مجلة الرسالة/العدد 744/على هامش المعركة!
مجلة الرسالة/العدد 744/على هامش المعركة!
للأستاذ علي الطنطاوي
تحرك الجيش المصري بعد طول السكون، وسهر القادة يرسمون الخطط، ويعدون مناهج القتال، واستعد الجند وشحذوا السلاح، وسيقت الكتائب تتراً، فلا ترى إلا جنداً يزحفون إلى ساحة المعركة، يمشون خائفين وهم الكماة الشجعان الذين ما عرفوا الخوف، ويتقدمون حذرين وهم الشوس المقاديم الذين لا يرهبون الخطر، يتلفتون لا يدرون من أين يأتيهم هذا العدو المرعب، الذي يضرب الضربة، فيهدم الدور، ويفتح القبور وهو مختف لا يرى، فإذا وارى الناس موتاهم، ومسحوا دموعهم، وحسبوا أنهم نجوا منه، رأوه قد ضرب ضربته الثانية، في مكان قريب أو بعيد، لا يعلمون كيف تسلل إليه. لا يقف في وجهه حصن، ولا يرده بارود، ولا ينفع معه رصاص ولا قنابل؛ ولا يدرون من أين يطلع عليهم: أيهبط من السماء، أم يخرج من الماء، أم ينبعث من خلال الظلام؛ يخشون أن يكون قد امتلكهم وهم لا يحسون، وقبض على أعناقهم، يمتص دماءهم، ويزهق أرواحهم، ويجرعهم كؤوس الموت. . . وهم واقفون يحرسون البلاد منه، ويعدون العدة للقضاء عليه.
وفشا في الناس الخوف، وعمّ الذعر، وعلت الوجوه قترة الجزع، وشغلت الألسنة أحاديث الخطر، وملأت القلوب رهبة المصير ولو كانت معركة جنود وعتاد لهانت ولما خاف منها أحد، لأن هذا الشعب قد تمرس بالمعارك من يوم كان قابعاّ في صحرائه، يساير الشمس، ويصاحب الرمال، ويعانق السيوف، إلى أن أخرجه محمد ليضيء مصباح القرآن في المشارق والمغارب، فينير به الدنيا المظلمة، والقلوب القائمة، وهو إلف المعارك وحليفها، خاضها وهي تلتهب بنار الهواجر، عند خط الاستواء، وهي تتشح بجليد الشتاء على حدود القطب، ما ردّه عنها الزمهرير ولا ريح السموم، وواجه الأعداء من كل لون وجنس ولسان، فما يخاف اليوم إنكلترا ولا يخشى أمريكا، ولكن هذا العدو أنكى من إنكلترا نكاية، وأخفى مكراً، وأسرع ضرراً. صغير ولكنه يحط النسر من عليائه، ويلقى الأسد على مضائه، ويفتك بهذا الإنسان الذي حكم الجو والبحر، وسابق في الفضاء الصوت، وعاند القدر، فجاء القدر يحاربه بأصغر جندي من جنوده، بجندي تحمل الآلاف منه - من هوانه - رجل ذباب، وهي لا تشعر بما تحمل. . بـ (مكروب الكوليرا).
وسمع الناس باسم (الكوليرا) فذكروا (الهواء الأصفر) وذكروا (الوباء) وما يروي التاريخ من أرزائه وبلاياه.
واغتنم الشيوخ الفرصة ليحظوا بالالتفات إليهم بعد طول الأعراض عنهم، فحدثوا بما رأوا من فظائع الوباء الذي مر على مصرفي مطلع هذا القرن، والذي جاء جاز بالشام، في الحرب الماضية، ورأيناه نحن، وبالغوا، ووصفوا الجثث التي تكاثرت حتى ما تسعها القبور، والصراخ الذي علا حتى ما تتحمله الآذان، والآلام التي ازدادت حتى ما يطيقها بشر. فروَّعوا الناس وخوفوهم، على خوفهم، فما يستقر بهم قرار. . .
وقامت الحكومة، وانبرى الأطباء، يهدئون الناس ويطمئنونهم، ويرجعون إليهم ثقتهم بالعلم، ويضعون لهم المناهج الصحية، ويدلونهم على وسائل الوقاية: لا تشربوا الماء إلا من الأنابيب، وإن شككتم فيه فاغلوه، ثم صبوا عليه ماء الليمون، ولا تأكلوا الثمار إلا مسلوقة أو مغموسة بالماء المغلي، ولا تعملوا كذا إلا بكذا، ولا تصغوا كيت إلا بكيت. ثم تعالوا نعطيكم الدواء الواقي، وما بقي من القضاء إلا من قضاه. . ولكن لكل شيء أسباباً، ولكل مرض علاجاً، والذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء.
ونشرت هذه النصائح في الجرائد، وعلقت على السيارات، وقيلت في (الإذاعات)، وخطب بها على المنابر، وأسرع القارئون والسامعون يعملون بها، وينفذون ما جاء فيها، وحسب أولو الأمر أنهم قد أسمعوا الناس، وعلموهم، ووقوهم أسباب الردى، ولم يدر أحد بجيراننا الذين يسكنون (عشة حقيرة) خلال قصور الروضة العامرة، مبنية من جذوع النخل، مغطاة بالقش وبأنواع اللقي، لها باب صغير كأنه فتحة مغارة، لا شباك لها ولا نافذة، ولا ترى الشمس داخلها، ولا يجاوز الضوء بابها ولا يلجها إلا بمقدار. لا ماء فيها إلا ما يستقونه من ماء النهر فيضعونه في الجرار المكشوفة يلغ فيها الكلب، وتغسل فيها الآنية، ويسقط فيها الذباب، فتزداد أذى على أذاها، ولا نور إلا نور مصباح زيتي يكاد دخانه المتكاثف يطمس نوره الخافت، ولا نار إلا نار هذا الحطب الذي يوقدونه فيها ليطبخوا عليه، فيخرج دخانه من شقوق السقف، يملأ الحيّ، ويروع الغريب، فيظن أن البيت، (أعنى الكوخ) قد احترق. . . تنام في هذه (العشة) الأم (الشحادة) وأولادها والكلب والحمار الهزيل، وما لا يعلمه إلا الله من الفيران والصراصير والخنافس وسائر الهوام والحشرات والدبابات، لا يكلمون أحداً في الحي ولا يكلمهم أحد، قد خرجوا من دنيا الناس ولم يدخل الناس دنياهم. وما دنياهم؟ إن خيراً منها دنيا كثير من كلاب الأغنياء وخيولهم وقردتهم. وليس فيهم من يقرأ جريدة أو يبصر إعلاناً، أو يسمع (رادّاً) أو يحضر وعظ واعظ، أو خطبة خطيب، فلم يعلموا بما روّع الناس، وصدع خوفه قلوبهم، ولا عرفوا من طرق الوقاية كثيراً ولا قيلا
ولم هم عرفوها، لما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً.
وأمثال هؤلاء الذين لم يدر بهم أحد كثير كثير. . إن نحن توقينا المرض، حملوه هم إلينا، فما أغنى عنا توقينا شيئاً، وإن اعتصمنا بالعلم والمال، فما لهم من علم يعصمهم ولا مال.
ولو كنا صدقنا الحملة يوم حملنا على المرض والجهل والفقر لوجدنا فيهم اليوم صحة تعينهم على احتمال المرض، وعلماً يمكنهم من فهم مناهج الوقاية، وما لا يقدرهم على تهيئة أسبابها. ولكنا أهملناهم فجئنا نتلقى عواقب هذا الإهمال، فإن أصِبنا اليوم بهم فيا طالما أصيبوا هم بنا، وإن شكونا من أذاهم لنا، فيا طالما شكوا هم من أذانا.
وهل شكوا حقاً؟ وهل تركنا لهم ألسنة تنطق بشكوى؟ أو أقلاماً تعبر عن نقمة؟ أما أخرسنا بالجوع ألسنتهم، وشللنا بالجهل أصابعهم، وحرمناهم الإنسانية حين جعلناهم حيوانات لا تنطق وما كان الإنسان إلا بالنطق إنساناً!
فانشروا الآن ما شئتم من نصائح، وأذيعوا ما أردتم من مناهج، إن أكثر الناس لا يقرؤونها، وإذا قرؤوها لا يعملون بها لأنهم عاجزون عنها، فوقوهم أنتم أسباب المرض لتقوا أنفسكم واعتنوا بهم ليبقوا في خدمتكم، ولكن لا تنموا عليهم بفعلكم، ولا تزعموا أنكم أحسنتم إليهم بصنعكم، لأنكم تطيلون حياتهم فتطيلون معها عذابهم، ولو تركتموهم يموتون لكان خيراً لهم (هم) وأبعد للمتاعب عنهم.
أما إن الخطر على هؤلاء المساكين منا، والخطر على الأمة منهم من مرضهم وجهلهم وفقرهم، أشد من خطر (الكوليرا) فاعملوا على دفعه، واعلموا أنكم إن لم تحيوهم بما في طبيعة العروبة من مساواة، وما في أحكام الإسلام من عدالة؛ أوشكتم أن تخالفوا بفعلكم العروبة والإسلام، وأن تؤيسوهم منها، وأن تضطروهم اضطراراً إلى التفتيش عن مصدر آخر للأمل لعلهم يظنون (ظناً كاذباً) أنهم واجدوه في الشيوعية، فيكونوا شيوعيين، ويومئذ تكون الطامة الكبرى. . .
وانظروا هذا الوباء المروع، الذي أفزعكم وصدع خوفه قلوبكم، من أين جاءكم؟ تقولون: من الهند. . . نعم، ولكن ما جاء به حاج هندي، ولا تاجر ولا سائح، ما جاء به إلا هؤلاء الإنكليز، إنه لا يأتي منهم إلا الكوليرا، والصهيونية، وسورية الكبرى، فاعتبرا، وصدقوا، وانفضوا أيديكم منهم ومن مدارسهم، ومن بضاعتهم، إن الوباء الذي تنشره المدرستان الإنكليزيتان بجوارنا في الروضة، لا يقل عن هذا الوباء الذي تنشره معسكراتهم بجوار القنال، بل ربما كان شراً منه، لأن ذاك يقتل الأجساد، وهذا يفتك بالأرواح، ويعصف بما فيها من خيرات، ويذهب بما تنطوي عليه من حب لمصر وللعروبة وللاستقلال، ويجعل من أبنائها أعداء لها، فقاطعوا كل شيء إنكليزي، وأقيموا دونه سداً منيعاً، كهذا السد الذي تقيمونه دون (الكوليرا الإنكليزية)، وقفوا عليه الحراس الشداد، معهم الأسلحة المواضي، فلا ينفذ منه شيء إنكليزي قط، لا رجل ولا كتاب ولا فكرة ولا بضاعة ولا كوليرا ولا صهيونية ولا سورية الكبرى. . .
وبعد، فلا يبلغ بكم الجزع، فالخطب إن شاء الله يسير، والسلامة قريبة، والمرض زائل، وما أخشى على مصر المرض ولكن أخشى أن تنقشع السحابة، ويعود الصفاء، فننسى أن في مصر ملايين لم تصل إليهم هذه الحضارة، ولم يستمتعوا بشيء من متعها، ولم يصبهم من خير مصر إلا الأقل، وخيرها يصيب كل أجنبي عن مصر، آكِل لخيراتها كاره لها، مزدر لأهلها، وإن لهؤلاء حقاً صريحاً، حقاً أقرته الأديان والشرائع كلها، والإنسانية، وقواعد العدالة: هو أن يكونوا أصحاء الأجسام، متعلمين ما يفهمون به الخير من الشر، واجدين من المال ما يشترون به ضروريات الحياة. وننسى أن الله خلق الناس إخواناً، فلم يخلق بعضهم عبيداً لبعض، وأن عمرو بن العاص، أبطل العبودية من مصر وألغى (نظام الطبقات)، وسوْى بين الناس، في العهد الذي نسميه جهلا وغفلة عهد (القرون الوسطى)، وأنه من العار على الإنسانية وعلى الحضارة، وعلى مصر، أن تعود إليه مصر في (قرن العشرين).
وأن ننسى أن الإنكليز هم جاءونا بالوباء، وأنه لا يأتي منهم إلا هذا. . وأخشى أن نعود إلى معاملتهم وتحسين الظن بهم وبحضارتهم وأن لا نقطع على أنفسنا عهداً جازماً، مقسمين بقبور إخواننا هؤلاء الذين قضوا شهداء (الكوليرا الإنكليزية)، وبدماء شهدائنا الذين سقطوا صرعى على ثرى مصر برصاص الإنكليز من يوم وطئوا مصر غاضبين إلى هذه الساعة، وبأمجاد ماضينا، وأرواح أجدادنا، أننا سنقاطع كل شيء إنكليزي ولو كان الخبز الذي نأكله، والماء الذي نشربه، والهواء الذي ننشقه، وأن نموت أحراراً، إن لم نجد إلا حياة الذل حياة!
(القاهرة)
علي الطنطاوي