مجلة الرسالة/العدد 740/ما أعرفه عن فارس الخوري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 740/ما أعرفه عن فارس الخوري

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 09 - 1947



للأستاذ علي الطنطاوي

أقيمت في ردهة المجمع العلمي العربي في دمشق، من نحو عشرين سنة، حفلة لتكريم حافظ إبراهيم حضرتها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في مطلع الشباب نقصد هذه الحفلات لننقد الخطباء، ونبتغي لهم المعايب، فمن لم نعب فكرته عبنا أسلوبه، ومن لم ننقص إنشاءه انتقصنا إلقاءه، وخطب كثيرون في الحفلة، وقال فيها حافظ بيتيه المعروفين:

شكرت جميل صنعكم بدمعي ... ودمع العين مقياس الشعور

لأول مرة قد ذاق جفني ... على ما ذاقه طعم السرور

ولم يسلم من ألسنتنا. . . . وكان فيمن خطب رجل قصير القامة، عظيم الهامة (جداً) ابيض الشعر، ألقى قصيدة لا أزال أذكر أن مطلعها، كان:

ليالي التصابي قد جفاني حبورها ... ولمّتي السوداء أسفر نورها

ومن لي بإنكار الحقيقة بعد ما ... تجّلى على وجهي وفودي نذيرها

تذكرت أيام السرور التي مضت ... فياليت شعري هل يعود سرورها

لدن لي مع الأصحاب سهم مسدّد ... وحظي من ريم الكناس غريرها

أسفت على عهد الشباب ولم تعد ... تثير فؤادي مقلة وفتورها

وأدتني الأيام من هوّة الونى ... فاصبح مني قاب قوس شفيرها

وكادت صروف الدهر تطوى صحائفي ... وهل بعد هذه الطي يرجى نشورها

إلى أن. . . . .

وتخلص إلى لقاء حافظ، وقال إنه جدد له عهد الشباب. . . وهو قصيدة طويلة لا أرويها وكان صوته قويا على انخفاض مدويا على وضوح، كأن له عشرة أصداء تتكرر معه، فتحس به يأخذك من أطرافك ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأذنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد يدك تلمس فيه (شيئا) ضخما. . . على صحة في المخارج، وضبط في الأداء وقوة في النبرات وثبات في المحطات واعتداد بالنفس عجيب، تشعر به في هذا الصوت الذي يكون له هذا الدوي كله، وهو يخرج من فم صاحبه باسترسال واسترخاء لا يفتح له شدقه لا يحرك لسانه، ولا يمد نفسه ولا يجهد نفسه، وإنساناً بهذا الصوت وهذ الإلقاء أن ننقد القصيدة، أو نجد لها العيوب، ونلك به قلوبنا وقلوب الحاضرين فصفقنا له حتى احمرت منا الأكف.

وقلت لسعيد: من هذا؟

قال: هذا فارس الخوري.

وكنت قد سمعت باسم (فارس الخوري) قبل ذلك بزمان، سمعت به مذ كنت تلميذا في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية أيام الملك فيصل (1919) وكنا نعرفه علما من أعلام السياسة، وركنا في وزارة المالية، ولكني لم أره قبل هذه الحفلة.

ومرت الأيام، وخرجت من الثانوية، واشتغلت بالسياسة (كما كان يشتغل لداتي يومئذ) وصرت سنة 1931 رئيس اللجنة العليا لطلبة دمشق، ومحررا في الجريدة الوطنية الكبرى جريدة (اليوم) التي كان يقوم عليها الكاتب الوطني الخطيب الأديب، الذي علمنا تقديس الشرف وتقدير الرجولة، عارف النكدي وكانت اللجنة تأتمر بأمر الكتلة الوطنية، التي كان لها (في تلك الأيام) قيادة الأمة، وكانت هي وحدها تحمل لواء الجهاد والعمل على ألاستقلال، فكنت اتصل بكبار رجالها، وكنت أحضر بعض مجالسهم، وهناك عرفت فارس الخوري من قرب فرأيت فيه رجلا وديعا ظريفا، حليما واسع الصدر ولكنه كان (مع هذه كله) هائلا مخيفا تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة لا يهزه شئ ولا يغضبه ولا يميل به إلى الحدة والهياج يدخل اعنف المناقشات بوجه طلق، وأعصاب هادئة فيسد على خصومه المسالك، ويقيم السدود من المنطق المحكم والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة والعلم الفياض والأمثال الحكم والشواهد ويرقب اللحظة المناسبة حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك ثم مد يده يصافح الخصم الذي سقط لا يرفع صوته، لا يثور ولا يعبس ولا يغضب ولكنه كذلك لا يفر ولا يغلب.

وما رأيته يناقش أحداً شبهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدلل غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وبسمته وكلمته، صبره عليه، وتملكه منه، وإشفاقه عليه.

ثم كنت تلميذه في السنة الأخيرة من كلية الحقوق (1932) وكان يدرس علم المالية، وأصول المحاكمات المدنية، يلقى درسه إلقاء لا تدري أأنت تعجب وتطرب، لفصاحة لهجته، أم الغزارة مادته، إلقاء غير محتفل به ولا متجمع له، وكانت له عادة (لازمة) هي أن يأخذها قلماً رصاصياً طويلا، فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقر، ولا يكاد، ولا يبصر ذلك ولا يلقى باله إليه، كأنه يكره أن تبقى يده بلا عمل فهو يشغلها به، أو كأنه يرى هذا الدرس لا يستحق انتباهه كله، ولا يملأ هذا الرأس النادر. . . فيأخذه على أنه وتسلية، وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشاكل في كل موضوع فيجيب عنها كلها، بتحقيق العالم، أو ببلاغة الأديب، أو بنكتة الشاعر، ومن أجوبته الحاضرة، ونكته السائرة، أن طالبا (ثقيلا. . .) سأله:

- ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء، وظاء، فنخرج ألسنتنا، ونضطر إلى هذه الغلاطة؟

فقال له على الفور، وقبل أن يتم سؤاله:

- لا فائدة لها أبداً، وسنتركها ونجدد فنقول (كسر الله من أمسالك).

فسكت الثقيل خزيان.

ومن عجائب حلمه، وسعة صدره، ووقاره الذي لا يحركه شئ، أني أقبلت عليه مرة، بعد الدرس، وكانت لي عليه جراءة فقلت له أمام الطلاب:

- يا أستاذ. ما هذا القرار السخيف الذي وضعته البلدية، لتقسيم أرض الدرويشية؟ أليس من العار أن يصدر من بلدية دمشق هذا الجهل وهذا الظلم وهذا. . . .

وفي عشر مترادفات من هذا النمط، ساق إليها نزق الشباب فلما انتهيت منها قال لي، والابتسامة لم تمح عن شفتيه:

- أنا الذي وضع صيغة هذا القرار!

وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لم أفهم منها شيئاً، وشعرت من الخجل كأن دلو ماء حار صب علي، وقد مرت على ذلك الآن خمس عشرة سنة، ولا يزال (يدوي) في أذني، فأشعر بالخجل من هذا الموقف.

وخرجت من الكلية وكنت أراه في الترام، أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه وسؤاله عني، وحفاوته بي، ما يملأ نفسي شكراً، وهذه مزية من مزاياه؛ يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد، وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلا بذكره ومعرفة أمره، والعناية به، وكنت أزور المجمع العلمي العربي، وهو من كبار أعضائه، فأراه أحيانا في مناقشات أدبية أو لغوية، فإذا هو في مجال العلم والحفظ، كما كان في مجال الرأي والفكر، وإذا هو متسلط غلاب في مصاولات الأدب واللغة، كما كان الغلاب المتسلط في مصاولات السياسة.

ومرت الأيام وصار رئيس مجلس النواب، فكانت رياسته عجباً من العجب، وكان الوافدون على دمشق، لا يريدون إذا رأوا جامع بني أمية، والربوة وقاسيون، إلا أن يروه على منصة الرياسة، ليحدثوا قومهم إذا رجعوا إليهم بجليل ما رأوا وما حضروا كان النواب بين يديه (ولا مؤاخذة يا سادتي النواب) كالتلاميذ با أن أكثرهم كانوا تلاميذه فعلا، وكان يصرفهم تصريفاً لا يوصف ولا يثبت على الورق، وما هم بالذين يصرفون أو يسيرون وإن فيهم لكل باقعة داهية ذب اللسان حديد الجنان آفة من الآفات، يطيح بالحكومات، وينسف الوزارات، ولكن الحدأة تسطو على العصافير، فإن قابلت النسر المضر حتى عادت هي عصفوراً. . .

وكانت تشتبك الآراء، وتتداخل المقترحات، وتشتد المنازعات، وتثور الحزبيات، فما هي إلا أن يتكلم ويخلص الموقف، ويفسر الأقوال، ويبين المقاصد، حتى يترسب البعيدين ويجمع الشتيتين، ويصب على جمرة الغضب سطل ماء، ويستل الرأي الموافق من بين الآراء المشتبكة، سل الشعرة من العجين، ويعرضه للتصويت، وكان له في هذا العرض (فن)، ما تنبه له الناس إلا بعد حين، هو أن في النواب، من لا يشتغل حتى ولا يرفع اليد، ولا ينال الأمة منه إلا حضوره الجلسة، وقبضه الراتب، وكان يعرف هؤلاء، فتارة يقول (الموافق يرفع يده)، فيكون مع المخالفين، وتارة يقول (المخالف يرفع يده) فيكونون مع الموافقين يكف بذلك من جموح الأكثرية، ويقوم من اعوجاجها. . .

وغضب مني سعد الله الجابري مرة، وكان رئيس وزارة، وهو رجل حلبي لا يعرفني، فاضطررت أن استشهد بعض من يعرفني من رجال الكتلة، فما رأيت أقرب إلى من فارس بك، وكان رئيس المجلس، وقطب رحى السياسة العليا، وكان كثير المشاغل ضيق الوقت، ولم يكن بد من أن أسأله موعداً، ولكني كنت في عجلة من أمري، فذهبت إليه بعد العصر في ساعة ينام فيها أكثر الناس، فحاول الشرطي أن يردني، فنهرته ورفعت صوتي فسمعني فخرج إلى، مبتسما، وقال له:

- هذا الشيخ علي! إلا تعرفه؟ إنه دائما مشاغب! وأدخلني، فرأيت النصب لم يبدل منه شئيا؟ إنما يبدل المنصب من يكون أقل منه فيكثر به، لا من يكون أكبر من مناصب الأرض كلها، وقديماً قيل: السنبلة المملوءة تنحني، والفارغة ترفع رأسها.

ودخلت عليه في مكتبه وهو رئيس وزارة، فما وجدت إلا أستاذنا فارس الخوري، الأستاذ العالم الأديب الحاضر الجواب، الصائد النكتة، وكنت أظن أني سأجد دولة الرئيس فارس بك الخوري الذي لا يكلم إلا بعريضة، ولا يخاطب إلا بالبروتوكول!

وفارس الخوري واحد من المشيخة الأجلاء الذين تعتز بهم دمشق، والذين أن فاخرت إنكلترا بتشرشل، وعمله عمل الشباب وهو في سن الشيوخة، فإن كل واحد منهم تشرشل لنا، لا نفخر بأنه بقى شابا في عمر الشيوخ، بل بما جمع إلى ذلك من العلم والفضل، والثقافة والعرفان، كالشيخ عبد المحسن الأسطواني علامة الشام الذي لا يزال موظفاً له همة الشباب، وهو (حفظه الله) فوق التسعين، والشيخ كرد علي أبي النهضة الأدبية في الشام، الذي يعمل اليوم دائباً على المطالعة والبحث وألتاليف، كما كان يعمل منذ خمسين سنة، عندما كان محورا في (المؤيد)، وفي (المقتطف) من قبله، وكان يصدر مجلة (المقتبس) من بعده، فكانت دعامة ضخمة في صرح نهضتنا الأدبية والعلمية، والشيخ الذي لا يزال شاباً يمشي أميال، وهو يقر أنه في الثمانين، والذي لا يدري أذهنه أفتى أم روحه أم جسمه، الذي يكتب اليوم وقد كان يكتب من نصف قرن: المغربي، والشيخ القوي الأمين، الذي كان في أول سنة من هذه القرن الهجري قاضيا في دوما ولا يزال عالما نشيطا كيوم كان في دوما: سليمان الجواخدار وهذا الشيخ (الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبرته الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه (شخصية) ضخمة، لا توزن بها (شخصيات) هؤلاء الذي ألقت إليهم قوة دولهم مقاليد الأرض، وحكمتهم رقاب البشر، واعترفوا بأنه مع عبء الثمانين حمل رياسة مجلس الأمن فكان خير رئيس له وأقواه. هذا، وليس وراءه أسطول منه جاءت هيبته، ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما وراءه إلا أمة صغيرة كبرتها عبقريته، ودولة ضعيفة قوتها (شخصيته)، حتى كان صوتها أعلى الأصوات، وكلامها أبلغ الكلام، وخطبته عنها هي نقطة التحول في مجرى الرأي في مجلس الأمن، كما قال الأستاذ الصاوي في (أخبار اليوم).

ولقد عجب الذين لا يعرفون الخوري لما سمعوا أنه لي يقرأ خطبته من كتاب، ولا تلاها من ورقة، بل أرتجلها ارتجالا ولم يكن في يده إلا بطاقة فيها (خرابيش) بالقلم الرصاص، رآه النقراشي وهو يخطها فحسب إنها مذكرات له في مسائل عادية من مسائل الحياة، فلما رأى إنها هي الخطبة العظيمة التي هزت أضخم هيئة دولية في الأرض، بلغ عجبه من هذا الرجل، وإعجابه به، أبعد حدوده. . . . .

أما نحن فلم نعجب، لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، وهذا الرجل الذي بدأ يتعلم الإنكليزية قبل أن يولد أكثر أعضاء الوفد المصري في مجلس الأمن، والذي أعطاه الله هذا الذهن العجيب، فجعله لغوياً أديباً شاعراً حقوقيا مشاركا في كل فروع الثقافة، وأمده بمنطلق سديد، وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء ما أعرف أحد منه ولا أمضي، وبديهة غريبة، وجعل له مع ذلك كله، هذا الرأس الكبير، وهذه الشيبة المهيبة، وهذا الصوت المدوي لملئ بالعظمة والثقة بالنفس والتعالي، وهذا الصدر الواسع، وهذا الحلم مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف، هذا الرجل لا يستكثر عليه أن يرتجل خطبة باللغة الإنكليزية، وأن يحول بها أفكار وكلام الدول في مجلس الأمن.

وبعد فلا يحسب القارئ أني غلوت، أو بالغت، فما ذكرت إلا ما أراه حقا، وما في الأمر مجال لرغبة تدفع إلى المدح، ولا رهبة تمنع من القدح، فأنا لا أرهب الرجل، ولا أرغب في شئ منه، وربما مرت هذه المقالة فلم يقرأها، وإنما أريد المشاركة في تأريخ سيرة عظيم من عظماء العرب.

(القاهرة)

علي الطنطاوي