مجلة الرسالة/العدد 74/القصص
مجلة الرسالة/العدد 74/القصص
من الأدب التركي
الزواج المبارك
ترجمة الآنسة (فتاة الفرات)
كنت سائراً يوماً وأحد رفاقي في شارع (بك اوغلي) أحد شوارع الآستانة الجميلة. وكان رفيقي على عادته يحدثني أحاديث مختلفة، يحدثني عن نفسه وعن غيره أحاديث منها ما يقبل ومنها ما يمج ويرد. وبينا هو يهدر في حديثه وقف فجأة وصاح:
- إلى أين؟
التفت فإذا هو يكلم رجلاً طويل القامة محدودب الظهر، وكأنه قد تعب من الحياة؛ أسمر اللون، قد طال شعر رأسه ولحيته حتى خرجا عن الحد المألوف، عليه بذلة لا يعلم إلا الله ما لونها، قد أثر فيها الغسل الكثير حتى اختلطت ألوانها وتهلهل نسجها.
فقال له رفيقي:
- ألا يزال الحال على ما نعهد؟
فهز الرجل رأسه علامة الإيجاب وارتسمت على ثغره ابتسامة الترح لا ابتسامة الفرح.
فقال له رفيقي:
- بارك الله فيهم. وانصرف عنه
ثم ألتفت إلي وقال هل أقص عليك قصة هذا الرجل؟
فقلت له على مضض:
- هات ما عندك
فأخذ يقص علي قصة الرجل، يقصها بصورة مونقة، لها من إشاراته اللطيفة ومن بيانه البديع خير حلية وأبدعها. قال: هذا الرجل من لداتي في السن، ومن رفاقي في العمل، كنا مأموري حساب في مصنع حديدي ونحن في نهاية العقد الثاني من عمرنا، وكان مرتبه الشهري أربعة دنانير، ولكنه كان بالرغم من قلة المرتب ذا زي حسن وهندام جميل، فإذا ظهر زي كان أسبق الناس إليه. كان زيه أحسن أزيائنا جميعاً، وكان يفوقونا طراً في العناية بثيابه وجسمه، فكان يحلق ذقنه في كل يومين مرة، وكان مغرماً باللهو كثيراً، فإذا كان يوم الاثنين جاءنا بكل طريف من أحاديث لهوه ومرحه في بياض يوم الأحد وسواد ليله، ولم نكن نجد عند أحد ما نجد عنده من أخبار معارض الصور ومسارح التمثيل والمتنزهات. جاء في يوم جمعة صباحاً إلى الدائرة وهو تحفة في هندامه وآية في زيه؛ كان في رجله حذاء لماع قد جعل حوله قطعة جوخ من قماش بنطلونه، وحول رقبته عقدة من قماش أزرق اللون قد ربطها ربطة جميلة، وجعل في وسطها دبوساً ماسياً على شكل نحلة جناحاها من ياقوت، لعله قد ورثه عن أمه، ومن جيببه الخارجي تدلى منديل حريري ذو ألوان جميلة، وفي صدره سلسلة ساعة ذهبية رأسها في عروة صدارته وطرفها الآخر في جيبها، وفي إصبعه خاتم زمردي، وفي رأسه طربوش صغير قاتم الحمرة يختال بلذة لارتفاعه فوق ذلك الهندام الجميل. فاجتمعنا حوله ضاحكين نسأله عن سر هندامه الجميل وتأنقه الشديد في هذا اليوم، فقال:
- سأذهب اليوم إلى منتزه (كاغدخانه)، وكل ما أرجوه منكم أن تكونوا عوناً لي على الرئيس ليسمح لي بالذهاب، فان التأخر يضرني كل الضرر. ثم مد يده إلى جيب معطفه وأخرج محفظة أوراقه وسحب من بينها ورقة (حمراء) اللون لوح لنا بها وهو يبتسم ويقارب ما بين جفنيه وينظر إلينا نظرة ذات مغزى، ولكنه ظن علينا بسر تلك الورقة، وأهمنا ما أهمه، وأحببنا أن ينعم ذلك اليوم بنزهة، فذهب أصدقاء أحد الرئيس إليه، وما زال به يكلمه في شأنه حتى سمح له بالذهاب في ذلك اليوم، وكاد صاحبنا يجن حين علم ذلك. فكان يصفق بيديه ويخالف بين رجليه، وقفز إلى الشارع وهو يقول:
- سأقص عليكم غداً ما يكون في هذا اليوم
كنا ننظر إليه نظر حسد ممض، وننظر إليه نظر المحبوس في غرفة مظلمة يؤدي عملاً شاقاً، إلى رجل حر، طليق، يسرح ويمرح كما يحب ويختار
أما هو فطار كما يطير العصفور أفلت من القفص. . . عاد في اليوم الثاني إلى عمله بهندامه المألوف، فاجتمعنا حوله نسأله بإصرار عن سر الورقة (الحمراء) وعن أخبار النزهة في (كاغدخانه)، فلزم السكوت مع أنه هو الذي وعدنا بأن يقص علينا ما يجري معه هناك! كان لا يجيبنا إلا بقوله: - لا شيء، لا شيء. . .
ويبتسم ابتساماً يدل على أن لديه أشياء كثيرة، لكنه يود إخفاءها عنا. فلما قطعنا الأمل من إفشائه سر الورقة وأخبار النزهة عاد كل منا إلى مكانه وأقبل على عمله. أخذت ألاحظه ملاحظة خفيفة فرأيته بين آونة وأخرى يستتر خلف دفتره الذي أمامه ويفتح محفظته ويلقي على ما فيها نظرة تنم عن غبطة وسرور. ثم رأيت ورقة (زرقاء) بجانب (الحمراء)، فقلت له وهو يلقي خلسة نظرته المعتادة على ما في محفظته:
- أراك تهئ نزهة أخرى في (كاغدخانه)؟
فأجابني ضاحكاً:
- ربما. . .
بعد هذا الأسبوع أصبح رفيقي ينتحل أسباباً يسمح له معها الرئيس بالتغيب أيام الجمع، فكان يذهب إلى منتزه (كاغدخانه) يقضي أيام الأحد والجمع هناك، ولكنه خلافاً لعاداته لا يقص علينا أخبار نزهاته ورياضته. كنت ألاحظه دائماً من حيث لا يشعر بي، فرأيت محفظته قد امتلأت بالأوراق (البنفسجية والخضراء، والصفراء) بجانب (الزرقاء والحمراء). فقلت في نفسي، كأن رفيقي يستعرض الألوان متخيراً، وسنرى أي لون يختاره في النهاية ويستقر عليه رأيه. وبعد مدة علمنا اللون الذي وقع عليه اختياره. . . .
جاءنا في صباح يوم بادي القلق ظاهر الاضطراب، فأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهاباً يحاول أن يتكلم ويفضي إلينا بشيء ولكنه لا يقدر، ثم نظر إلى وجه كل واحد على حدة وقال:
- سأقول لكم شيئاً
حولنا جميعاً أنظارنا إليه، وكنت واثقاً أن ما سيقوله يتعلق بالأوراق الملونة التي في محفظته وقال:
- سأتزوج. . .
فصعقنا لهذه الكلمة كأنها قنبلة سقطت علينا من السقف، واستتلى فقال بكل جد:
- سئمت هذه الحياة، حياة الوحدة، وعزمت على أن أستريح، إن ملازمة غرفة البيت والاشتغال بالعيال والأطفال خير من قضاء الليالي الطوال في أماكن اللهو ومحال الفجور. فقلت له: - أن مسألة الأطفال مسألة ثانية، والمهم الآن أن نعرف من هم العيال؟
فأجابني بكل جد:
- إنها موافقة لي تمام الموافقة، إنها ليست غنية، وأنا لست من طلاب الغنى في الزواج، ستأتيني بثيابها فقط، إن والدي مازال يشكو من الوحدة بعد وفاة والدتي، ويقول إن كل بيت يحتاج إلى امرأة، فسأسبقه وأتزوج قبله، هذا كل ما هنالك.
فقلت له:
- لابد من صلة متينة بين هذا الزواج وبين الأوراق الملونة؟
فلم بصدق ما قلت ولا أنكر ما ادعيت، أنه سكت، وكيف ينكر ما لا يقبل الإنكار؟ سمعنا هذا منه وسكتنا، ولم يظهر بيننا من يخالفه في رأيه الذي أعتزم عليه، ولا يقول له: إن الإقدام على الزواج مع مرتب ضئيل لا يتجاوز الأربعة دنانير كل شهر، لا يدل على رأي حسن وفكر مستقيم، وأن الزواج لو كان يترتب على كل رؤية يعقبها ميل لكان الزواج عبارة عن سلسلة لها أول وليس لها آخر
كان العقد وكان الزفاف، وكانت الحفلات الشائقة التي نعمنا فيها بنعيم صديقنا. وبعد غياب أسبوع عاد إلى عمله وأول كلمة قالها هي:
- إني سعيد. . .
نعم كان سعيداً. . . كنا نعرف ذلك من الطيش الذي أظهره باستدانته من هنا وهناك نقوداً أنفقها في حفلات العرس. كنا نتحقق سعادته حينما نرى الصيارفة عند باب الدائرة في أكثر الأحيان. . . وحينما نراه يوم أخذ المرتب غارقاً يفكر وقلمه بيده يكتب أعداد ويمحو أخرى. . . لم نره مسروراً إلا أسبوعاً واحداً فقط. ثم جعلت ألاحظ أن خطوط الهم والتفكير أخذت تظهر على جبينه، ولكنه مع ذلك كان بين آونة وأخرى يقول لنا:
- إنني سعيد. . . كأنه يحاول بذلك أن يخدع نفسه، أو كأنه يريد أن يخدعنا
سمعته في أحد الأيام وقد أخذ الموظفون يستعدون للذهاب إلى منازلهم للغداء يقول:
- إني اليوم أشعر بفتور في جسمي لا أقدر معه على الذهاب إلى البيت للطعام، لذلك سأبقى هنا وسأتناول شيئاً من الخبز والجبن. وفي اليوم الثاني أتى بعلبة صغيرة ووضعها في درج مكتبه ثم أخرجها عند الظهر وقال: - لقد رأيت أهل البيت يقددون لحماً فاشتهيت أن أجعل منه غدائي هذا اليوم. كأنه يريد أن يعتذر عن عدم ذهابه إلى البيت ليتناول فيه طعام الغداء على حسب العادة، عند ذلك قوى عندي الشعور بسعادته وقلت:
- حقاً أنه سعيد. . .
أصبح بعد ذلك اليوم لا يخرج ظهراً إلى البيت لتناول طعام الغداء، ولا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك إلى رفقائه، وأصبح في أكثر الأحيان يأكل الخبز والجبن لا يزيد عليهما، وربما أتى معه من البيت بسمك محمر، أو لحم مقدد، قد صر ذلك في جريدة، وربما عدل عن اللحم إلى البيض المسلوق. رأيته يوماً يفتح قماشاً فوق منضدته ويقلبه بين يديه ويتأمله مفكراً، فلما وقع نظره على نظري رفع قطعة القماش بيده وقال لي:
- ألا تعجبك هذه القطعة لمعطف نسائي! إنها حقيرة في نظرها لأن ثمنها ثلاثة دنانير!
لقد أقدم على شراء معطف بثلاثة دنانير مع أن مرتبه الشهري أربعة فقط! ومع هذا فهي ساخطة وتعدها حقيرة. . . يا للغرابة!. . لم أر من اللياقة أن أجيبه بما يجب، فأرسلت زفرة من أعماق قلبي وقلت:
- انه سعيد وسعيد. . .!
في اليوم الثاني أخذنا مرتباتنا، وبينما كنا خارجين من الدائرة كان أحد الصيارفة في انتظاره عند الباب فتعلق به وطالبه بنقوده صائحاً معربداً، فدفعه عنه، ولكن الصيرفي أخذ بتلابيبه، ولم يرض أن يتركه حتى يدفع له كل ما عليه، فتخلص منه بعد جهد، وعاد إلينا قائلاً كأنه بكلامه يريد أن يخفف وقع المنظر في نفوسنا:
- يا له من وقح! كأني قد أنكرت ماله علي من دين، فهو يطالبني بهذه الشدة!
فقلت في نفسي: ستدفع إليه بلا شك، وما الذي يقوله هذا النذل فيك إذا أنت لم تأخذ من المرتب إلا ثمن المعطف الذي قدمته للفتاة التي عبثت بلبك بوريقاتها الزاهية، وإلا نفقاتك البيتية والخصوصية، ثم قدمت إليه الباقي جملة واحدة؟! كان يفقد نشاطه بالتدريج، لقد حل مكان النشاط سكون وفتور، أما اعتناؤه بزيه وهندامه فكان يقل شيئاً فشيئاً، ولكنا مع ذلك كنا أحياناً نرى دبوسه الماسي فوق عقدة رقبته، وخاتمه الزمردي في إصبعه، وسلسلة الساعة على صدره. أما الثياب فكان يقضي داخل الحلة الواحدة فصلاً كاملاً، وكان لا يبدل قميصه إلا نادراً، وظهر عليه انقباض، فربما مرت عليه أيام لا يحرك شفته إلا بكلمة. كنا نشعر نحن أن وراء هذا التبدل ما وراءه من حياة بيتية مضطربة. . . . إلا أنه جاءنا يوماً على غير عادته فرحاً مستبشراً فقال لنا عند دخوله:
- هنئوني، لقد رزقت اليوم فتاة. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وكتب في دفتره: 15 آذار 1300. هنأه كلنا بالمولود الجديد وأنا من جملتهم وقلت:
- ها قد جاء دور الأطفال بعد العيال. جاءني بعد أسبوع وقال والحمرة تعلو وجهه:
- هل عندك دينار تقرضني إياه؟ ثم أردف قائلاً من غير أن يترك مجالاً لرد طلبه:
- يجب علي أن أدفعه إلى القابلة. لقد سمعت الدينار في جيبي يزفر زفرة حرى. ولكن لم يكن في استطاعتي أن أرد طلبه، فأعطيته الدينار. ومن الغريب أنه منذ ذاك الحين أخذ يعاملني معاملة باردة، ويقابلني بوجه جاف، مع أنه لم يكن ثمة حاجة إلى ذلك، لأني منذ ناولته (الدينار) نفضت يدي منه. لقد تغير حال رفيقنا وازداد اضطراباً بعد أن صار أباً. دخل يوماً إلى الدائرة وهو يقول:
- ألا تسألون ما حل بي؟ فأخذنا ننظر إليه بقلق وننتظر أن يذكر لنا ما حل به، ففتح حينذاك ملفاً صغيراً بيده وأخرج منه علبة صغيرة سوداء فرفع غطائها وأرانا إياها فإذا فيها: ثدي صناعي. وقال:
- إن زوجتي لن ترضع أبنتها بعد الآن، سنرضعها بالثدي الصناعي، فهل تدرون لماذا؟ حينذاك توقف عن إتمام كلامه كأنه كان يتردد بين أن يقول وبين أن يسكت ثم قال وهو خجل:
- لأنها حامل!
كان ينظر ألينا باضطراب، وكان منظره مؤلماً ومضحكاً معاً رأيته يوماً عند طعام الظهر أخرج قطعة (كعك) وقطعة من جبن (القشقاوان) وأخذ يأكلهما وهو يتمتم قائلاً:
- أنت تجوع وابنتك في البيت تأكل مرق اللحم الدسم أخذت علائم الحزن ترتسم على محياه وتظهر بأجلى مظاهرها، وبدت على وجهه معاني مؤلمة حزينة لبعد عهده بالموسى، وكان كثيراً ما يكلم نفسه كالمجانين، وكثيراً ما يشتغل بحسابه الخاص - حساب الدين - عن حساب الدائرة، ويسافر بفكره إلى أقصى حدود الخيال.
عدنا يوماً من الغداء إلى الدائرة فرأيناه يخيط بطانة معطفه، ذلك المعطف الذي صاحبه زمناً طويلاً، فخجل منا وقال:
- أن زوجتي مريضة لذلك أنا أخيط ثيابي بيدي.
إنه لم يقل الحقيقة لأنه ما كان يخيط بطانة معطفه المفتوقة، بل كان يرفو بطانته التي تهلهل نسجها لطول الأيام. حينما ذكر لنا خبر ولادة المولود الثاني لم يكن فرحاً مستبشراً كما كان في أول مرة بل قال:
- لقد رزقت اليوم غلاماً. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وأخرج دفتره من جيبه وكتب فيه: 12 نيسان 1301
لم نره بعد ذلك شكاً أو تبرم، ولكنه كظم كل ذلك في قلبه صابراً مستسلماً لقضاء الله وقدره. سعينا مع الرفاق عند رئيس الشركة ليزيد راتبه فلم نفلح، وكان جواب الشركة:
- أن أولاد الموظفين ليسوا من صنع معاملها حتى تتكفل بهم. أربعة الدنانير للزوجين وللولدين. . . . صار طعامه عند الظهر الخبز والجبن بصورة منتظمة، ولم نعد نراه في منتزه ولا متفرج، وأنزل نوع تبغه الذي يدخنه درجة ثم درجات، وأصبح كثير النظر في أوراق الحساب، وفي آخر أحد الشهور زاره الصيرفي الملح يطالبه بالدين فصاح به:
- لن أعطيك، لن أعطيك شيئاً، افعل ما تشاء.
لقد كان قبل اليوم يكلمه سراً، أما اليوم فهو يكلمه علناً، لأنه لم يعد يخجل منا. جاءنا في صباح أحد الأيام وبيده علبة فيها ثدي صناعي. فقلت له:
- ما هذا؟
فقال:
- لا شيء
كأنه خجل أن يقول ما قاله أولاً، وفي ذاك النهار لم يزاول عملاً، ولكنه جعل رأسه بين يديه واسترسل في أفكاره حتى المساء، لا ينظر إلى شيء ولا إلى أحد. ولاحت مني التفاته إليه أحد الأيام فإذا هو ينظر إلى تقويم الأوقات ثم يخرج دفتره من جيبه؛ فقلت له:
- هل من قيد جديد لزائر جديد؟
فأرسل نفساً قصيراً وكتب في الدفتر: 10 مايس 1302 ثم قال وهو ينظر إلي مبتسماً ابتسامة مؤلمة:
- لقد رزقت اليوم فتاة أخرى كنت أنا أشعر من أعماق نفسي بألم من كثرة أولاد هذا الرفيق، أما هو فكان يبكي من فرط تألمه، فحول عينيه عني وأقبل على عمله. أخرج يوماً ساعته من جيبه وفصل عنها سلسلتها الذهبية ولفها بورقة، فقلت في نفسي:
- لن نرى السلسلة الذهبية بعد الآن. إن رفيقي لم يدفع ثمن القهوة في هذا الشهر، وأصبح منذ ذاك اليوم يشربها مرة واحدة في النهار بدلاً من ثلاث مرات. ساءت حال الرجل وأشتد به الضيق، وظهرت ملابسه ملوثة ببقع الحبر، واستحال لونها، وتهلهل نسجها ووهى، فكنت إذا رأيته على هذا الحال رثيت له وبكيت عليه. ولقد دخل علي يوماً وعليه حلة جديدة لم أرها عليه قبلاً، ففرحت لذلك، إلا أن فرحي لم يطل، فقد قال لي غير خجل مني:
- إنها قديمة، ولكني صبغتها فصارت جديدة. وبعد هذا الاعتراف أصبحنا صفيين، وزال ما بيننا من الفتور الذي سببه (الدينار) واتخذني كاتماً لأسراره، يبثني آلامه وأحزانه. لقد سرد علي تدريجاً كل آلامه في الحياة. فذكر لي أولاً مبدأ صلته بزوجته وأساس هيامه بها، وأن ذلك كان في منتزه (كاغدخانه)، وبسبب تلك الأوراق الملونة. . . وأنه كان يأمل أن ينعم بالاقتران بها، إلا أنه لم ينعم بذلك إلا أسبوعاً واحداً وأتى بعد ذلك الشقاء. . .، ثم تجلت بعد ذلك حياة البؤس من اجتماع فقره وفقرها، فكان بينهما نزاع سببه عدم تمكنه من تأدية نفقاتها وطلباتها. . . ثم الأولاد. . .
وعاد إلى زوجته فقال:
- أنها لما رأت نفسها محرومة مما تشتهي من ملبس ومأكل ومشرب أخذت تعامله معاملة قاسية لا تطاق، ولكن ماذا يعمل هو إزاء ذلك، وهاهو لم يلبس بذلة جديدة منذ تزوج حتى الآن، وأن ياقته قد تمزقت فقلبها على قفاها لأنه لا يجد غيرها ولا يستطيع الوصول إليه، على أنه قد عزم على أن يتخذها من مشمع كيلا يتمزق سريعاً، وها أن ولديه الاثنين قد كبرا، وهما في حاجة إلى ثياب وإلى أحذية لا يجدها.
وكان بعد ذلك اليوم الذي نفض فيه جعبته أمامي، يسمعني كل يوم فصلاً من فصول حياته المؤلمة. نظر إلي يوماً وهو يريني قماشاً لأبنته الكبرى وقال:
- سأقول لك شيئاً. ثم عاد وقال: - لن أقول لأنك لا تصدق
إلا إني عرفت ما يقصده حينما رأيت دفتره في يده ونظره في تقويم الأوقات، لقد كتب في دفتره: 8 حزيران 1303
فقلت له: - أطفل أيضاً؟
قال: نعم غلام، وقد أصبحوا أربعة.
ثم قال وهو يبتسم: - أنهم لا يخطئون نوبتهم: فتاة ثم غلام، ثم فتاة ثم غلام، وهكذا. .
كان يضحك ولكن كان قلبه يبكي. فقال لي في نفس ذلك اليوم: إن الدخان يؤثر في صدره ويؤذيه، وهو يرغب ي تركه لو يستطيع. أدركت ما يقصده المسكين من ترك الدخان، فتأملت له كثيراً حتى كدت أبكي.
رزق ولداً آخر، فصار الأولاد خمسة، وفي ذلك اليوم خرجت نفسه من يده، فانه ما كان يدخل الدائرة ويجلس إلى منضدته حتى أخرج دفتره وكتب فيه وهو ينشج نشيجاً وهو يفتت الكبد ويصدع القلب: 5 تموز 1304
فقال بعض رفقائنا الجفاة ساخراً منه:
- ضع أرقاماً متسلسلة بجانب أولادك كيلا تنسى عددهم. . .
كانت الخامسة فتاة على الترتيب المعتاد. بعد ذلك بقيت معه ثلاث سنين في الوظيفة رأيته فيها ثلاث مرات يكتب في دفتره، كتب فيه بجانب اسم فتاة وغلامين: 14 آب 1305، 8 أيلول 1306، 14 تشرين الأول 1307
كأن الدهر كان يريد مداعبة هذا الرجل الفقير المسكين فهو يقذفه مصراً في كل سنتين بفتاة وغلام. . . لقد خلت محفظته من الأوراق (الملونة) بعد أن كانت تغص بها، ولم يبقى فيها غير دفتر صغير فيه صحيفة كاملة لتواريخ أولاده. بعد أن قيد تاريخ ولادة الولد الثامن. . . ألقى نظرة فاحصة إلى آخرها ثم جاء إلينا وقال:
- تعالوا لأريكم اتفاقاً غريباً. فاجتمعنا حوله فقال:
- اقرأوا من أعلى الصحيفة حتى أسفلها
فقرأنا فإذا فيها: آذار، نيسان، مايس، حزيران، تموز، آب، أيلول، تشرين الأول
ثم أخذ يشرح لنا مكان الغرابة في ذلك فقال: - انظروا إن بين كل ولد من أولادي ورفيقه ثلاثة عشر شهراً لا تزيد، لذلك كانت شهور ولادتهم متعاقبة لا فاصل بينها فقال أحدنا مستهزئاً أيضاً:
- الآن جاء صاحب تشرين الأول! وسيأتيك أربع آخرون حتى شباط. وفيه تنتهي المجموعة ويكمل عددهم (اثني عشر) لقد مضى على خروجي من خدمة الشركة أربع سنوات لم أر خلالها هذا الرفيق القديم، فلما رأيته اليوم سألته عن حاله فإذا (سيل) الأولاد لا يزال كما كان. وعلى ذلك فان (شباط) قد وضع (هديته) وتمت المجموعة التي بشر بها، مع أن المسكين لا يزال يلبس الثياب التي كانت منذ أربع سنين، وربما كان مرتبه لا يزال (أربعة دنانير).
هنا انتهت القصة التي رواها رفيقي فودعته وركبت الترام إلى بيتي، وأنا أفكر في ذلك الرجل المسكين وسوء طالعه، وأستنزل الرحمة والرضوان على جدث دفين معرة النعمان.
حلب
فتاة الفرات