مجلة الرسالة/العدد 740/اتقوا غضبة الشعب!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 740/اتقوا غضبة الشعب!

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 09 - 1947



للأستاذ محمود محمد شاكر

أجلت قضية مصر والسودان في مجلس المن إلى يوم الثلاثاء التاسع من سبتمبر سنة 1947، بعد أن تمتعت بريطانيا بالخذلان الذي كان مثله ابعد شئ عن بالها منذ عشر سنوات، وحسب. فقد تعودت بريطانيا أن تأمر أو تدس فيطاع أمرها أو دسها، وتخرج ظافرة من كل معركة تدور بينها وبين أمة من الأمم التي ابتليت بشرها الذي لم تنطفئ له جمرة منذ نجمت قرون هذه الدولة في تاريخ العالم الحديث. ونحن نسأل الله أن يتم الخيبة على هذه الدولة الطاغية بانهيار نظامها الاقتصادي، ليخلص العالم من الأخطبوط الفاجر الذي ضم في أحشائه وبين جوارحه دولا برمتها من الهند إلى العراق إلى مصر والسودان إلى جنوب أفريقيا - إلى عالم كان يتمدح شعراؤها بأن الشمس لا تغيب عن ملكه، وإنها هي التي حملت أمانة الجنس الأبيض و (عبء الرجل الأبيض) في تحضير الأجناس الملونة، أي استعبادها وظلمها، وإغراء فرنسا وبلجيكا وهولندة وسواها من أقزام الدول باستعباد جزء من هذه الشعوب، تسومها الخسف بكل نذالة تدخل في طوق هذه الأمم.

أن مجلس الأمن هو اليوم بين الاثنين: أما أن يشهد العالم كله على انه أقيم على حق، وانه حافظ وازع ينهي الطغاة عن الإيغال في طغيانهم وأما أن يشهد العالم كله على انه سوق حديثة للرقيق والنخاسة أقيمت لتتاجر بعباد الله بلا حياء ولا ورع. فكان تأجيل فضية مصر في هذه المرة، بعد المناقشات التي دارت فيه دليلا على أن مصر والسودان قد استطاعت شيئا ما أن توقظ طرفا من ضمير هذا المجلس، ومن ضمير الأمم التي اشتركت فيه، والفظائع التي ارتكبتها في مصر والسودان، والتي تصر على المضي في ارتكابها بكل جرأة لا تستحي.

ونحن نحب أن نثني ثناء خالصا من قولبنا على الرجل المصري السوداني، الذي لم يزعزعه تهديد بريطانيا وترويعها، ولم ينل من قبله الخوف، ولم نثنه عن الهدف الأعظم حيل ولا إشراك ولا جدال ولا تغرير، فأنطلق يبين عن أهداف مصر والسودان وعن حقوقها وعن البلاء الذي نزل بها بيانا شفى صدور المصريين والسودانيين جميعا. أنني لم أعجب بهذا الرجل لأنه سياسي بارع، ولا لأنه قانوني ضليع، ولا لأنه خطيب مفوه، لأنه رئيس حكومة - كلا بل لأنه أول رجل بعد أن ذهب مصطفى كامل - وقف وحده في عرين الأسد البريطاني ليسمع الدنيا كلها أن هذا الأسد البريطاني قد اعتدى عليه وبغى وطغى وظلم وتجبر، وفعل الأفاعيل الخسيسة التي أراد بها استعباد مصر والسودان. انه الرجل المسئول الوحيد الذي قام في مجلس دولي يطعن بريطانيا العظمى! طعنا متداركا غير راحم ولا مشفق ولا هياب، وهو يعلم انه يطعن بهذا الطعن دولا كثيرة من أعضاء هذا المجلس، لقد كان محمود فهمي النقراشي رجل مصر، لأنه كان وطنينا يتكلم بلسان الجروح التي مزقت جسد أمته، لا بلسان السياسي المحتال الذي يريد أن يرضى هذا ويتجنب غضب ذاك. وهذا وحده هو السر الأعظم الذي جعل قضية مصر والسودان اعظم قضية عرضت على مجلس الأمن وأخطرها وهذا وحده وهو التخاذل في الصفوف التي جمعتها بريطانيا، وظنت إنها سوف تنصرها في باطلها نصرا مبينا ترجع بعده مصر والسودان خاشعة خاضعة تحت ظلال الخذلان الذي أملت بريطانيا أننا سوف نمنى به.

لقد ضرب النقراشي مثلا خالدا في تاريخ مصر الحديث، فدل بذلك على أنه ركن يركن إليه في ملمات الأحداث. فقد مرت على مصر والسودان حقبة كان الذي يقول فيها بمثل الذي قاله النقراشي في مجلس الأمن يعد رجلا مخبولا خياليا تسحر منه الصحف والمجلات. وتزدريه جماهير من المخدوعين، ويتخذ هدفا لكل دعابة تجري بها السنة الهازلين من إخلاص النوادي والقهوات، أن هذا الرجل جديد بان يرفع اسمه منذ اليوم إلى حيث لا تنال مكانه أسماء الدجالين والمخادعين والمنافقين الذين ظهروا في تاريخ السياسة المصرية منذ سنة 1919 إلى يوم الناس هذا. فحسبة فخرا ومكانة أن يكون هو الذي استطاع أن يجمع إرادته وعزمه وحزمه، فلم يصرفه خوف أو إغراء عن تحقيق كلمة مصر والسودان الخالدة، وعن إعلان هذه الكلمة في أرجاء الدنيا، وهي: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء).

ويقابل هذا الرجل الصادق رجال آخرون من صنائع بريطانيا - كانوا من صنائعها القدماء منذ تحركت مصر والسودان في سنة 1919 تطالب الدولة الباغية باستقلالها وتريق دماءها وتبذل مهجها، ويأتي أحدهم فيكون سيفا مسلولا على أعناق إخوانه المصريين يتعسف بهم عسف الجبار المارد، وإن كان هو في نفسه ليس بجباراً ولا مارد إلا كما كان أبو حية يسمى قضيب الخشب الذي يحمله سيفا هندوانيا - وإنما كان جبروته وتمرده يومئذ من جبروت بريطانيا وتمردها - فهو دمية تلعب بها لا اكثر ولا أقل.

لقد قام النقراشي يعلن ملأ الأمم في نواحي الأرض، أن هذه ساعة فاصلة في تاريخ مصر والسودان، وانه قد عزم على طرد الإنجليز من بلاده، وانه لن يقبل مهانة، ولا مفاوضة ولا مراوغة بعد اليوم، وأن بلاده توشك أن تنفجر، وأن البلاء على الأبواب لن يمنعه ضغط الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وان مصر والسودان قد أبت إلا طرد بريطانيا من بلادها كلها بلا مهلة، ولا تريث ولا مواعيد. ووقف مندوب بريطانيا يصر إصرار البغاة الطغاة على أن المعاهدة تخول له احتلال أرضنا، ويستدل مرة بعد أخرى بالذي كان في مفاوضات صدقي - بيفن وكأنه يريد أن يقول أن صدقي قبل ما يأتي هذا الرجل - يعني النقراشي - فينكره ويرفضه، ويكذب على مصر والسودان فيدعي إنها تريد طرد بريطانيا وجلاءها تاما ناجزا عن ارض وادي النيل كله، على غير ما تدل عليه مفاوضات صدقي - بيفن.

وفي خلال ذلك يقف صدقي باشا الذي اتخذته اليوم بريطانيا حجة على مصر. ليقول أن خير الوسائل لنيل حقوق مصر والسودان من بريطانيا هي المفاوضة، وكان هذا الرجل لم يعلم بعد انه ظل يروح ويغدو ويتلاعب هو وتتلاعب بريطانيا، وكانت العاقبة أن أفضى الأمر به إلى الاستقالة، بعد التكذيب الخبيث الذي كذبت به بريطانيا كل شئ قاله في تفسير بروتوكول السودان. لقد كان العذر متسعا لامرئ سواه أن قال بمثل الذي يقول به. ومتى يقول هذا الرجل الكلام؟ يقوله في ساعة الحرب التي شنتها مصر والسودان على بريطانيا!

إننا لا نبالي كثيراً ولا قيلا بما يقوله هذا الرجل وأمثاله، وليس من همنا أن نقف عنده لنفنده، بل همنا أن نبين أن وراء كلامه معنى اخى، هو أن بريطانيا لما أحست بتباشير الخذلان الذي سوف تناله في مجلس الأمن، وعرفت إنها لن تستطيع أن تواجه العالم بالأباطيل التي كانت تواجه بها المفاوضين فيرهبونها ويخشون باسها، فلجأت عندئذ إلى قدماء صنائعها في وادي النيل ليخذلوا قلوب الناس ويخوفوهم، ويوقعوا بينهم يبغونهم الفتنة، ويكون ذلك فتاً في عضد النقراشي، وتمهيدا لانقلاب يحدثونه مرة أخرى بالقهر والتهديد، وبخيانة من يستحلي موارد الخيانة لبلاده - لمال أو جاه يحرزه، أو أبهة يختال فيها، أو أمل يمني بإدراكه على يد بريطانيا صاحبه النعم الجزيلة والآلاء التي لا تنفذ!

إن بريطانيا تبذل الآن كل جهدها في رد مصر والسودان عن الطريق الذي لا طريق غيره لمن أراد أن ينال حقه، وأن يجعل هذا الحق ذكرا مذكورا في قلوب الأبناء والأحفاد حتى لا تنطمس معالمه، وحتى لا ينخدع الناس عنه بقليل من عليهم كما حدث في تاريخ مصر والسودان منذ سنة 1924 إلى هذا اليوم، حتى بلغ البلاء أن صار الناشئة يقولون: (مصر والسودان دولة مستقلة) وكلهم يعلم ويرى ويشهد بعينيه الغزاة في ثيابهم يروحون ويغدون في الشوارع والطرقات، ويغشون دور الملاهي ويقيمون المدارس المعادية لروح مصر والسودان في قلب بلادنا، ويحمون لصوص الأجانب، وينصرونهم على أبناء البلاد بكل ما استطاعوا.

ومصر والسودان لن ترتد مرة أخرى إلى طريق (المفاوضة بين مصر وبريطانيا) ولن ترتد إلى تعليق مسالة السودان وجعلها مسالة قائمة على حيالها، ولن ترتد إلى الاعتراف بالورقة الباطلة التي كتبت في سنة 1899 لتشرك بريطانيا مصر في حكم السودان. فإذا كان صدقي باشا قد علم من الثقة الذي أوعز إليه أن هذه الخطة هي الباقية، وإنها هي التي ستصير إليها بعد انهزامنا في مجلس الأمن، وأنه لا محيص لمصر والسودان من المفاوضة قبل الجلاء. عن وادي النيل كله - فقد كذب الذي أوعز إليه بذلك. وليعلم صدقي باشا أن الرائد لا يكذب أهله، وإننا نحن اصدق حديثا من الذين يعتمد هو على حديثهم فمصر والسودان قد علمت اليوم علما ليس بالظن أن مفاوضات صدقي - بيفن، كانت زلة وقى الله شرها، وأن الله سخر النقراشي ليقيل مصر والسودان من تلك العثرة المردية، وأن مصر والسودان قد عزمت أمرها على أن تضع يدها في يد بريطانيا ما دام لها على ارض وادي النيل ظل تستظل به أفاعيها، وثعالبها ووحوشها - وصنائعها أيضاً.

وخير لصدقي باشا ومن كان على شاكلته أن يعلم أشياء كثيرة؛ فلا يغرر بنفسه في مهالك بريطانيا التي تطأ بأقدامها كل من يخدمها إذا رأت في ذلك خيرا ينفعها، خير له أن يعلم أن الزمن الذي كان هو فيه أحد أبطال السياسة، قد انقلب كله وذهب وعفى عليه الذي عفى على مآرب كثيرة. وخير له أن يعلم أن الجيل الذي يعيش فيه هذه الأيام غير الجيل الذي كان يرهب سوط الجلاد ويخاف وسم السياط على أبدانه، وخير له أن يعلم أن العلم القليل الذي كان يناله الرجل فيتبجح به ويخيل إليه انه صار عقلا وحده، قد حل محله عقل كثير لا قبل لأحد بدفعه بعد اليوم. وخير له أن يعلم أن الذرة التي تتوهج اليوم بالإخلاص لمصر والسودان، خير من كل الدر القديم الذي زيفته بريطانيا وملأت قلبه نعمة وجاها وسلطانا، وخير له أن يعلم أن دم أي صعلوك مصري - سوداني مخلص لبلاده، قد صار اكرم على مصر والسودان من دماء السادة الذين سادوا بالخيانة والنفاق والخداع، وخير له أن يعلم في أول ذلك كله وأخره أن احتقار مصر والسودان، وازدراء هذا الشعب النبيل ووصمه بأنه لم يبلغ بعد المرتبة التي تخوله أن يتوبوا مكانه في العزة والكرامة - لن ينفع بعد اليوم صاحبه والمتحدث به والعامل على تثبيته في أذهان من يحدثهم وخير له أن يعلم انه لا يزيد على أن يكون فردا من أفراد الشعب لا أكثر.

ليس من همي مرة أخرى أن أتناول قول صدقي بالنقد أو التفنيد، ولكن كل همي أن أدل ناسا من خلق الله الذي نبتت لحومهم، وجرت دماءهم وامتلأت بيوتهم خيرا من ماء النيل الذي يجمع مصر والسودان، على أن شعب مصر والسودان قد حزم أمره على أن يستأصل شافة الماضي كله ويقطع دابر المنافقين المختالين بغير سلطان اتاهم، وانه قد أجمع عزمه على أن يحطم سلاسل الاستعباد كلها، وأنه لن يقف دون غايته لرهبة أو رغبة، وانه عرف أن الساسة قد خدعوه زمنا طويلا، فأيما سياسي من القدماء ممن كان من صنائع بريطانيا أو من المخدوعين بشرف بريطانيا تسول له نفسه بعد اليوم أن يظن انه أهدى من النقراشي واعظم واقدر، وأنه بالغ ما لم يبلغه النقراشي بالمفاوضة والمساومة على حقوق مصر والسودان فمصيره أن ينال من باس هذه الأمة الناهضة المتدفقة العارمة شرا كثيرا كان أحوط له أن يلوذ منه بملاذ كريم، هو أن يستظل بظل الأمة التي ولدته وأنشأته وكرمته بالانتساب إليها فإذا أبى أحدهم إلا أن يطلب لنفسه مجدا بدعوة بلاده إلى المفاوضة أو خيانة بلاده بقبول عون بريطانيا له حتى يبلغ الوزارة كما بلغها بعضهم من قبل على أسنة الحراب البريطانيا، فانه سيعلم يومئذ أن الشعب المصري والسوداني اشد منه ومن بريطانيا باسا وقوة ومصابرة على الجلاد، وسيعلم انه قد قدر فخاب فامتحن امتحانا شديدا كانت له عنه مندوحة.

أيها الساسة القدماء! إحذروا غضبة الشعب، فلكل شعب غضبة كالنار المشعلة تأكل الأخضر واليابس، وهذا أوان غضبة مصر والسودان بعد أن يبس الثرى بيننا وبين بريطانيا. . .

محمود محمد شاكر