مجلة الرسالة/العدد 747/إلى رجال التعليم:
مجلة الرسالة/العدد 747/إلى رجال التعليم:
التلميذ مرآة أستاذه
للأستاذ علي العماري
ذكرت في عدد سابق من الرسالة الغراء بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف المتعلمين في العلوم عامة، وفي اللغة العربية خاصة، وما سلكت غير سبيل الحق، ولا نهجت إلا منهج الصراحة فإني أعلم أن المداورة والمجاملة وغض الطرف عن العيوب كلها أدواء فتاكة، تغطي وجه الحق، وتمكن للداء أن يستشري، وإذا كان هذا سبيلي فإني قائل اليوم قولاً أراه مراً جارحاً، ولكني لا أجد منه بداً، وإني أعلم أنه سيغضب الكثيرين، وسيدع غير قليل من رجال التعليم يزمون شفاههم، ويقطبون أسارير وجوههم، ويهزون أكتافهم، ويقولون: كذب ورب الكعبة، ولكنه - أيها الإخوان - الحق الصراح، والحق مر، والقول الخالص، والناس لا يظمئون إلا إلى الآسن العكر، حين يعذبه النفاق، ويسيغه في الحلوق الثناء الكاذب، والمداهنة البغيضة.
ولست متجنياً، ولا بعيداً عن الصواب حين أقرر أن من أهم أسباب الضعف في مدارسنا ومعاهدنا إسناد مهنة التعليم إلى قوم لا يحبون العلم، ولا يسعون إليه، ومن خطأ الرأي أن يظن أني أقصد جميع الأساتذة والمدرسين، فأنا إنما أشير إلى عدد غير قليل منهم، ومادام المدرس ضحلاً في مادته، تافهاً في معلوماته، ناقصاً في عقله ورأيه، فكيف نطلب من التلميذ أن يكون نابغة في علم، أو عبقرياً في فن، بل كيف نطلب منه أن يقرأ قراءة صحيحة وأستاذه غير مستطيع، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون. .
كان المعلمون في الماضي يسهرون الليالي الطوال في إعداد دروسهم، ويرجعون إلى شتى المصادر في مادتهم، ويعملون آراءهم وعقولهم في تفهم ما يلقونه إلى الطلاب، فكان في معاهد التعليم المجد المحصل، والذكي النابغة، ولكننا اليوم نرى مدرسين (على أحدث طراز) لا يعنى أحدهم بدرس، ولا يتعب نفسه في المراجعة، وحسبه أن يدخل على تلاميذه فيلقي إليهم ما سطر في الكتاب المقرر، فإذا سئل أعاد (الأسطوانة)، ونرى آخرين لا يحسنون النطق بالعربية، وإنما أخذوها من أفواه العامة فهي تطغي على ألسنتهم، وتشيع في أساليبهم، ولأن تكلف أحدهم أن يزحزح رضوي عن موضعه أهون عليه من أن تكلفه أن يلقي درساً بالعربية، ولو كان يدرس البلاغة أو آداب اللغة العربية، وليست هذه الحال مقصورة على معهد من معاهد التعليم دون معهد، وإنما تجدها في الجامعة المصرية، كما تجدها في الأزهر الشريف، كما تجدها في المدارس على مختلف أنواعها، ونوادر المدرسين في هذا الضعف يخطئها العد وينوء بها الحصر.
دخل أحد المفتشين على أستاذ يدرس آداب اللغة العربية في فرقة عالية فوجده يدرس لهم الخط العربي، ويقول عن بعض أنواعه (وقطته أربع وعشرون شعرة من شعرات البرذون) فسأله المفتش ما معنى هذا، فأعاد الدرس من أوله، ومر سريعاً على هذه الكلمة، فسئل مرة أخرى فصنع صنيعه الأول، ولم يزد، فقال له المفتش في أي كتاب راجعت مادتك؟ فسكت ولم يحر جواباً، فقال له: فإذا أردت أنا أن أراجعها ففي أي كتاب؟ فسكت أيضاً.؟
وحدثني كبير في الأزهر قال أن بعض المفتشين في وزارة المعارف دخل على معلمة تدرس اللغة العربية فسمعها تقرأ قول الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) فتضم الكاف، وتميت الواو.
وقد سئل أحد المدرسين في الأقسام الثانوية بالأزهر عن إعراب هذه الكلمة: لي مسألة لدى علي، فلما وصل إلى حرف لدى قال إنه فعل ماض، وأصر على ذلك.
ولعل أغرب ما سمعنا في هذا الباب أن مدرساً في كلية عالية قال إن قول الله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) نزل على أبي بكر رضي الله عنه، فراجعه الله فتريث قليلاً، وترك جدالهم، فلما جاء في اليوم التالي قال لهم اسمعوا. إن الرجوع إلى الحق فضيلة، وإني أطلت الليلة النظر، وراجعت كثيراً من الكتب، وبعد البحث والتنقيب ظهر لي أن هذه الآية نزلت على محمد ﷺ!!!
صدقني - أيها القارئ - واعلم أني - والله الذي لا إله غيره - أجد ولا أتندر، وأن كثيرين ممن كانوا في هذه الفرقة لا يزالون في أول عهدهم بالحياة، وأن الأستاذ المدرس لا يزال منتفخ الأوداج، عالي الهامة، يغدو ويروح على كليته، ويأخذ الكثير من المال على جهله وغباوته!!
وقل لي بربك، كيف يخرج الأستاذ نابغة في البلاغة وهو لا يكاد يبين؟ وكيف يصنع تلميذاً يفخر به وهو يجهل البديهيات الأولية في العلم؟ ومتى استطاع مدرس أن يقرر أن قصص القرآن من الأساطير، أن يخرج تلميذاً له في العلم نصيب. .؟
هذا عن جهل المدرس، فإذا أخذنا ندون ما نعرف من إهمال بعض المدرسين وتهاونهم طال بنا القول، واستفاض الحديث، على أننا سنجتزئ بقليل من كثير مما نعرف، ومع ذلك فلسنا نسلم من الألسنة
هذا مدرس لا عمل له طوال العام الدراسي ألا أن يتحدث عن نفسه، فلا يلقى فرقة من الفرق ألا أسرف معها في التمدح بأخلاقه، والفخر بآثاره وأعماله، والحديث عن آبائه وأجداده حتى إذا بقي من الزمن خمس دقائق قال اسمعوا سنقول في العلم، ويمضي يتحدث عن العلم ولكنه لا يفتح باب العلم إلا ليدخل منه إلى الحديث نفسه. .
وهذا آخر تثقل عليه الدراسة، حتى أن كل يوم منها عنده مثل (سبت الكتاب) فهو يحاول جاهداً أن يميل بالطلاب عن طريق الجد، فلا يسمع نبأة إلا حدث بها، وتحدث عنها، وأطال الحديث، وهو يوحي بذلك إلى الطلاب أن دعوا العلم والعلماء فإن الوطن يناديكم، ومطالب الحياة تستصرخكم، وما فائدة الدرس إذا لم ينتفع منه الدارس؟ فإن لم يقل ذلك تصريحاً قاله تلميحاً، ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا بعض الأساتذة يفرحون ويطربون حين يرون الطلاب منصرفين عن دروسهم، ويغتنمون أشد الغنم إذا رأوهم مقبلين على هذه الدروس.
وهكذا نجد ضروباً وأصنافاً وكلها تتلاقى عند نقطة واحدة، تتلاقى عند الإهمال الذي لا يليق بمن يأخذ على نفسه تبعة تربية النشء، ولسنا هنا نتحدث عما تبذره مثل هذه الأعمال في نفوس الناشئين من الأخلاق الذميمة، وإن كان ذلك عظيماً، ولكنا بصدد الحديث عن ضعف المتعلمين الذي كان من أكبر أسبابه ضعف بعض المعلمين، وإهمالهم وتهاونهم.
ولكن العجب كل العجب من الرؤساء الذين يعرفون كل ذلك، وما هو أدهى وأمر من ذلك، ولكنهم حين يملكون الغنيمة لا يوزعونها بالقسطاس المستقيم، ولا يقصدون بها الجادين العاملين، وإنما يقصدون المقربين منهم والملتفين حولهم، وجمهرة هؤلاء من الصف الأخير الذين يريدون أن يكونوا في الصف الأول بتقربهم من الرؤساء، والسير في ركابهم، ولذلك يكسل المجد، ويتهاون العامل، ويسكن المتحرك، وتخور عزيمة السباق، ولقد قر في الأذهان - من طول ما لقي المجدون - أن الحظ لا يواتي النابه المخلص، وقديماً، قال المتنبي:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأيسر من أجمع الحظ والفهما
وقال بعض شعرائنا المحدثين، وقد أخطئه الحظ، في توزيع الدرجات الأخيرة،:
أين الكفاءة لا كفا ... ءة غير ما يملي الهوى
والعلم والإخلاص والتـ ... بريز دون المستوى
من رام ربّاً عندهم ... فالجهل أعذب مرتوى
وإذا المحكم في مها ... وي الرأي والظلم هوى
فشهادة الحرمان أعـ ... دل يوم تختبر القوى
ولا سبيل إلى النهوض باللغة العربية، وبالتعليم على وجه العموم إلا إذا أخلص ولاة الأمور، وتنبهوا لما قدمنا لهم في مقالنا السابق، وفي هذا المقال من علل وأدواء، وعملوا - جاهدين مخلصين - على علاجها والقضاء عليها.
علي العماري المدرس بالأزهر