مجلة الرسالة/العدد 744/الهيضة بالهيضة تذكر:
مجلة الرسالة/العدد 744/الهيضة بالهيضة تذكر:
من ذكريات الطفولة
كنت في الثالثة عشرة من عمري حين وفد على مصر وباء الهيضة في سنة 1902، وكانت قريتنا الصغيرة الفقيرة تنقل خُطاها الوئيدة في طريق الحياة وادعة بالأمن، ناعمة بالرضا، هانئة بالقناعة.
كان المرض قليلا ما يغشاها، فإذا غشيها غشِى الكهل الضعيف. وكان الموت كثيراً ما ينساها، فإذا ذكرها ذكر الشيخ الهرم. لذلك كان المرض لندرته مرهوب الاسم، وكان الموت لوحشته مهيب الصورة. فإذا مرض الصحيح تجمع القوم في منظرته أو على مصطبته، يؤانسونه ويمرضونه ويدعون له؛ وإذا مات المريض لبسوا الحداد عليه العام كله، فلا يلبسون الجديد، ولا يحلقون اللحى، ولا يأكلون الفسيح، ولا يصنعون الكعك، ولا يباشرون المضاجع.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف على ما أذكر، قيل إن لأسرة فلان قريباً غريباً علموا أنه مريض فذهبوا ليعودوه فعادوا به.
وهو يشكو مرضاً لم يشكه أحد من قبل: ظمأ لا ينقعه ماء، وقيء لا يمنعه دواء، وإسهال لا يقطعه شيء. وفي الصباح الباكر نعته الناعيات فأجمعت القرية على الحزن عليه، وأقبلت الجيرة على العزاء فيه، ورسموا المأتم أسبوعاً كالعادة. إلا أن ثلاثة من أسرة الفقيد مرضوا تلك المرضة، وماتوا تلك الموتة، فلم يقوضوا سرادق العزاء، حتى أتى على جميع الأسرة الفناء. وصحا الناس من دهشة الروع وذهول الفاجعة، فإذا كل غرفة فيها مريض، وإذا كان ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، وإذا كل ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، فلا يُعاد محتَضر، ولا يشيَّع ميت، ولا يُعزى حي. وقال فقهاء القرية إنه الهواء الأصفر الذي أهلك الله به عاداً الأولى فهيهات أن يعصم الناس منه بيوت مغْلقة، أو حصون معلّقة.
فاستكان القوم للقضاء، وصفت قلوبهم من الحقد، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، وانصرف كل امرئ عن عمله في انتظار أجله.
كان الموت الوحِيُّ الذريع يخترم لِداتي في الحارة واحداً بعد واحد، فخلت الملاعب من الأطفال، وأقفرت المكاتب من الصِّبية. وكان شوقي إلى بعضهم يدفعني إلى أن أزورهم خلسة، فأجد فيهم من يكابد هول الداء وحده، فلا أبوه يخفف عن كبده سعار العطش، ولا أمه تسمح عن ثوبه رجْع القيء! لقد شغل كل إنسان بنفسه عن غيره، ولها كل بيت بكبيره عن صغيره.
ولكن (زهرة) اليتيمة زينة الصبايا وبهجة الحارة كانت في السواد من قلب أختها، وفي السواد من عين أخيها. مرَّضتها الأخت حتى أخذتها سكرة الداء، ومرَّضها الأخ حتى غشيته غمرة الموت. وبقيت (زهرة) الجميلة وحدها تنتظر النهاية المحتومة في حجرتها الموحشة على حصيرتها الخشنة. وكانت عمتها العجوز تزورها الحين بعد الحين لترمقها من بعيد ثم تنصرف. وكنت أكنُّ لهذه الفتاة نوعاً من الحب المبهم يختلط فيه الإعجاب والحنان والعطف. وكان بيتنا يشرب الماء مغلي فلم يصب أحد منا بسوء، فظننت أن الدواء في هذا الماء، فحملت منه قلة ثم دخلت بها عليها.
فلما رأتني افترت شفتاها الذابلتان عن ابتسامتها الحلوة. وأشارت بطرفها إلى الماء فجرَّعتها منه جرعة. ثم جلست بجانبها أرنو إلى العينين الغائرتين وقد كانتا كعيني الرشأ، وإلى الوجنتين الشاحبتين وقد كانتا في حمرة الورد، وإلى الجسد الضارع المشفوف وقد كان في غضاضة السوسن. ثم وضعتُ القلة مرة أخرى على فمها الجاف فرشفت منها رشفة، ولكن الماء وقف في حلقها فلم تستطع أن تسيغه. ثم شخص بصرها، وحشرج صدرها، وأخذها فواق ضعيف، ثم لفها سكون شامل!
لا أزال أذكر هذا المنظر المروع وأتمثله كأنه وقع أمس! ولا أزال أذكر أن تياراً من الرعب قد اعتراني، فعقل يدي وعقد لساني، فخرجت من الحجرة هارباً بنفسي لا ألوي على شيء، ولا أخبر أحداً بشيء!
وا حسرتا على قريتي الصغيرة الفقيرة! لقد جثم على صدرها الموت المائت حتى ختم على أكثر الدور، ونقل نصف أهليها من الدور إلى القبور!
كانت حالنا يومئذ غير حالنا اليوم؛ فلم يكن هناك مصل يفي، ولا علاج يشفي، ولا حكومة تطارد الوباء وتحصره، ولا أمة تتبع النظام الصحي وتنشره.
أحمد حسن الزيات