مجلة الرسالة/العدد 741/الدولار
مجلة الرسالة/العدد 741/الدولار
للأديب عمر حليق
الدولار ورقة خضراء اللون تطبع بطريقة سرية من مركب كيماوي غريب. ويبلغ طولها 6. 14 انشاً وعرضها 2. 61 انشا.
ويبلغ سعر الدولار (ذهب معدن) 35 بالمائة من سعر أوقية الذهب.
وتطبع الحكومة الأمريكية من الدولارات 2482000 دولار يومياً، وتجمع الحكومة كذلك من الأسواق دولارات بالية تعادل قيمتها مبلغ الدولارات المطبوعة يومياً.
وينفق الأمريكيون كل يوم 437 مليون دولار لتسيير أعمالهم وحياتهم اليومية. ويشكو الأمريكيون كل يوم أن الدولار أصبح لا يساوي قيمته الشرائية كما عهدوه في السنين الماضية. وتبلغ هذه القيمة 58 بالمائة من قيمة دولار سنة 1939.
ومع ذلك فإن الدولار هم اليوم أهم وثيقة مطبوعة عرفها تاريخ العلاقات السياسة. هو سلاح مارشال في محاربة التوسع الشيوعي وسلاح رجال الأعمال في (وال ستريت) للتسرب إلى معاقل الاشتراكية في أوروبا لحفظ النظام الاقتصادي المطلق الذي تؤمن به الرأسمالية الأمريكية.
والدولار الأمريكي هو أساس بلية بريطانيا وأزمتها الاقتصادية وهو الشبح المخيف الذي يقلع مضاجع القارة الأوروبية المحطمة.
وقد لعب الدولار في الأيام الأخيرة دوراً هاماً في سياسة العالم. فقد كانت قلته في بريطانيا داعياً لها لانتهاج سياسة مالية جديدة متباينة جوهريا مع سياستها التقليدية في الداخل والخارج.
فالدولار مثلا هو العقبة الكبرى في سبيل اتفاق أمريكا وبريطانيا وفرنسا حول مستقبل فحم الرور الألماني.
والدولار هو السوط الذي جمع أقطاب السابة والاقتصاد في أوروبا على طاولة واحدة لأول مرة في تاريخ أوروبا الحديث.
على هذه الطاولة التقى الجائع مع الاستعماري، والشيوعي مع المحافظ العتيد والاشتراكي مع أولئك الذين يميلون إلى أقصى اليمين.
ولم يحتج الدولار لأكثر من إشارة متواضعة في اليونان لأن يسقط الوزارة الملكية بعد أن ثبت لرؤساء بعثة ترومان التي تشرف على اتفاق مساعدة أمريكا لليونان بأن الحالة السياسة والاقتصادية هناك تتطلب حكومة اميل إلى الوسط منها إلى اليمين المتطرف.
وليست قيمة الدولار مردها إلى قيمة الذهب الأصفر الذي في استطاعته ابتياعها، فليس هناك من يبادل الدولار بالذهب سوق تجار المجوهرات وأطباء الأسنان الذين يستبدلون الأسنان العفنة بأخرى ذهبية ولكن قيمة الدولار تعود إلى كمية البضائع والسلع التي يستطيع ابتياعها في أسرع وقت ممكن - والعالم بأسره في حاجة إلى السلع والبضائع. فالدولار إذن سيد الموقف في العالم.
وللدولار قوة سحرية في توفير الفحم والوقود السائل والآلات ووسائل النقل ولقد جمعت الولايات المتحدة الأمريكية في يدها الدولار وقوة الدولار السحرية وما يعادله من سلع ومنتجات ذلك لأن الحرب المنصرمة تركت أمريكا في حالة عكس ما تركت به أوروبا - بلد يضيق به إنتاجه الصناعي بسبب التضخم في الإنتاج الذي جاء وليد توسع المجهود الحربي وما استلزمه من صناعة موسعة على نطاق لم يعهده التاريخ.
ولكن المصيبة أن موارد العالم - خارج أمريكا - من الدولارات شحيحة خفيفة. ومع أن أمريكا منحت العالم الخارجي 20 بليوناً من الدولارات في شكل هبات ومساعدات وقروض إلا أن ما بقى لدى العالم الخارجي من هذا المبلغ الضخم لا يتعدى خمسة - أربعة بلايين دولار لا غير! ولا يزال استنفاد الدولارات جاريا بسرعة فائقة.
وتبتاع أمريكا من العالم الخارجي كل شهر ما مقداره 80 مليون دولار ولكنها تبيعه ما تبلغ قيمته بليون و 800 مليون دولار!
وإزاء هذا الموقف الخطير وجدت أمريكا نفسها أمام أمرين
(1) إما أن تستمر في هذه الحالة فتزداد غنى على حساب أوروبا المحطمة وهذا بالطبع يضعها في موقف الرأسمالي الجشع ويدفع أوروبا والعالم من دوراها إلى أحضان الاقتصاد المنظم والمساواة الاقتصادية - الشيوعية.
(2) وإما أن تستنبط الولايات المتحدة طريقة عملية لإعادة قوة أوروبا الاقتصادية والتجارية لتستطيع أن تزيد من تصديرها إلى الولايات المتحدة فتحصل على دولارات أكثر تستورد بها من الولايات المتحدة بضائع وسلع فيستفيد الإنتاج الأمريكي ويظل على مستواه الضخم ويساعد على استيعاب العمال وتقوية الصناعة وإبقاء الانتعاش التجاري على حالته السليمة.
واختارت الولايات المتحدة الطريقة الأخيرة ولوحت لأوروبا به بما دعته (مشروع مارشال).
وبقى سؤال واحد على ألسنة ساسة الدول: هل توافق السلطة التشريعية الأمريكية (الكونغرس) على مشروع مارشال هذا فتزداد قوة الدولار السحرية في السياسة الدولية أم ينتصر أنصار العزلة في أمريكا وتبقى للدولار سلطته الاقتصادية المجردة من بلاغة السياسيين وألاعيبهم الشيطانية وتظل الولايات المتحدة سيدة العالم في الحياة المادية البحتة أم أن يزداد العم سام خيلاء فيضم إلى الاقتصاد مزامير العظمة السياسية. .
وهل السياسة غير ضباب التمويه الذي ينشره الاقتصاد ليعمي الأبصار عن قساوة الاقتصاد المجرد.
وهل في (البرجماتزم) الأمريكي مجال أخصب لهذا الدور الذي يحلو للدولار الأخضر أن يلعبه وأوروبا والقسم الأكبر من العالم معها يعاني آلاماً حادة في المعدة ودواراً شديداً في التفكير السياسي.
عمر حليق