مجلة الرسالة/العدد 731/عبرة من كتاب:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 731/عبرة من كتاب:

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1947



حذار يا سيدتي

للأستاذ سعيد الأفغاني

الآن، وقد بلغت بك نهاية الحديث عن السيدة عائشة ومغامراتها السياسية، وآثارها القريبة والبعيدة في حياة المسلمين أودعك موصياً أن تجعل بالك أبداً - كلما قرأت التاريخ - إلى عبره وتجاربه، فتأخذ من كل شيء أحسنه، وتربأ بنفسك وبأمتك أن تغامر في تجربة ثبت ضررها وفسادها، وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف. وأنا أريد أن أختم كلامي بالنص على عبرتين اثنتين من هذه العبر الكثيرة التي تعرض لقارئ هذا الكتاب، تنقذاننا مما نحن فيه اليوم من تخبط، وتنيران لنا طريقاً طال تعسفنا في المتاهات دون أن نهتدي إليه.

أما الأولى: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في المنازعات السياسية. إن لها أن تنصح وتبصر القريبين منها بعواقب الأمور، وليس لها أن تشارك في القلاقل والاضطرابات والفتن. إن بيدها مفاتيح خطرة في التأثير في نفوس الجماهير وفي استغلال حميتهم ونخوتهم ومشاعرهم، وهذا السلاح غير حميد في العواقبولا يصح استعماله بحال. وقد أبنت لك أنه لولا موقف السيدة عائشة في أمر عثمان ثم المطالبة بدمه من بعد لتغير مجرى الحوادث في تاريخنا التغير كله، ولسارت سيراً مأموناً مطرد الرقي مباركا، فيه الخير كل الخير للأقطار الإسلامية. . .

وكان الله الذي جعل النساء لتنشئة الرجال وتربية الأجيال وإدارة البيوت، أراد أن يعظ المسلمين عظة علمية لا تنسى، كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة، وفجعتهم بالألوف من الصحابة الأجلاء المهاجرين والأنصار ومن الفحول المذاويد من أبطال الفتح وأعاظم الفقهاء وأساطين القراء ورؤوس الناس. . . ليعلموا: إن لو كان أمر من أمور الرجال الخاصة بهم يقوم بامرأة، لقام بعائشة أم المؤمنين، تلك السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب والذكاء والعلم والبلاغة والصلاح. . . ما لم يؤته رجال كثيرون مجتمعين، والتي جمع الله فيها من المآثر العظام ما تفرق في العدد العديد من الفحول.

لقد خلدت حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين: كلما نزغ بهم نزغ من تقليد أعمى لغيرهم من الأمم؛ أو مس من رجعية ذميمة، فهبطوا بالمرأة من الصيانة إلى الابتذال، أو هموا أن يخرجوا بها عما خلق لها وخلقت له. . . قالوا لأنفسهم: أخفقت هذه التجربة في صدر تاريخنا؛ فما بنا من حاجة إلى أن نعيدها عبثاً، أو أن نهرق في سبيلها ثانية دماء جديدة ونخرب بيوتاً عامرة. . . ومن لنا مع هذا بمثل عائشة.

وليذكروا أبداً أقوال عائشة بعدما عاينت هول ما جرته مغامرتها السياسية على الأمة من ولايت، إنها قضت عمرها حسرة وندامة، حتى أذابت الحسرة قلبها وكبدها وحتى قتلها الحزن قتلا. وفي هذه الكلمات البليغات منها عبرة لنا أي عبرة:

(ليتني لم أخلق)، (ليتني كنت شجرة)، (ليتني مت قبل يوم الجمل بعشرين سنة) وقد كانت آخر كلماتها التي ودعت بها الحياة قولها: (إن يوم الجمل معترض في حلقي، ليتني لم أخلق).

إن هناك مجالاً واسعاً لنشاط المرأة حين تجد وقتاً فاضلاً عن شؤون التربية وإدارة المنزل، تستطيع به أن تملأ الأجواء خيراً ورحمة وإحساناً. هذه وجوه الخير مفتحة الأبواب في وسع المرأة أن تلجها فتمارس أموراً عظاماً وتبذل مجهوداً مشكوراً يعود على أمتها بما لا يقل عما يأتيه الرجال المحسنون ثمرة وغناء وطيب أثر.

أمامها من ميادين الخير: التمريض وإسعاف الفقيرات من بنات جنسها بالعلاج والدواء والطعام والكساء. وفي مجتمعنا من المحتاجات ما يشغل عشرات الجمعيات الخيرية من النساء ولا يفي بحاجتهن عشرات المستشفيات.

وأمامها أيضاً كفاح الجهل في بنات جنسها، فلتنشئ لهن المعاهد ذوات المناهج الصالحة لتنشئة الأمهات على ألا تستعير لها برامج الذكور (ببعض التعديل) فقد ثبت مع الزمن أنا حتى الآن لم نقم التعليم الصالح للبنات.

وهناك أمام المرأة العناية بتربية اليتيمات وإنشاء (المياتم) وتعهد أمهاتهن بالرعاية والتوجيه ثم إشاعة الثقافة الصحية بين النساء عامة. . .

ويجب أن ينشأ فيهن المتخصصات في جميع الفروع التي يحتاج إليها النساء والأطفال، وأن يكون منهن العدد الوافي بالحاجة بحيث يسددن عوز النساء في علاج أمراض العين والأسنان والأمراض الداخلية والجلدية وفي حاجات التوليد.

فإن كان ولابد من زيادة فإلى المساهمة في كفاح ما يتفشى في المجتمع من امتهان المرأة وإشقائها عن طريق البغاء والقمار والخمور وغيرها من المفاسد التي ضاق بشرورها المفكرون في الغرب والشرق. . .

لدى المرأة إذن كثير من أعمال الإحسان تنتظر من يقوم بها، وفي ذلك الخدمة المخلصة للأمة وأعمار البيوت وإفاضة الخير والسعادةفي المجتمع. . .

ونحمد الله على أن في فضليات نسائنا من تحاول سد هذه الثلمة، إلا أن نسبتهن قليلة جداً بالقياس إلى اللائي تنكبن الجادة متخبطات على غير بصيرة، فهجرن بيوتهن واكلات أمورهن إلى الخوادم، وطفقن يمارسن مالا يعود عليهن وعلى أسرهن وأمتهن إلا بالضرر الخالص والإفساد الكبير: من إقامة حفلات ساهرة مخجلة، وغشيان مجتمعات وأندية، واقتحام أسفار، وعقد مؤتمرات لا يبلغن فيها أمراً نافعاً، بل كثيراً ما يرجعن وقد سبقتهن أشأم الحوادث وأسوأ الأخبار. . . مما يدع السامع ينشد قول جرير يخاطب الفرزدق:

وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عاراً

يقلدن بذلك نساء ضج عقلاءأممهن من أحوالهن وسقط مقامهن فيها من كثرة هذا التبذل، والعبث، وعدن على بنات جنسهن من البريئات بأبلغ الضرر لما لوّثن من سمعة المرأة عامة. ليتنا إذا جئنا بالتقليد اخترنا من نقلد، ففي كل أمة من فضليات النساء النافعات من يحسن الاقتداء به، ولكننا ننتقي أحط المبتذلات ثم نسبقهن في الابتذال أشواطاً يخجلن هن أنفسهن من السعي إليها.

وأبعد من هذا، أننا إذا أمعنا في البيت وما يحتاج إليه تدبيره على خير نسق من علم واسع غزير في الصحة والأخلاق والتربية وعلم النفس، وسياسة الزوج والأطفال، وسياسة المورد والمصرف ورعاية ذلك كله. . . وجدنا أن علم ذلك وإتقانه وحسن إمضائه لا يكاد يبقى للمرأة القديرة ذات المواهب الجمة من فراغ أو جهد فكيف المتوسطات يله الضعيفات. إن ما يلزم لتصبح الأنثى امرأة (مثقفة) ليتضاءل أمامه - في اعتقادي - كل ثقافة ثانية مهما كانت رفيعة مفيدة.

وعلى المرأة الجادّة بعد ذلك واجبات عديدة تستطيع أن تشارك في شرف الخدمة فيها، على شرط واحد: هو أنتتم كل ما عليها من واجب نحو بيتها وأسرتها أولا، وإنما يكون التطوع والصداقة والإحسان فيما فضل عنك من مال أو وقت أو جهد.

هذا، ولست أقول إن المرأة لا نفع منها في باب السياسية، أستغفر الله، إن منها النفع كل النفع من طريق واحد فقط: هو أن تتحلى بكل فضيلة رسمها لها دينها ثم تنشئ عليها أولادها، فما في امرأة فرطت بفضائل دينها من خير قط. والناس على حق حين يهملون كل أدب واحترام إذا رأوا امرأة جامحة على الآداب النسوية التي شرعها الله. والدين للمرأة هو كل شيء في نظر زوجها وولدها وأسرتها والناس أجمعين، فإذا جاهرت بشيء من الخروج عليه فقدت كل احترام في النفوس، وانتقلت نظرة الناس لها دفعة واحدة من التقديس إلى الزراية.

إن من لم تكن أمينة على دينها لن ينتظر منها إلا الشر والخيانة لأسرتها ووطنها، مثلها في ذلك مثل الرجال: رق دينهم فلما مارسوا الشؤون العامة مالئين الدنيا صخباً بدعوى إخلاصهم ووطنيتهم، كان بلاء الأوطان منهم وحدهم إذ كانوا لا يخافون الله ولا يرعون لدين عهداً ولا لضمير حرمة، فانطلقوا يشحنون الأرض خسفاً وكسفاً ونهباً وسلباً واحتكاراً وغلاء وإهداراً للكرامات والقيم وتضييعاً للأمانات والحقوق. وبذلك ضربوا أسوأ الأمثال وأظهروا وطنهم بشر الظاهر. . . ومن مات وازعه الديني ونسى يوم الحساب فلن يرده عن طغيانه رادع من الناس ولا رقيب. . .

وأنا على يقين من أن أمهاتهم مسؤولات - إلى حد بعيد - عن هذا الخزي الذي ارتطموا فيه، إذ أهملن فيهم تربية الوازع وإحياء الضمير وإشعارهم خوف الله والحساب. لقد حرمنهم النشأة الدينية الفاضلة فلم يعرفوا لذتها، ولم يتعهدن ذمتهم وأخلاقهم ففقدوا في أنفسهم الكرامة الإنسانية، فلما تغلبوا وسيطروا كانوا فوق الوحوش ضراوة وشراسة وقسوة قلب، فعم البلاء البلاد والعباد. . .

إلى هذا الحد تبلغ جريمة المرأة الناشئة على غير دين، وتعظم المصيبة بها، وتستفحل آثار شرورها في مستقبل الأمة وسلامة المجتمع.

فلها إذن آثار بعيدة في السياسة، وهي تسدى لوطنها أعظم الفضل أو تبلغ منه أعظم النكاية، لا بنفسها مباشرة فقط، ولكن بنفسها وبما تنشئ عليه أبناءها سياسي الغد من فضائل أو رذائل، وبما تنال ضمير الناشئ ووازعه الديني من عناية أو إهمال.

ذلك وقد أعان على تردي المرأة في الخروج على أنوثتها وفطرتها فريق من أشباه الكتاب حملوا أقلاماً ولم يحملوا إخلاصاً ولا أمانة ولا نصحاً. دفعهم الرياء المغشوش على أن يغرقوا في مجاملة المرأة المشتطة الطائشة ابتغاء العبث بها وبكرامتها، فحمَّلوها فوق ما تستطيع من السخط على الطبيعة التي فيها لكل كائن عمل خاص. وكان حق المرأة على هؤلاء أن يأخذوا سيدة بيت ومربية أجيال. وكان من حقها أيضاً على من يزعم نصرتها أن يمسكها عن أن يهوى بها الطيش في مكان سحيق فتفقد ما لها من حرمة هي ملاك أمرها كله في المجتمع. ليتنا في غمراتنا اليوم نسترشد بتجارب الماضي ونسير غير متخبطين: نبصر مواطئ أقدامنا ونتقي المزالق، ونجند كلا في ميدانه الذي يصلح له. لقد تداعت علينا الأمم، وطمع فينا حتى (الصهاينة) من شذاذ الآفاق، وغزينا في أخلاقنا وبلادنا وأموالنا. . . وليس في جهودنا فضل ننفقه في رد العابثين عن عبثهم؛ فليتق الله حملة الأقلام وليصونوا الشاردات عن القطيع، وليرجعوا بهن عن طريق وضعن أقدامهن في أوله وما آخره إلا مستقبل أسود حالك للأنثى أولا، ثم خراب البيوت وهدم الأسر وارتكاس المجتمع وموت كل كرامة امتاز بها الإنسان من دون الحيوانات الدنيا.

وما الانهيار السريع الذي قضى على بعض دول الغرب العظمى في مثل لمح البصر بسبب فساد المرأة، ببعيد فينسى. ولنا فيه درس وموعظة وبلاغ.

سعيد الأفغاني