مجلة الرسالة/العدد 747/القصص
مجلة الرسالة/العدد 747/القصص
قصة من الأدب الروسي:
حبة من القمح كبيضة الدجاج!
للفيلسوف الروسي ليو تولستوي
بقل الأستاذ مصطفى جميل مرسي
بينما الصبية في لهوهم يعبثون ذات يوم. . . عثر أحدهم في ثلمة في الأرض على شئ عجيب فيه مشابه من حبة القمح. . بيد أنه كبير في حجمه حتى كاد أن يداني بيضة الدجاجة!!.
ومر بهم - وقد استخفهم المرح وتملكهم الفرح بلقيتهم - مسافر من جوّابي البقاع. . فلما أبصر ذلك الشيء بين أناملهم، عوضهم عنه بفلس وحمله معه إلى المدينة. . حيث باعه للملك بمال كثير كعجيبة من العجائب التي تمخض عنها الزمن. . .
فدعا الملك إلى مجلسه أهل العلم وأولي الحكمة وأرادهم أن يأتوه بحقيقة ذلك الشيء. . . فانثنى العلماء إلى كتبهم يتفحصونها، وانقلب الحكماء إلى عقولهم يستحثونها. ولكنهم لم يحيروا لهذا الشيء معرفة لماهيته وإدراكاً لحقيقته!. . حتى كان اليوم الذي طارت فيه دجاجة إلى عتبة النافذة حيث ترك ذلك الشيء العجيب عليها. . فراحت تضرب فيه بمنقارها حتى خلفت ثقباً في جانب منه!. ويومها أدرك العلماء أن ذلك الشيء ليس إلا حبة من القمح!.
فلما حملوا إلى الملك ذلك النبأ. . اشتدت حيرته وتزايد عجبه وأمرهم بالبحث في أي يحن من الزمن وفي أي بقعة من الأرض. كان الناس يزرعون مثل هذا القمح!
فعاد العلماء إلى كتبهم يقلبونها وانثنى أهل الحكمة إلى عقولهم يتروون من جديد. . ولكنهم باءوا بمثل ما كان نصيبهم في المرة الأولى!. فذهب إلى الملك وفد منهم. . وقال له:
- ليس في قدرتنا الإجابة على ما تطلبه مولانا.! فما حوت كتبنا نبأ عنه. . ولا انتهت عقولنا إلى فهم له. . ولكن في مكنة مولانا أن يسأل الفلاحين لعل بعضهم يعلم عن آبائه. . في أي حين وفي أي بقعة كان القمح يزرع في مثل هذا الحجم.!.) فأمر الملك أن ينبعث أعوانه في أرجاء البلاد وينتشروا في مختلف ربوعها. ويأتوه ببعض الفلاحين الذين بلغوا من العمر عتياً.
فلم يلبثوا بعد حين أن فازوا ببغيتهم. . فأحضروا إلى الملك رجل تقدمت به السنين فأحنى ظهره ثقلها. . فراح يتوكأ على دعامتينز معروق الوجه، شاحب اللون مهدل العارضين مغضن البشرة. .
فناوله الملك حبة القمح. . . بيد أن كفافة بصره قصرت به عن رؤيتها. . . فراح يتحسسها بين أنامله الجاسية. فسأله الملك:
(هل لك في أن تخبرنا. . . أيها العجوز عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! ونبئنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت شيئاً مثلها في حقولك؟!. . .)
كان بسمع الشيخ وقر جعله عاجزاً عن الإصغاء إلى ما قاله الملك. . . بيد أنه لم يلبث أن أدركه في مشقة وجهد. فقال بعد أن مكث حيناً لا ينبس:
- (كلا. . . إني لم أزرع ولم أحصد مثلها قط في حقلي. كما أني لم أشتر أبداً شيئاً يشبهها. . . وحينما كنا نتبايع القمح كانت حبوبه صغيرة في مثل حجمها اليوم. . . غير أنه يجمل بك أن تسأل أبي لعله سمعه قد وعى عن الفج الذي كانت تزرع فيه!)
فبعث الملك برجاله في طلب والد الشيخ. . . فعادوا به وهو يمشي معتمداً على عصا غليظة. . . فلما ناوله الملك حبة القمح. . . قلبها بين يديه، وراح يمعن فيها النظر، وقد عجز الكبر عن أن يذهب بحدته!. . . فسأله الملك: (أما في قدرتك أيها العجوز أن تخبرنا عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! وهلا أنبأتنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت مثلها في حقولك؟)
لم يذهب الثقل بمسمع الشيخ، بل ما زال سمعه خيراً من سمع ولده. . فأجاب الملك في صوت هادئ رزين:
- (كلا!. إني لم أزرع ولم أحصد مثلها في حقلي!. . كما أني لم أشتر شيئاً يشبهها!. فما كان للنقود تداول في أيامنا. . فكان كل امئ يزرع قمحة. . . وما زاد عن حاجته يهبه من في عوز!.
لست أدري أين كان يزرع مثل هذا القمح. . . ولكنني أعتقد أن القمح في عهدنا كان أكبر حجماً وأكثر دقيقاً منه في أيامنا هذه. . . بيد أنه - مع ذلك - لم يبلغ حجم هذه القمحة. وأحسبك واجداً عند أبي فائدة وعلماً عنها! فسله)
فأرسل الملك من يأتي بوالد الشيخ. . فغابوا حيناً، ثم عادوا به إلى حضرة الملك!. . يسعى في سيره في خفة ونشاط له بصر ثاقب وسمع مرهف. . . ولسان ينطق في جلاء!. .
فلما مد الملك له يداً بحبة القمح. . . تناولها منه. . . وراح يقلبها في راحتيه. . . ويمعن فيها النظر. . ثم لم يلبث أن ارتفع صوته في هدوء (لم أر مثل هذه القمحة إلا منذ زمن سحيق. . سحيق جداً!.) وقضم شطراً من الحبة بثناياه، وأخذ يتذوقها بفمه!! واستطرد في قوله:
- (إنها نفس النوع!. . .) فسأله الملك:
- (ألا حدثنا أيها الجد الوقور. . . في أي مكان وفي أي زمان، كان الناس يزرعون هذا القمح. . . وهلا خبرتنا إن كنت قد ابتعت أو زرعت مثلها في حقولك؟!. .)
فأجابه الشيخ: -
. . . كان هذا القمح يزرع في كل البقاع في أيامي لقد طعمته في شبابي، وأطعمت غيري منه!. وطالما زرعناه في أراضينا. . وحصدناه. . . ودرسناه!!.)
فقال الملك وقد استبد به العجب وتملكه الفضول: -
(هل كنت تبتاعه؟! أم كنت تزرعه بيديك؟!)
فتريث الشيخ حيناً. . . كأنه يسبر غور الماضي، ويستعيد ذكراه - وقد ضرب النسيان عليها سجنه وأرخى دونها سندوله - ثم أجابه: (لم يكن ثمت واحد. . في أيامي. . يجسر على أن يأتي هذه الخطيئة. . أن يبيع أو يشتري الخبز. . ولم نكن ندري شيئاً عن هذه النقود التي تتداولونها الآن. . فكان لكل امرئ كفايته من القمح والزاد!.)
- بالله خبرني أين توجد أراضيك حيث كنت تزرع فيها ذلك القمح؟!.)
فتبسم الشيخ وأجابه في هدوء:
- (كان حقلي هو (أرض الله) الواسعة. . . أينما زرعت وحيثما غرست فهذا حقلي. . . فكانت الأرض مباحة طليقة بين الناس! وما كنت تجد واحداً يجرؤ على القول بأن هذه الأرض ملكه. . بل العمل هو وحده الذي كان ملكاً للناس): - (هلا أجبتني أيها الجد الكريم. . إلى سؤالين آخرين؟ أولهما: لماذا كانت الأرض تنبت مثل هذا القمح، ثم لماذا كفت عن إخراجه الآن؟!!. .
وثانيهما: ما العلة في أن حفيدك لا يخطو إلا على دعامتين وابنك يتوكأ على عصا واحدة. أما أنت فلا تعتد على شئ؟! وما الذي جعلك ذا بصر ثاقب وسمع مرهف وصوت واضح جلي تهفو الأذن لسماعه؟!)
فهز الشيخ رأسه، وما زالت البسمة مرتسمة على شفتيه وقال:
- (لقد صار الأمر إلى هذا الحال. . لأن الناس كفوا عن العيش بما تعمله أيديهم، وراحوا يسخرون غيرهم لعمل ما تعوزهم الحاجة إليه!.
في أيامنا الخوالي. . كان الناس يعيشون حسب ما سنته لهم شريعة (الله). . (العامل بعمله)!. فلم تملأ الضغائن نفوسهم ولم تفسد الأحقاد قلوبهم. . ولم يكن بينهم من ينظر بعين الحسد إلى ما متع الله به بعضاً منهم!. .)
(طنطا) مصطفى جميل مرسي