو والرواح حتى أيقظ الهمم الغافية، وأضاء العقول الدامسة، فهب الشعب يؤدي واجبه الوطني - إزاء الغاصبين - بقدر ما يستطيع.

على أن حافظا كان يلمح بصيص الأمل يلوح له بالاعتصام بحبل الدولة العثمانية، فهي المملكة الإسلامية التي تتجه إليها أنظار المخلصين من أبناء العقيدة المحمدية، ومهما قيل عن بغي الخلفاء فهم أهون من أعداء اللغة والدين والوطن، لذلك كان الشاعر يمدح سلاطين تركيا بوازع من دينه وعقيدته، ويسيد بتاريخهم المديد كيلا ينخدع الشعب بدعاية بريطانيا الجوفاء ثم هو في مديحه لآل عثمان يقصد دائما إلى هدفه الاصيل، فينبه الخليفة إلى أفاعي الغرب الخاتلة، ويحذر الشرق من الاستكانة والخنوع، كأن يقول في عيد تأسيس الدولة العلية:

فيا شرق إن الغرب إن لان أو قسا ... ففيه من الصهباء طبع مذوب

فخف بأسها في الرأس والرأس تصطلي ... وخف ضعفها في الكأس والكأس تطرب

ويا غرب إن الدهر يطفو بأهله ... ويطويه تيار القضاء فيرسب

أراك مقر الطامعين كأنما ... على كل عرش من عروشك أشعب

وإذا كان مصطفى كامل قد اتخذ من حادثة دنشواي دليلاً قوياً يستند إليه في كفاحه خارج مصر، فإن شاعر النيل قد شهر هذا السلاح بعينه ليحارب به الأعداء في الداخل. فقد نظم قصائد عديدة مال فيها إلى السلاسة والوضوح. ليفهمها الشعب المصري عن بكرة ابيه، وقد مثل فيها المأساة الدامية تمثيلا يستدر الدموع ويشعل الأفئدة، ودونك بعض ما يقول:

حسبوا النفوس من الحمام بديلة=فتسابقوا في صيدهن وصوبوا

والمستشار مفاخراً برجاله=ومعاجز ومناجز ومخرب

يختال في أنحائها متبسماً=والدمع حول ركابه يتصبب

رفقاً عميد الدولتين بأمة=ضاق الرجاء بها وعز المطلب إن أرهقوا صيادكم فلعلهم=للقوت لا للمسلمين تعصبوا

جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا=بحبال من جلدوا ولم يتهيبوا

شنقوا ولو منحوا الخيار لأهلوا=بلظى سياط الجالدين ورحبوا

أو كلما باح الحزين بأنة=أمست إلى معنى التعصب تنسب

طاحوا بأربعة فأردوا خامساً=هو خير ما يرجو العميد ويطلب

حب يحاول غرسه في أنفس=يجنى بمغرسها الثناء الطيب

ولقد كان لهذه القصيدة دوى هائل في المجتمع المصري، فقد عارضها كثير من الشعراء، وبرزت المقالات السياسية مشتعلة بزفرات من أبياتها الدامعة، مما شجع شاعر النيل على المضي في سبيله، فوقف لكرومر الطاغية بالمرصاد يحاسب الحساب العسير في قواف تصرخ من الألم والرعب، وما كاد اللورد يصدر تقريره الخادع عما قدمه للأمة المصرية من إصلاح ورفاهية، ليبدو في صورة المنظم البريء حتى هجم الشاعر على هرائه الكاذب، ففنده بأسلوبه الرائع وصاح في وجهه يقول:

تمن علينا اليوم أن أخصب الثرى ... وأن أصبح المصري حراً منعما

إذا أخصبت الأرض وأجدب أهلها ... فلا أطلعت نبتاً ولا جادها السما

عملتم على عز الجماد وذلنا ... فأغليتمو طيناً وأرخصتمو دما

تهش إلى الدينار حتى إذا مشى ... به ربه في السوق ألفاه درهما

لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت ... حواشيه حتى صار ظلماً منظما

وبعد لأي رأت الحكومة البريطانية أن تدهن الشعب المصري فاستدعت جبارها العنيد إلى غير رجعة، وهب حافظ يشيعه بقصيدة فاضحة، فصلت آثامه المخزية واحدة وراء واحدة حتى ليجوز للمؤرخ المصنف أن يذكرها وحدها كسجل حافل بآثام المعتمد البريطاني، فقد تعرض فيها الشاعر إلى مواقف كرومر العدائية في الدين الإسلامي، ومناصرته للحركة التبشيرية المسيحية، ثم دلف إلى الشركات الأجنبية التي بثها اللورد في مختلف الجهات الأجنبية، تمتص الدماء، وتستنزف القوى، وندد بمجلس الشورى الذي أراد كرومر تكوينه من الأجانب والمصريين معاً، ولم يفته أن يعرج على الأصنام المصرية التي اتخذها العميد وزراء للدولة فكانت رهن إشارته وقيد رغبته، كما بكى اللغة العربية التي طعنها اللورد في الصميم حين قرر دراسة العلوم المدرسية بلغته الدخيلة، وقد عرف كيف يتهكم بالفرعون الغاشم حيث قال في وداعه:

فلم لا نرى الأهرام يا نيل ميّداً ... وفرعون عن واديك مرتحل غدا

فودع لنا الطود الذي كان شامخاً ... وشيع لنا البحر الذي كان مزبدا

لقد حان توديع العميد وإنه ... حقيق بتشييع المحبين والعدا

سنطوي أياديك التي قد أفضتها ... علينا فلسنا أمة تجحد اليدا

وفي رأيي أن هذه القصيدة التاريخية قد فاقت قصيدة شوقي في وداع العميد، لأن شاعر القصر لم ينطق عن شعور وطني دفاق وإنما غضب لولي نعمته حين هاجمه اللورد في حفلة وداعه، فنحت أبياته نحتاً، وأنت تقرأ ما نسجه أمير الشعراء فلا تحس بهذه اللوعة المتأججة في شعر حافظ، بل تجد شاعر القصر قد نسى الغرض الأصيل من القصيدة، فلم يطنب فيه إطناب شاعر النيل وإنما حرص كل الحرص على أن يندد في مطلع كلامه بما اقترفه اللورد في حفلة الوداع فقال:

أوسعتنا يوم الوداع إهانة ... أدب لعمرك لا يصيب مثيلا

في ملعب للمضحكات مشيد ... مثلت فيه المبكيات فصولا

شهد الحسين عليه لعن أصوله ... وتصدر الأعمى به تطفيلا

هلا بدا لك أن تجامل بعدما ... صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا

ومهما يكن من شئ فإن نشأة شوقي الأولى قد باعدت كثيراً بينه وبين واجبه الأقدس. بل قد ورطته أسوء توريط فيما ينبغي أن يبتعد عنه؛ فقد هجا زعيم الثورة العرابية المفترى عليه لحاجة في نفسه، وأحجم عن رثاء أستاذه البارودي، كما لاذ بالصمت المريب إزاء فجيعة دنشواي، مع أنها زلزلت العالم أجمع بدويها الرنان، والأبيات القليلة المذكورة في الجزء الأول من الشوقيات عن هذه المأساة، قد قيلت بعد رحيل اللورد كرومر، وانقضاء عام كامل، جفت فيه الدماء، وانقطع الدوي، وتحدث الناس جميعاً بأن أمير الشعراء مقصر كل التقصير!!

(البقية في العدد القادم) محمد رجب البيومي

مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة: