مجلة الرسالة/العدد 742/رحلة إلى الهند

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 742/رحلة إلى الهند

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1947


8 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

قطب منارة (منارة قطب)

على عشرة أميال إلى الجنوب من دلهي بين أطلال دلهي الغابرة يقوم مسجد قوّة الإسلام. ومنارة قطب (قطب منارة).

بناهما قطب الدين أيبك. وكان قطب الدين هذا مملوكا للسلطان محمد الغوري الذي مدّ فتوح الغزنوبين في الهند حتى فتح شماليّ الهند كله. واتخذ مدينة دلهي داراً للولاية. وولّى قائده قطب الدين علي، فتح من الهند.

فلما توفى الغوري سنة 602هـ استقلّ هذا الوالي بما وليه من الهند، وتمّلك عليه. وهو أول ملك مسلم ينشأ ملكه داخل الهند ويقتصر على أرض هندية. فأول دولة فتحت الهند وهي الدولة الغزنوية نشأت في أفغانستان وكانت غزنة دار ملكها.

ثم غلبها عليها الغوريون فاتخذت لاهور داراً. والدولة الغورية نشأت في إقليم الغور من أفغانستان ثم غلبت الغزنويين على البلاد واقتفت آثارهم في فتح الهند.

فالدولة التي أقامها قطب الدين أيبك - دولة المماليك - أو دولة إسلامية نشأت في الهند.

وكانت دلهي دار سلاطينها وسلاطين أربع دول أخرى توالت بعدها حتى فتحها بابر مؤسس الدولة التيمورية سنة 932هـ وقد تسلطت دولة قطب الدين هذا زهاء ثمانين عاماً.

وكأن قطب الدين أراد أن يثبت سلطان الإسلام في الهند ويظهر عظمته بإقامة الأبنية الضخمة الرائعة. فأنشأ هذا المسجد وسماه (قوّة الإسلام). وأقام فيه هذا البرج العجيب المسمى منارة قطب. وهو في رأي الخبراء بالعمارة أعظم برج في العالم.

أدَع البرج إلى أن ألقى نظرة جامعة على هذا الجامع الفسيح.

لا تزال بقايا الأسوار والعَمَدِ والقباب تحدّد مساحة الجامع. وقد زاد فيه من بعد شمس الدين التتمش الذي تولى الملك بعد قطب الدين (607 - 633هـ) وعلاء الدين الخلجي (695 - 716هـ) حتى صار فيما أظن أوسع جامع في العالم.

واليك صورته الحاضرة كما يراها من يدخل من الباب الشرقي المقابل للقبلة تدخل من باب في بقايا سور إلى ساحة واسعة تمشي فيها قليلا ثم تصعد دَرَجاً إلى مستوى آخر فترى ذات اليسار المنارة وقبة جميلة على باب من أبواب المسجد، ويقال أنها سميت (قبة الإسلام) وبها سمى هذا المسجد (قبة الإسلام) لا قوة الإسلام.

ولكن لا يلتفت الداخل إلى هذه القبة فيسير إليها يهبط على الدرج الذي تحتها إلى المدخل فيستغرق في تأمل علوها وجمال هندستها ونقوشها لا يستطيع أن يفعل هذا قبل أن يطمح بصره معجباً مرتاعاً إلى هذه المنارة الشاهقة العجيبة. وسأحدث القارئ عنها بعد طواف سريع في هذا المسجد العظيم؛ بل هذا المجد الأبيّ والمآثر الخالدة التي تأبى أن تُقِرّ للخطوب على كثرة ما نالت منها.

وإذا نظر الداخل إلى اليمين رأى كومة من الحجر هرميّة هي أساس خرِبٌ لمنارة حاول أن يناظر بها منارة قطب علاءُ الدين الخَلْجي حينما زار فسحة الجامع. ولم يتهيأ له إكمال المنارة. وفي الساحة قبور لم أعرف عنها شيئاً.

ويمشي الزائر إلى المصلى فإذا ساحة فيها ثلاثة أروقة ذات طبقتين على عَمد صغيرة. وإذا تأمل النقوش على هذه العَمَد رأى صُوَر حيوان وناس. وقد نقلت العمد من معابد هندية قديمة. وفي جهة القبلة من المصلى عمود من الحديد قطعةٌ واحدة طوله ثلاثة وعشرون قدماً. ومحيطه قدمان وهو من أقدم الآثار الهندية في دلهي أو أقدمها عليه كتابة تشيد بمآثر أحد أمراء الهند القدماء. وتاريخه يرجع إلى سنة 400 ق. م.

وتمضي بعد هذا العمود جهة القبلة إلى عقد رفيع جداً يُفضي إلى القسم القبليّ من الجامع وقد هُدِمت جُدُره.

وينزل السائر جهة الشمال إلى الساحة التي زادها على المسجد شمس الدين التتمش وهي مساحة لا بناء فيها اليوم. وينظر شطر القبلة إلى حجرة عالية سقطت قبتها وفي وسطها ضريح رهيب هو ضريح ايلتتمش. وفي الحجرة ثلاثة محاريب أكبرها أوسطها وعلى المحاريب آيات من القرآن منحوتة بخط واضح. في وسط المحراب الكبير (إنه لقرآن كريم - الآية) وعلى حافته: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - الآية).

قد قرأتها ومن معي من وفود المؤتمر يتعجبون من مصري يقرأ خطاً أثرياً في دلهي، حتى عرفتهم أنه كتابي ولغتي.

وبعد ساحة التتمش ساحة زادها السلطان علاء الدين الخلجي. وليس بها إلا حطام البناء الشامخ أنحت عليه يد الزمان.

ثم منارة قطب إحدى عجائب الأبنية في الهند بل العالم كله منارة جليلة رفيعة تعلو في الجو 234 قدماً بعد أن سقطت ذروتها. وهي خمس طبقات تنتهي كل واحدة بشرفة دائرة حول المنارة. ولها درج واسع صعدت فيه إلى الشرفة الأولى مائة وخمسين درجة.

والمنارة في شكل مخروطي. والطبقة الأولى لها واحد وعشرون ضلعاً تختلف أشكالها بين مدور على هيئة نصف دائرة يليه محدد على شكل زاوية قائمة. وهكذا على التوالي. والطبقة الثانية كل أضلاعها مدورة. والثالثة أضلاعها على زاوية قائمة ثم طبقة ملساء والخامسة مضلعة تضليعاً خفيفاً يكاد لا يرى

شاد المنارة قطب الدين أيبك حوالي سنة 600 من الهجرة وكان لا يزال نائباً عن السلطان محمد الغوري وأتمها مملوكه وصهره وخليفته إلتتمش الذي ذكرناه آنفاً. وقد تصدعت طبقتها العليا بصاعقة في القرن الثامن في عهد فيروز شاه فرّمها ثم سقطت هذه الطبقة في زلزال سنة 1803م. وقد رأينا على مقربة من الجامع برجاً صغيراً مستطيلا له أربعة أركان بينها أبواب علوه نحو خمسة أمتار. وقيل لي أنها صنعت في عهد الإنكليز لتوضع على المنارة تكملة لها. فلما وضعت ألقيت غير ملائمة لها فأنزلت.

وحول المنارة كتابة عربية منها آيات من القرآن وقد جعلت نطاقات جميلة زادت في جمال المنارة وجلالها. وقيل لي إن الكتابة قد نحتت على أحجام مختلفة ونِسَب متعددة تجعل الرائي يراها في حجم واحد ما بعد منها وما قُرب. كلما بعدت الكتابة زاد حجمها على نسبة بعدِها.

وألوان المنارة تتوالى في طبقاتها من أحمر إلى ورد إلى أصفر قاتم يلائم زرقة السماء في فن الجمال.

والخلاصة أن في هذه المنارة من إبداع الهندسة، وإتقان الصنع، وجمال الشكل وفخامته، وحسن النقش والخط ما يسير رائيها طائفاً، أو يمكسه واقفاً، يصعد الطرف ويصوبه في إعجاب بل دهش من هذا الأثر الخال الذي جعله المسلمون فاتحة آثارهم العظيمة في الهند. فكان جديراً أن يكون عنواناً لكتاب الحضارة الزاهرة الذي خطه تاريخهم فيها.

عبد الوهاب عزام