مجلة الرسالة/العدد 74/من شعر الشباب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 74/من شعر الشباب

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1934



الطائر السجين

للأستاذ محمود الخفيف

راسف في القيد موصول الأنين ... مطرق الهامة في يأس حزين

تلمح الحيرة في نظرته ... نظرة اللوعة والغيظ الدفين

وترى الثورة في إذعانه ... وهو بالأذعان من قبل ضنين

ناسل الريش نحيلشاحب ... ذابل المقلة محزون الجبين

ساهم طوراً وطوراً راقص ... رقصة المُوثَق بين الموثقين

سائل عن ذنبه في حسرة ... وسكوت هو كالنطق مبين

نائح في يأسه ملتمس ... رحمة الغادين بعد الرائحين

يحسب الراني إليه مشفقاً ... يعرف الرأفة بالمستضعفين

فيرجى الغوث في إقباله ... ولقد يرجى مع اليأس اليقين

فإذا مر به في غلظة ... وجمود عاد مكروب الحنين

يتمنى الموت في محنته ... ضجعةُ الموت خلاص اليائسين

وإذا أبصر سرباً عابراً ... وهو في السجن رهين مستكين

هز للطير جناحيه كما ... جرّر الأغلال في الأسر سجين

نسى القضبان في لهفته ... ومضى يسبح بين السابحين

رده السقف سريعاً فهوى ... طارف العينين مكتوم الأنين

وكسا ريش جناحيه دم ... من جراح الصدر أو نضح الوتين

وإذا غنى لديه طائر ... لم يذق قبلُ عذاب الراسفين

بلغت لوعته غايتها ... وتوالى النوح والدمع السخين

يعرف المحزون أقصى حزنه ... حين يمسي في قبيل ضاحكين

أيها العاني برغمي أن أرى ... ما تلاقي من عذابٍ وشجون

أيها الطائر ما لي حيلة ... ليت من صادوك يوماً يشفقون

حسبوا أنك فيهم ناعم ... أولا تأكل مما يأكلو أولا تمسي لديهم آمناً ... وترى الإحسان فيما يصنعون

قفص تصدح فيه سالماً ... أين من زينته سود الوُكون

وصحاف وشراب طاهر ... وهدوء لم ينله المترفون

قسماً لو حاسبوا أنفسهم ... لمضوا عن ذنبهم يستغفرون

أين هذا القيد من حرية ... هي أحلى لك مما يصفون

تجد القسوة فيما أحكموا ... ومعاني الظلم فيما يدعون

وتعاف الضيم في نعمتهم ... ولو اسْطَعت تخيرت المنون

وترى الشهد لديهم علقماً ... وهمو عن غيهم لا يرجعون

رب يوم عضك الجوع به ... كان أشهى لك مما يبذلون

أين ما تلقاه في أغلالهم ... من ظلال كنت فيها وعيون؟

وفضاء كنت فيه مطلقاً ... ومقيل لك في وكر مصون

وطعام لم يكن ذا غصة ... لم يكدره لديك الطاعمون

أترى القضبان في قسوتها ... كوثير العشب أو خضر الغصون؟

يا عدو الأسر في فطرته ... يا طليقاً بات في القيد رهين

أن تأملت لما تلقى به ... لن تراهم بك يوماً حافلين

كنت في جوك حراً آمناً ... فتلقتك شباك الصائدين

قتل الإنسان ما أظلمه! ... دأبه العدوان والغدر المهين

يكره الظلم إذا ما مسه ... وهو أن يأمنه شر الظالمين

يتحدى الطير في أجوائها ... ويصيد الوحش في الغار الكنين

أو لم يكف ضحايا بغيه ... من بنيه الوادعين الآمنين؟

يا أسيراً يذرف الدمع دما ... لست في بلواك معدوم القرين

كم سجين بات يبكي حظه ... مثلما تبكي، ويبكي الناظرين

هذه الدنيا لعمري قفص ... لبنيها العُزل المستضعفين

قد قرأنا الظلم في غابرها ... في فتوح الغاصبين الناهبين

فكرهناه ونددنا به ... وبرئنا من ظلال الغابرين أولا نمرح في أصفاده ... ونراه اليوم في المستعمرين؟

وإذا الناس على فطرتهم ... ولئن راق خيال الواهمين

وإذا العدل سراب لامع ... طالما بتنا به منخدعين

قف بهذا الشرق وانظر كم ترى ... فيه من بغى ومن حكم لعين

اسأل الوادي عن محتله ... وفلسطين عن المغتصبين

وأذكر الهند ففي محنتها ... حجة تنسخ قول المبطلين

دخل السجن بريئاً شيخها ... ساخراً من باطل المستكبرين

حمل العبء على أسقامه ... وكفاه لو دروا عبء السنين

ويميناً لو نسوا أطماعهم ... لجثوا بين يديه نادمين

وكأيِّن في الورى من آية ... ويمرون عليها معرضين!

يعرف الأغلال من كلبدها ... وعرفناها كراماً صابرين

جرب المحتل فينا وكرهُ ... ورمانا ببنينا الغادرين

وأتى الثورة من مقتلها ... فوقفنا دونها مستبسلين

فرمانا بلظى من ناره ... وسقطنا عشرات ومئين

وافتدينا الحق في هودجه ... واحتشدنا حوله مستشهدين

ورفعنا فوقه رايته ... وتزاحمنا عليها مقسمين

ورأى الغاصب أنا لم نكن ... بالخياليين أو باللاعبين

ضاقت الأنفس حيناً وبدت ... نذر الرجفة للمستهزئين

والتقى الأشبال في غضبتهم ... ومشوا نحو المنايا طائعين

أيقظوا الثورة لولا حكمة ... من بنيها السابقين الأولين

أفسدوا كيد المحيطين بهم ... فأتوا غِيرانَهم منكفئين

قسماً ما أجلَّوها خشية ... ولئن طال حديث المرجفين

ليس من يبذل طوعا دمه ... بالذي يرهب بأس المعتدين

كمنت فيهم، فان لم ينتهوا ... بعثوها في غد مستأنفين

محمود الخفيف