انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 743/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 743/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1947


3 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

في جنح الليل!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

ألقت بنا الباخرة إلى مرفأ عنيبة، وسط ضجيج الحمالين، وصيحات الركاب، وضوضاء البحارة، الذين شرعوا بمساعدة الحمالين ينزلون أمتعتنا، وأمتعة فضيلة قاضي عنيبة المنقول من إسنا إلى هذه البلدة النائية، والبضائع الكثيرة المرسلة إلى المدرسة من خضر، وفاكهة، وبعض العُلب والصفائح المليئة بالمسلى وغيره، مما لا يكاد يوجد منه شيء في عنيبة، ويجلبه المتعهدون من أسوان وغيرها من بلاد الصعيد الوفيرة الخيرات. .

ولم نجد في الحمالين شهامة ونجدة، ونشاطاً وإسراعاً إلينا، كما نجد هذا في حمالي القاهرة أو مديريات الوجه البحري، وبعض مديريات الصعيد مما يلي القاهرة، حتى ليهرع إليك عدد من الحمالين قد لا يكون إليك حاجة بهم، ومع هذا يكاد كل منهم أن ينتزع أمتعك منك، ويحملها عنك. . . وإنما وجدنا فيهم تباطؤاً وكسلا، وتوانياً، جعلنا نصرخ فيهم، ونشتد معهم في المعاملة، ونقسو عليهم في القول، وهم يتهربون، ويتسللون لواذاً، وكأنما نريد أن نستغلهم استغلالا، وأخيراً قالوا لنا: دعوا أمتعتكم، واذهبوا إلى المدرسة، وسنوافيكم بعد مدة، عندما ترحل الباخرة. .!!

ونظر بعضنا إلى بعض نظرات ملؤها الدهش والعجب، والحيرة والارتباك، إذ كيف ندع أمتعتنا على الشاطئ بين فئة لا ندري من أمرها شيئاً؟! وكأنما زاد مخاوفنا ظلام الليل، الذي لم تجد أضواء الباخرة شيئاً، بل كانت هذه الأضواء مع قوتها ضعيفة واهنة، وكأنها أشعة خافتة لنجم كليل!! وكانت أمواج النيل الصاخب، تضطرب في عنف، وترتفع إلى حيث نقف مع الجموع المستقبلة للباخرة وتقبل منا الأقدام، في ثورة خانقة، وغيظ صارخ فتبلل أحذيتنا، ولكنا من فرط ما نحن فيه من دهشة وعجب واستغراب، لا نكاد نشعر بهذه الأمواء، ولا نحس لها أثراً؟!

وضاقت صدورنا. لأننا وقد أثقلتنا هذه الأحمال والأمتعة، لا نجد من يسرع في حملها حيث نريد. . وتطلعنا حوالينا، فلم نجد إلا النيل شرقاً، رحباً مخيفاً، والجبال غرباً، بشبحها المظلم القاتم، وكأنها حراس علينا، تشرع في وجوهنا أسلحة لا نطيق لها صبراً، ولا عليه احتمالا، فيقينا هكذا مدة، ثم عارض بعضنا في هذا، وسكت البعض الآخر مقتنعاً بهذه المعارضة، ولكنا في النهاية لم نجد مناصاً من الرضوخ لهذه الرغبة، والنزول على هذه الإرادة مكرهين، فلقد اتجهت إلينا الأنظار متعجبة دهشة، وكأنها تقول: علامَ التشكك والارتباك، وعلام الخوف والاضطراب وهذه البلاد لا موضع فيها لخائن الأمانة، أو ناكث للعهد، أو خافر للذمة؟!! وكأنما كانت هذه النظرات ألسنة ناطقة، لا نظرات صامتة، فسرعان ما شعرنا جميعاً بالتخاذل والخجل، ومضينا إلى حيث نريد. .

سرنا على الميناء متجهين إلى المدرسة كما أشار لنا بعض الواقفين، وميناء عنيبة جسر ممدود إلى داخل النيل، نهايته على الشاطئ الأصلي للنيل، فإذا جاء الفيضان، وارتفعت مياه النيل خلف الخزان في نوفمبر تقريباً من كل عام، وجدت الميناء عبارة عن لسان طويل جداً، ممدود حوالي ثلاثمائة متر، وعرضه متران تقريباً، فإذا ما زاد الفيضان، غمر هذا اللسان، ورست البواخر على الشاطئ الجديد، الذي يظل الماء عنده إلى أوائل مايو، ثم يأخذ في الانحسار مرة أخرى حتى يصل إلى الشاطئ القديم، فيضيق النيل كثيراً. وحول الميناء شاهدنا بضع عوامات، وعلمنا أنها كلها تابعة لوزارة الأشغال (مصلحة الميكانيكا والكهربا)، وأن منها ما يستعمل كـ (عنبر) صغير به مضخات لرفع مياه الشرب من النيل إلى محطة الطلمبات الخاصة بهذه العملية في مستعمرة عنيبة. ومنها ما يستعمل كمنازل صغيرة لغير المتزوجين، ومنها ما يستعمل للصيانة، فيكون أشبه بمصنع صغير متنقل، وهذا لا يرسو في عنيبة دائماً، وإنما ينتقل بين محطات المركز كبلانة والدكة وغير ذلك.

كان الظلام حالكا، والسكون شاملا، ولم يكن هناك أثر لشعاع من النور، وخاصة وقد صفرت الباخرة، وأطفأت مصابيحها الأمامية (الكشافات) التي لا تضيئها إلا عندما تريد الإرساء في محاط المركز. . أما عندما تسير فلا تستطيع أن تنير هذه المصابيح، لأنها بانعكاسها على الماء، واضطراب صفحة الماء، تدع الربان لا يستطيع أن يتبين طريقه، ولا يعرف كيف يسير!

مضينا نضرب في الرمال على غير هدى، لا نكاد نرفع رجلا حتى تغوص أخرى، الأمر الذي أوهن قوانا، وأضف عزائمنا، فقطعنا المسافة من الميناء إلى المدرسة في ساعة ونصف تقريباً، بينا هي لا تتجاوز الألف متر.

وشعر كل منا بتقصير المدرسة في حقنا، فكان الواجب. يقضي بأن ترسل في انتظارنا أحد فراشيها، وهم كثر على ما سمعنا، كدليل على الأقل يكفينا مؤنة السؤال عن الطريق وسط هذا الظلام الحالك، الذي لم يجدنا معه السؤال شيئاً، إذ أن كل شخص نسأله لا يحرك ساكناً بل يكلمنا في هدوء وسكون وهو جالس دون مبالاة، مما جعلنا نغلظ القول لبعضهم، وكدنا نعتقد أن كل الأهلين على هذا الوضع من الخمول المعيب، والكسل الأليم.

ودفع هذا الوضع الشاذ بعض الزملاء إلى الصراخ وسط هذه الفلاة القاتمة، بألوان من السباب والغيط، والنقمة والثورة، ولكن الصوت كان يتردد صداه في وحشة مرهقة، وكأنما نحن نسير في مقبرة مهجورة تعبث فيها الجن، ومردة الشياطين فساداً وتنكيلا بالناس. .!!

وأخيراً وصلنا إلى المدرسة بعدما أرشدنا خفير المستشفى الذي اضطر لذلك اضطراراً حينما كدنا نضل الطريق نهائياً. . وفتحت لنا المدرسة أبوابها، وكنت لا تسمع فيها حركة ولا صوتاً، على الرغم من نوم التلاميذ، وكثرة عددهم، الذي يربي على خمسمائة تلميذ. واستقبلنا مشرفان فاضلان، وجدنا في سماحتهما ولطف حديثهما ما هوّن علينا ما قاسينا من مصاعب، في هذه السفرة الشاقة، والرحلة المضنية، وخاصة وأن أكبر مسافة قطعتها قبل أن أنقل إلى هذه البلاد، هي المسافة ما بين القاهرة والإسكندرية، والتي لا تتجاوز الأربع الساعات. .

وجال معنا المشرفان قليلا في أنحاء المدرسة، بالقدر الذي يسمح لنا بتعرف ما حولنا، ورؤية المكان الذي سنبيت فيه، لنكون على خبر به، وبينة من أمره وبخاصة ومعنا صبي صغير هو نجل أحد الزملاء، وقد سمع هذا الصبي عن عقارب عنيبة في الباخرة ما جعله ينكمش في نفسه طوال المدة، ولا يكاد يضع رجليه على الأرض، خشية أن يناله مكروه، فبقى شارد الطرف، حائر الفكر، مضطرب الشعور، لا تكاد تكلمه حتى تدرك مبلغ ما يعانيه من حيرة وارتباك. . . وكان الظلام ناشراً لواءه على المدرسة كذلك، وكانت هذه المصابيح الهوائية الضئيلة، تبعث الضوء خافتاً باهتاً، وكأنما هو خائف مضطرب، يخشى صولة الظلام القاهر، ووحشة الليل المخيف. . .

والمدرسة كما علمنا لا تضاء بهذه المصابيح الهوائية المنتشرة في كل ناحية من نواحيها، والتي تشتعل بزيت النفط، بل تضاء بالكهرباء فلها مولد كهربي خاص، إلا أنه يدور قبيل الغروب من كل يوم، ويتوقف عن الإدارة في الحادية عشرة مساء، إلا إذا دعا الداعي، لأن يبقى مدة أطول، ساعة أو ساعتين حسب الحاجة إليه، بأن أقيمت في المدرسة حفلة للسمر، أو لتوديع بعض الزائرين، وانتظار الباخرة التي ستقلهم إلى الشلال، إذ أن ميعاد بعض البواخر وهي السريعة، الواحدة والنصف صباحاً، أو الثانية أحياناً، ولكن لابد للمسافر من أن ينتظرها ابتداء من الثانية عشرة أو قبل ذلك، فربما تدفعها الريح مسافة تتقدم بها ساعة أو ساعتين!! أقول وفي هذه الظروف تبقى الإنارة حتى تنتهي الحفلات، أو المناسبات، ثم تشعل المصابيح على الأثر. .

وما كاد يستقر بنا المقام، حتى جاء الحمالون، ومعهم أمتعتنا، يحملونها على الحمير النحيفة العجفاء، فكان هذا دليلا عملياً على ناطقاً بالأمانة الشاملة في هذه البلاد!

عبد الحفيظ أبو السعود