انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 738/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 738/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 738
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1947



اجتراء:

من نحو أسبوعين كنت قريباً من المذياع، فاسترعى انتباهي أحد المذيعين يقدم الأستاذ علي الجارم بك ليلقي قصيدة (السودان) فتوقعت أن يكون الأستاذ الجارم قد حفزت شاعريته قضية الوادي الماثلة في مجلس الأمن، فاستجابت بقصيدة جديدة لدواعي الظروف القومية الحاضرة. وأصغيت إليه وهو يقول بإلقائه المرنم الجميل:

يا نسمة رنحت أعطاف وادينا ... قفي نحييك أو عودي فحيينا

واستمر في إنشاد القصيدة، ينتقل من التغني بالنسمة التي هبت من جنوب الوادي فأثارت شوقه إلى السودان، إلى الحديث عن الرحيل في القطار إلى أسوان، ومنه إلى الباخرة النيلية، ثم إلى القطار في صحراء العتمور، حتى يصل إلى الخرطوم، فيشيد بأهلها الذين تجمعنا بهم شتى الروابط.

قصيدة جميلة ولاشك، ولكن هل توصف بالبلاغة التي قال البلاغيون أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ والسؤال بعبارة أخرى: هل هذه القصيدة تطابق مقتضى الحال الحاضرة بمعنى أنها تعبر عن قضية السودان كما هي مثارة الآن من حيث وحدة الوادي، وإنكار الإنجليز لها، وحجتنا، وأباطيلهم، ومن حيث شعور الشاعر إزاء ذلك وتصويره له؟

إنها ليست كذلك، ولكن الجارم شاعر بليغ، فما السر إذن؟

السر أن القصيدة قديمة، قالها الجارم منذ سنين في أثناء زيارته للسودان، وألقاها في نادي الخريجين بالخرطوم، وذهب كاتب هذا إلى السودان على أثر ذلك، فسمع حديث هذه القصيدة هناك، وحسن وقعها من نفوس إخواننا السودانيين وترديدهم لأبياتها.

وقد يمكن أن يمر الإنسان بأمر إذاعتها في الوقت الحاضر مر الكرام، ملتمساً له أدنى الملابسات، وملتمساً للشاعر عذراً من الرغبة في التمتع بالكسل. . .

ولكن حدث في يوم الأحد الماضي أن سمعت بالمذياع نفس القصيدة مرة أخرى بنفس الصوت والإلقاء، صوت الجارم وإلقائه الجميل، وقد تكون أذيعت في وقت آخر ولم أسمعها، وقد تكون سجلت، وستتكرر إذاعة المسجل.

وقد نستسيغ تكرار المسجلات الغنائية، ولكن لم تكرر إذاعة هذه القصيدة، وهي على م ذكرنا من القدم وعدم ملائمة الحال الحاضرة، ولم تغنّ، ولم (يغردها) فتحي بك. .؟

أراك تهم أن تقول غردها الجارم!

الشعر وقضية الوادي:

وقد كان لقضية الوادي في بعض شعراء الشباب بعض العزاء، فقد أذاع الأستاذ محمود حسن إسماعيل قصيدة ذات ببض وحياة، عنوانها (النيل، على ضوء قضية الوادي) ويشتغل الآن عبد الوهاب بتلحينها لغنائها وتسجيلها للإذاعة

وإذا كان العيد، كما قالت الكاتبة البليغة السيدة منيبة الكيلاني في مقالها بالرسالة، يأتي (فيكون بين المعيد ووسادته ليلة العيد حديث ونجوى؛ فبين معيد ووسادته من ثورات النفس ودوار الرأس وجهد الخاطر الكليل ما بين معيد ووسادته من بسمة الأمل رهشة الرجاء وتطلق الوجه) فيختلف الشعور به باختلاف الأفراد، وإذا كانت الأمم في ذلك كالأفراد، فإن شعور الأمة بالعيد الفائت كان مشوباً بالتطلع إلى ما عساه أن يتم في قضيتها الحاضرة، ولم يعدم هذا الشعور من يعبر عنه، فقد قال الأستاذ فريد عين شوكة في قصيدة له بالأهرام:

بلية من بلايا الاحتلال وما ... لديه إلا جنايات وإرهاق

وحسبه ما دهانا من معاهدة ... بها قيود ثقيلات وأطواق

رمت بنا في لظى حرب مروعة ... ما كان لنا فيها عبر ولا ناق

حتى إذا وضعت أوزارها جحدت ... جهودنا في سبيل النصر أرفاق

وأنكروا ما احتملنا في تحالفهم ... وكم بلينا وذقنا مثل ما ذاقوا

بل يدعي القوم أن كانوا لنا وزراً ... من الغزاة! فيا للحق يهراق

يا مصر، ما العيد إلا أن يطالعنا ... يوم الجلاء له حسن وإشراق

وأن يوحد وادي النيل مملكة ... يضمها علم النيل خفاق

زيتون في قرطاس من الشعر:

كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في أخبار اليوم مقالاً طريفاً بعنوان (زيتون في قرطاس من الشِّعر) قال فيه: إنه ضاقت به الحال في بعض سنوات الحرب العالمية الأولى، فاضطر إلى بيع بعض ما لديه من الكتب بالأقة، وكان في جملة ما باع النسخ الباقية عنده من مؤلفاته. واتفق يوماً أن اشترى من بقال زيتوناً، فلما أفرغه في البيت وجد قرطاس الزيتون منزوعاً من ديوانه الذي كان فيما بيع بالأقة!

ثم قال: (من ذلك اليوم بدأ رأيي يتغير في الأدب وقيمته وما قيمة أدب مصيره إلى دكاكين البقالين ومن إليهم؟ وما زلت أكتب وأنشر، وإن لي لنصيبي من الغرور الذي لا تطاق الحياة بغير قدر كاف منه، ولكني حلت شيئاً فشيئاً حتى صرت أشبه بنجار لا يأسف على حجرة جلوس أو مائدة باعها، وقد خلت نفسي من ذلك الشعور (بالأبوة) لما أكتب، فليس يعنيني مصيره) إلى أن قال بعدما أبان أنه غير راض عما كتبه: (وأتعجب كيف كتبت هذا التخريف؟ وأتساءل: لماذا عجلت؟ لم لم أنتظر حتى أنضج؟)

ورجل كالمازني له ماضيه فيالأدب، ومن حقنا أن نتعقبه، فلا ندعه يقول ما يقول عن نفسه دون أن نتبين وجه الحق فيه وإن ما كتبه وألفه أصبح جزءاً هاماً من أدب العصر، فإذا تخلى عن (أبوته) فإن له أقارب آخرين من حقهم أن يروا فيه وفي أبيه المتخلي ما يرون. . .

ولكن. . . أراني أنزلق إلى فخ. . وهاهو ذا (المكار) يبتسم، فقد أوشكت على الوقوع!

لقد ذكرت ما كان قد قاله له الأستاذ العقاد، بصدد براءته من شعره، وكنت قد تحدثت عن ذلك في عدد ماضي من الرسالة قال العقاد إن المازني مكر بإنكار الشاعرية على نفسه ليتسابق إليه الناس ويضعوه في مكانه من الطليعة، ولكنه انتظر عاقبة مكره دون جدوى حتى الآن. . .

فهل هي (مكرة) أخرى. .؟ على أن الأستاذ المازني ليس بحاجة إلى هذا المكر بالإضافة إلى ما سلف من أدبه، ولعله يشعر بالحاجة إليه الآن. . فقد نضج قبل اليوم بزمان، ولم يعجل كما يقول، وليته يعود إلى ما يدعيه من (العجلة وعدم النضج) وإن كنت أود ألا يعود إليه الزيتون الأسود في قرطاس من شعره.

تظرف بعض الأدباء:

اعتاد لفيف من الأدباء أن يتلهوا بالتفكير في أشياء يتوقعون أن تستملح وتستطاب وتعد من طرائف الأدب وفكاهاته. وتلقفها منهم بعض المجلات الفكاهية فتنشرها ليضحك منها من تضحكه أمثالها.

رأينا مرة أنهم ألفوا (رابطة الفضوليين) ومرة أخرى كونوا (جماعة الثقلاء) واشترطوا للدخول في هذه وتلك كذا وكذا من الشروط التي تقطر، بل تنهمر، ظرفاً. . وهي تنطبق طبعاً على حضرات المؤسسين.

والناس يقرؤون هذا كله على أنه من نتاج أفكارالأدباء الظرفاء، وأنهم أبطاله، أي أنهم ظرفاء، وفضوليون وثقلاء. .

وآخر ما أسفر عنه ذلك الظرف (عيد ميلاد فقير الحرب) ومن يكون فقير الحرب عند فقراء الأدب غير (الأديب) المحلى بأل التي هي هنا لجنس الأدباء؟! ومن قول أحدهم في تكريمه (عيد ميلاد فقير الحرب هو عيد ميلاد الأدباء جميعاً) وعلى هذا المعنى دار المحتفلون حول أنفسهم. . . ثم نهض الفقير صاحب العيد - ممثلاً في أحد الأدباء الظرفاء - يعبر عن فقره ويتحسر على سوء حاله! وكان هذا سمر الأدباء في رمضان في (أحد مقاهي الحي اللاتيني القاهري) الذي استحق أن ينشر بإحدى المجلات في عدد خاص بالعيد. .

لا أنكر على أحد أن يمرح ويتفكه بما يريد، ولكن ما كل شيء ينشر، وهذا الذي رآه الناس منشوراً يلصق بالأدباء سمة التسكع ويومئ إليهم بشيء من الازدراء. ومن عجيب المفارقات أن أكثر هؤلاء الأدباء ليسوا من الفقراء، فمنهم الموظفون ذوو الدرجات العلى، ومنهم صاحب العمل الناجح، وفيهم ذو الفن المربح؛ وليس كل من فاته الثراء الطائل بفقير، وإذن فما (الأدب والفقر شقيقان) كما قال أحدهم. والفقراء المتسكعون حقيقة هم الأدعياء المتلصقون بالأدب.

على أن ذاك الذي يشغل به أولئك الأدباء أنفسهم ليس فيه قطرة من ماء الظرف، وإن كان به ماء آخر ينفع في هذا الصيف القائظ.

أول صندوق للبريد:

كتب الأستاذ حبيب جاماتي بمجلة المصور في (تاريخ ما أهمله التاريخ) يقول إن أول صندوق للبريد أنشأه المهدي الخليفة العباسي، وذلك أنه رغب في استماع شكايات رعاياه دون أن يكون بينه وبينهم وسيط، فكان يفتح أبواب قصره في أيام معينة من الأسبوع ليدخلها من يريد بلا استئذان، ليمثل بين يديه ويخاطبه في الأمر الذي يشكو منه. ولكنه رأى أنه قد يكون هناك من وقع عليهم ظلم أو من يعانون فقراً ولا يجرءون على الدخول عليه خشية أن تعقد ألسنتهم الرهبة فلا يستطيعون الإفضاء بشكواهم، فعول على تسهيل الأمر عليهم بتيسير أسباب الاتصال به بطريق الكتابة، فأمر أن يوضع على كل باب من أبواب القصر صندوق كبير مثقوب من أعلاه مثبت إلى الحائط بمسامير، لكل يضع فيه كل صاحب شكاية شكايته مدونة في رق أو قرطاس، واحتفظ هو بمفاتيح تلك الصناديق، فكان يفتحها كل يوم بنفسه ثلاث مرات، ويطلع على الشكايات، ويفحصها واحدة واحدة، وينصف أصحابها بقدر ما يستحقون الإنصاف

فكان هذا أول صندوق للبريد في التاريخ، وكان المهدي أول من أنشأه

والأستاذ حبيب جاماتي يكتب كثيراً من المعلومات التاريخية الطلية، ويجلوها ويشوق إليها بأسلوب سهل نير، تحت عنوان (تاريخ ما أهمله التاريخ) ولكن هل هذه المعلومات أهملها التاريخ؟ ومم استقاها إذن؟! ألا يوافقني على ضرورة تغيير هذا العنوان؟

السينما بمناسبة (المنتقم):

كان إنتاج السينما قد كثر بمصر في أثناء الحرب الماضية، وعلى كثرته قلت فيه القيم الفنية، وكان ذلك انحداراً بالفن المصري الذي نشأ من قبل، وكان في نشأته خيراً مما صار إليه أخيراً.

وأبرز عيوب الفلم المصري، من حيث التأليف والإخراج، خلوه من الفكرة، وقصوره في تصوير النواحي المختلفة للحياة المصرية، وعدم طواعية الأبطال للطبيعة البشرية، فالبطل مثلاً هو أبو زيد الهلالي الذي لا يهزم ولا يخطئ، وتكييف الحوادث بحسب ما يريد البطل الأول من المظاهر الاجتماعية، والاعتماد في التأثير على مؤثرات تهريجية لا على الإبداع الفني.

وقد كان الناس في خلال الحرب، وخاصة العمال الذين نالهم رخاء، يبتغون التسلية والترفيه، ولكن حال الجمهور تغيرت بعد الحرب، لتنبه الوعي القومي، وارتفاع نسبة المستنيرين حتى بين العامة، فهز كتفه إزاء البضاعة المعروضة وأعرض عنها إعراضاً أيقظ أولئك المنتجين من أحلام مكاسبهم، فقبضوا أيديهم، وكفوا عن الإنتاج.

وكان ذلك بشيراً بتطور جديد في هذا الفن، يلتمس فيما يجد من الأفلام. وعلى ذلك اهتممت بمشاهدة رواية (المنتقم) فوجدتها محاولة ليست بذات نصيب كبير من التوفيق، إذ لم تتغلب على أكثر ما ذكرت من العيوب العامة الحاضرة، ففكرتها تافهة وهي تقوم على شخص اعتدي عليه فتشبع بفكرة الانتقام ولكنه يقتنع أخيراً بأن المسامح كريم.

ومعمل الأدوية الذي بدأت به ودارت عليه حوادث الرواية ليس من الصور المصرية، والأشخاص بها ليسوا من البشر فالخيرون هم الخير كله والشريرون هم ذات الشر، وأراد البطل أن يكون أرستقراطياً حتى بعد أن عمى وخرج من العمل فكان له ما أراد. ولكن الرواية مع ذلك اعتمدت على الفن المعبر في هدوء وانسجام وخلت من المؤثرات التهريجية، وهذا هو ف رأيي ما يحسب لها في التطور الجديد المتوقع لفن السينما.

ولاشك أن هناك نواحي أخرى لرواية (المنتقم) ليس هنا مكان التعرض لها، وإنما قصدت إلى بيان عيوب في بناء قصة السينما على العموم بمناسبة عرض (المنتقم) وبيان موقف هذا الفلم من تلك العيوب، لتبين الطريق نحو ما يرجى من التطور الجديد.

(العباس)