مجلة الرسالة/العدد 744/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 744/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 10 - 1947



عقليتنا المستعمرة!!

في المؤتمر الثقافي العربي الذي عقد أخيراً في لبنان، اقترح أحد الأعضاء أن يرسل المؤتمر بكتاب إلى مجلس الأمن يؤيد به قضيتي مصر وفلسطين، فنهض له الأستاذ فؤاد أفرام البستاني ورد اقتراحه بأن المؤتمر ثقافي ولا سياسي، فليس من شأنه أن يرسل بهذا الكتاب ولا من مهمته أن يقتحم هذه الأمور التي هي من شأن رجال السياسة. . فقال الراوي وكاد الأمر أن يتطور أو يتهور. لولا أن الأستاذ إسمعيل القابني بك رئيس وفد مصر حسم الأمر بلباقته فطلب تحويل كافة الاقتراحات إلى اللجان الخاصة. .

وليس هذا بالأمر الغريب، ولا هو مما يثير الدهشة، فإننا أبناء الشرق العربي قد مُنينا بالاستعمار الفاجر دهراً فهدم كياننا، وحكم قوميتنا، وحلل شخصيتنا، وكانت خدعته الكبرى في ذلك أن أقنعنا بأن الدين شيء لا يتصل بالدنيا، وأن العلم شأن غير السياسة، وأن السياسة خطة غير الوطنية، وأن الوطنية هي أن يجد الإنسان ما يملأ به بطنه. . وهكذا أصبحنا نحيا الحياة، إذا أخذنا في ناحية منها فإننا نستدبر جميع النواحي الأخرى ولا يمكن أن نجمع في ذلك بين طرف وطرف، وليس رأي أخينا أفرام البستاني إلا أثرا من آثار تلك الخدعة الاستعمارية التي نكبنا بها الاستعمار اللئيم. . .

ألا ليت الأستاذ أفرام يقول لنا ما قيمة هذه الثقافة وما جدواهما وما حاجتنا إليها إذا لم تحقق لنا حياة حرة كريمة، وإذا لم تحقق تلك العقبات التي تعترض طريقنا وتذل أعناقنا، وإذا لم تفعم نفوسنا بالقوة والشجاعة والبطولة، وإذا لم تخلق لنا شخصية واضحة وقومية متميزة، وإذا لم تكن صلتنا بالحياة وطريقنا إلى المستقبل وسلاحنا الذي نكافح به الظلم، أجل! ماذا تكون الثقافة إذا لم يكن كل هذا أثراً من آثارها في حياتنا ونهوضنا وفي نفوسنا وقلوبنا؟!

لقد رأينا في الحرب الماضية كيف كان العلماء يبذلون علمهم ويرهفون قرائحهم في سبيل نصرة أممهم، وكيف كان رجال الفكر والفهم يتصدون للدفاع عن أوطانهم ويخاطرون في ذلك أكثر مما يخاطر الجنود. . . بل نحن أبناء الشرق ندرك ونعرف أن الاستعمار لم يكن يسير في أي بلد من بلادنا إلى وراء خطوات مستشرق يتخذ العلم وسيلة للتحكم أو وراء مستكشف يجعل الاستكشاف طليعة للتملك، أو وراء مدارس وجامعات ينشئون فيها أبناءن على هواهم، ويبثون بها في نفوسنا من العقائد مثل ما يعتقد (السيد أفرام) من أن الثقافة لا شأن لها بالسياسة. .

إننا نجاهد للتحرر من الاستعمار السياسي والاقتصادي، وسنفوز بذلك لاشك، وإن التحرر منها علم الله لأسهل وأيسر من التحرر من استعمار آخر يكرب نفوسنا وينخر في عظامنا إلا وهو الاستعمار العقلي الذي يجب علينا أن نقاومه ونطارده وأن نعلن عليه حرباً لا هوادة فيها، فإنه السم القاتل والداء الدفين. .

الآباء والأبناء:

وقع في يدي تقرير اللجنة الأولى للمؤتمر الثقافي العربي فرأيت فيه اتجاهاً طيباً يدعو إلى الغبطة ويبشر بخير كثير، فقد أشار (بأن تكون الدراسات الاجتماعية أساساً لتدريس التربية الوطنية، على أن يشمل هذا الأساس إبراز الاتصال الجغرافي التام بين البلاد العربية وما كان لذلك من دور خطير في قيام الحضارات وتقدم الإنسانية)، كما تضمن الإشارة إلى الواجب في (إبراز دور الإمبراطورية العربية في التاريخ، وتوضيح الفكرة في أن العروبة لم تكن لدين ما، بل إنها كانت ولا تزال أمانة في عنق كل عربي، وأن التعصب لم يعرف في البلاد العربية إلا في العصور التي حكم فيها الأجانب) ثم ينوه التقدير (بالأخوة في العروبة والدعوة إلى التكتل والعمل على التذكير الدائم بمساوئ الاستعمار وضرورة اتخاذ النظام الديمقراطي أساساً في تنشئة الطالب).

وبعد أن أشارت اللجنة في تقريرها هذا إلى ضرورة تدريب الطلبة على أساليب الحياة المختلفة في ميادين التعاون الاجتماعي والرياضي والكشفي دعت إلى قيام اتحاد للطلبة العرب ومؤتمرات سلم ومخيمات كشفية ووضع أناشيد مشتركة وتبادل الطلبة العرب بين الأقطار العربية وإنشاء بيوت لعم في كل قطر عربي. .)

وما أريد أن أورد كل ما نضمنه ذلك التقرير، فقد تضمن تفاصيل مطولة، وهي تفاصيل تلتقي كلها في رغبة واحدة، هي تقوية الشعور بالقومية العربية في نفوس أبناء الجيل الجديد حتى لا تكون الوحدة العربية ميثاقاً مكتوباً في الورق، بل تكون دماً يتدفق في العروق.

إنه كلام طيب جداً، وإنما العبرة بالتنفيذ القريب، وحين نبدأ أول خطوة في هذا السبيل نكون في الواقع قد بدأنا السير لتحرير عقليتنا من إرضاء الاستعمار.

ولماذا ننسى أنفسنا:

اهتمت الصحف المصرية على اختلاف نزعاتها بتتبع (الكوليرا) كما يسمونها الآن أو (الهيضة) كما كانت تسمى من قبل، واهتمت إلى جانب ذلك بسرد تاريخ ذلك الوباء اللعين في مصر، وما كان له من هجمات عنيفة على المصريين، ثم ما كان لرجال الطب من جهود صادقة في مدافعته واكتشاف ميكروبه وتحدثت في هذا عما كان من حضور الدكتور كوخ الألماني إلى مصر عام 1883 على رأس بعثة طبية لاكتشاف هذا الميكروب وعما كان من وصول بعثة طبية أخرى من معهد باستور بفرنسا لمثل هذا الغرض، ولكن الصحف المصرية جميعها نسيت في هذا المقام جهداً مصرياً كان من الواجب أن يذكر، وكان من الواجب أن يرجع إليه رجال الطب عندنا فسيجدون فيه من التجارب المفيدة والخبرة النافعة ما لا يقل عن تجارب بعثة (كوخ) ولا بعثة (باستور).

ذلك أنه لما تفشى وباء الكوليرا في مصر عام 1883م وجاءت البعثات الطبية من الخارج لدراسة أحوال هذا الوباء وإثبات تجاربها عنه عكف المجلس الصحي في مصر هو الآخر على مثل هذا العمل وأخذ أعضاؤه يوالون البحث والتجربة بشأن هذا الوباء، وانقسموا في هذا إلى فريقين: فريق يرى أنه يتولد تولداً ذاتياً متى كانت هناك البيئة التي تساعد على وجوده ونموه، وفريق يرى انه لا يظهر في مكان إلا منقولا إليه من مكان آخر وكان على رأس هذا الفريق الدكتور سالم باشا سالم طبيب المعية الخديوية يومذاك، وقد جرت مناظرات بين الفريقين كانت أعنف وأشد من المناظرات التي قامت بين (كوخ) وأطباء ألمانيا في ذلك الوقت، ولكن الأطباء الألمان أخذوا يوالون البحث حتى وصلوا في هذا إلى ما نفعوا به الإنسانية وكانت حكومتهم تشجعهم على ذلك بألوف الجنيهات، أما الذي جرى عندنا فإنه بسبيل العبرة ويدعو إلى العبرة، ذلك أن الخديوي توفيق خشي يومذاك من امتداد المناظرة بين الفريقين فألغى مجلس الصحة وكفى الله الأطباء شر القتال. .

مضى ما مضى، فلن يجدي التحسر عليه، ولكن الذي يدعو إلى الأسف أن ما توصل إليه أطباؤنا يومذاك من نظريات وآراء، وحققوه في خبر كان، ولو كان رجال العلم عندنا يذكرون أنفسهم ويعتدون بشخصياتهم لكان في رجال الطب من عكف على موالاة ذلك البحث والبناء على ذلك الأساس الذي وضعه الأطباء المصريون فكان حقق لمصر في ذلك فخراً لا ينسى.

ولكن أين في أطبائنا اليوم من يذكر ذلك الجهد؟ أو يكون عنده شيء من خبره، أليس من العار أن يكون في مستشفى الإسكندرية غرفة اسمها (غرفة كوخ) تخلد بها ذكرى ذلك الطبيب الألماني وزيارته لمصر، ومع هذا فليس فينا من يذكر شيئاً عن أولئك الأطباء المصريين الذين بذلوا من الجهد، وأبدوا ما أبدوا من علم واسع وخبرة نافعة وتجارب انتفع بها (كوخ) وغير (كوخ) من الأطباء.

في ماضينا مواقف لابد أن نبني عليها حتى تترفع، إنها مواقف عظيمة مشرفة يمكن أن نعتز بها بين الأمم، ولكنا مع الأسف أمة تجهل ماضيها وتنسى نفسها!

(الجاحظ)