مجلة الرسالة/العدد 743/حول جدل في الجامعة
مجلة الرسالة/العدد 743/حول جدل في الجامعة
قرأت اليوم وأنا بريف الشرقية حديثاً للأستاذ الفاضل (العباس) تحت عنوان (جدل في الجامعة)
ولما كان هذا الحديث يخصني لأنه يدور حول رسالة قدمتها كتبت هذا إليكم رجاء التفضل بنشر هذه الكلمة ليقف القراء على جلية الأمر وليعرفوا الخطأ من الصواب.
وقبل أن أبدأ الحديث ألفت الذهن إلى أنه ليس من الحق في شيء أن الأستاذ أحمد أمين قد عاب الرسالة لضعف في منهجها ولا لإنكار ما فيها من حقائق علمية، ولقد كان كل ما صنعه أن لفت ذهن الجامعة إلى أن مناقشة الرسالة قد تثير ضجيجاً لما فيها من أفكار وآراء.
يتلخص موقف الأستاذ أحمد أمين في هذه المسألة وهو في هذه يعتبر متضامناً مع الأستاذ الشايب ومن هنا يكون حديثي مع واحد منهما حديثاً مع الآخر.
وإذا كان الذي يهم الجمهور من هذه المسألة هي المسألة الدينية فقد قصرت حديثي عليها ليرى القراء أن ما قلته في الرسالة هو الذي يتفق مع الدين ويجري ومقاصده.
وأحب أن يعلم القراء أني قد التزمت في هذه الرسالة أمرين
الأول: - ألا أثبت حقيقة ينكرها الدين وسجلت ذلك في الرسالة حيث قلت في ص 21 ما نصه (وأعتقد أن من حقنا أن نقف وقفة قصيرة نشرح فيها هذه العلاقات لنقدر ما في القرآن من معان تاريخية تقديراً لا ينكره الدين) انتهى بنصه.
الثاني: - أني التزمت في استنباط ظواهر القصص القرآني طريقة الاستقراء ومن هنا كانت كل حقيقة أدبية أثبتها مستمدة من القرآن الكريم. ولقد سجلت ذلك أيضاً على نفسي حيث قلت في الرسالة ص 23 (والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجو القرآني لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية. وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يستثار ذلك لأن ما قررناه من صلة بين التاريخ والقصة يعتمد على ظاهرات في القصص لوحظت حديثاً وقررت على أنها بعض التقاليد الأدبية التي تصور ما للقاص من حرية والقرآن أقدم من هذه الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد.
على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء إذ لكل قاص مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار ولن يقرر ما في القرآن من قيم إلا واقع أدبي ألتزمه القرآن نفسه أو على أقل تقدير حرص عليه وهو قول له وجاهته فيما نعتقد ثم هو يلزمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعه العملي).
وعلى هذين لا يتصور متصور أن يكون القصد من الرسالة الخروج على الدين أو القول بما ينكره.
ولقد قلت في الرسالة إن قصد القرآن من قصصه لم يكن إلا العبرة والعظة وليس منه مطلقاً تعليم التاريخ أو شرح حقائقه ومن المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن.
على أن هذا القول قد قال به الأستاذ الإمام، وقد نقله عنه صاحب المنار في مواطن كثيرة من كتابه فقد جاء في الجزء التاسع ص 374 طبع سنة 1342هـ ما يأتي (إن الله تعالى أنزل القرآن هدى وموعظة، وجع قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة لا تاريخ شعوب ومدائن ولا تحقيق وقائع ومواقع).
وجاء في الجزء الثاني ص 205 طبع سنة 1350هـ ما يأتي (فإن قيل إن التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الأخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر؟
والجواب ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم لبيان سنن الله تعالى فيهم إنذاراً للكافرين بما جاء به محمد ﷺ وتثبيتاً لقلبه وقلوب المؤمنين به (وسترى ذلك في محله إن شاء الله تعالى) ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها وإنما يذكر موضع العبرة فيها) انتهى بنصه.
على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه. ولقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير طريقة السلف وطريقة الخلف.
أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع.
وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام وهذا هو نص المنار في وصف هذه الطريقة عند تفسيره لقصة آدم من سورة البقرة.
(وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه إن القرآن كثيراً ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير فهو يدعو بها الأذهان إلى ما وراءَها من المعاني) ص 280 جـ1 طبع سنة 1346هـ.
ويمضي صاحب المنار في شرح هذه الحقيقة إلى أن يقول: قال الأستاذ الإمام ما مثاله. وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا. إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه. الخ القول إذا بأن بعض القصص القرآني قصص جيء بها لتمثيل المعاني قول معروف لدى رجال الدين وطريقة معروفة لدى المفسرين، وجرى عليها إمام من أئمة الدين هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
جريت أنا على هذه الطريقة يدفعني إليها غرض ديني هو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين. وتفسير المسألة يرجع إلى أن هؤلاء يبحثون عن العلاقة بين القصص القرآني والتاريخ اتفاقاً واختلافاً وينتهون من ذلك إلى أن في القرآن أخطاء تاريخية.
أما موقفي فيتلخص في أنه الدراسة على هذا الأساس خاطئة لأن القصص القرآني لا يدرس على أساس أنه قد جاء لتعليم التاريخ أو شرح حقائقه وذلك حيث قلت في ص 5 (كما نجد المستشرقين يلجون من نفس الباب فيطعنون على النبي والقرآن حين يوردون بعض الاعتراضات وحين يذهبون في فهم القصص القرآني مذهب أصحاب التاريخ فيبتعدون بذلك عن المذهب الحق في فهمه وهو أنه قصص وقصص ديني يقصد منه غير ما يقصد من التاريخ.) مذهب الأستاذ إذا هو الذي يجنبنا كل هذه الأشياء ومن أجل هذا اعتمدته وجريت عليه.
ومن أجل هذا قد ينال القارئ العجب من أن يقف الأستاذان مني هذا الموقف. لكن للمسألة سراً قد يتضح لدى القارئ بعد قليل.
وتبقى بعد ذلك مسألة الأساطير.
وهي مسألة حلها القدماء من المفسرين وهو حل يجري مع ما يقول به الأستاذ الإمام في تفسير القصص القرآني.
لقد فهم الرازي ما يقول به المحدثون من الأدباء من أن الأسطورة أداة من أدوات التعبير لا تقصد لذاتها وإنما تقصد لما تمثله من المعاني وتدعو إليه من الأغراض وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) من سورة يونس إذ قال (واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لهما).
وهنا نحب أن نلفت الذهن إلى أن القرآن يعني من الأسطورة القصة التي لم ترد في الكتب السماوية السابقة عليه وليست بحال من الأحوال القصة التي لا أصل لها ولا القصة المخترعة ومن أجل هذا كانوا يقولون أساطير الأولين اكتتبها. أن لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.
على أن المسألة كما وضحت في الرسالة تتفق وما قال به علماء أصول الفقه.
قال هؤلاء بأن في الأديان السماوية عناصر خالدة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والمناسبات وهذه هي التي بقيت في الإسلام.
وفيها عناصر تتغير بتغير الظروف والبيئات هي التي خالف فيها القرآن غيره من الديانات.
وقلت بأن المسألة الأدبية تجري على هذا الأساس. عناصر خالدة ثابتة كالأشخاص والأحداث وهذه قد بقيت في القصص القرآني كما كانت في قصص غيره من الكتب السماوية.
وعناصر يجوز عليها التغيير والتبديل كالمسائل التي يدور حولها الحوار.
وهذا هو الأمر الواضح تماماً من صنيع القرآن.
وأعتقد أن الأمر الذي وقع في الدين ليس من الغريب أن يقع مثله في القرآن.
هذه هي نظريتي في القصص وهي نظرية تعتمد على طريقة الخلف ومذهب الأستاذ الإمام.
وهذه هي نظريتي في الأساطير وهي تتفق وما ذهب إليه الرازي وتجري مع مذهب الأستاذ الإمام والمذهب الأدبي في أن الأسطورة أداة من أدوات التعبير. ثم هي على التفسير الذي جرينا عليه تشبه إلى حد كبير التفسير الذي جرى عليه الفقهاء فيما يخص الأديان.
وليس من الحق في شيء أن نجيز في الدين ما لا نجيزه في الأدب مع أنه الأمر الذي قال به المفسرون وجروا عليه في تفسير القرآن.
المسألة لا تحتاج هذا الضجيج. لكنها العصبيات فأساتذة الجامعة يتعصبون ويحتزبون كما يتعصب ويتحزب رجال السياسة.
وإذا كان الأستاذ الخولي قد رفض رسالة الأستاذ المحاسني فيجب أن ترفض رسالة خلف الله.
هذه بعض مسائل الرسالة نشرتها لأنها تهم القراء أما ما بقى فستعلمونه في القريب العاجل إن شاء الله.
محمد أحمد خلف الله