مجلة الرسالة/العدد 730/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
لعناوين أخرى، أنظر الميتة (موباسان)

مجلة الرسالة/العدد 730/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1947



هل كان حلماً؟

للشاعر الفرنسي جو دو موبوسان

بقلم الأديب جمال الدين الحجازي

لقد أحببتها بجنون، وما أدري لماذا يحب الإنسان؟ وما أغرب أن ترى شخصاً واحداً في الحياة يملك عليك مشاعرك، واسماً واحداً في الحياة تردده شفتاك، اسماً يتردد باستمرار ويصعد من أعماق النفس إلى الشفاه، اسماً يردده المرء كثيراً ويتمتم به في كل مكان كالصلاة!

وسأقص عليك قصتنا:

لقد قابلتها وأحببتها، وهذا كل ما حصل وكنت طوال العام أحيا بين أعطافها وأتمتع بدلالها ورقتها، ولم أعبأ آنذاك أكنت في نهار أم ليل، أكنت حياً أم ميتاً في هذه الحياة. . .

ثم ماتت. كيف؟ ذلك ما لم أدرك كنهه ولم أعرف عنه شيئاً ولكني أذكر أنها أتت إلى البيت ذات مساء في ليلة أشتد مطرها وهي تقطر ماء، فأصابها البرد في اليوم التالي ولزمت الفراش أسبوعاً. . .

أما ماذا حصل فلا أذكره الآن! وكل ما أذكره أن الأطباء كانوا يجيئون ويصفون لها العلاج الذي لم تقو على تجرعه إلا بمعونة صويحباتها. كانت يداها ساخنتين وجبهتها تكاد تتقد من الحرارة ونظراتها حزينة ساهمة، ولما تكلمت معها أجابتني، غير أني لا أذكر ما تحدثنا به، لقد نسيت كل شيء، أجل كل شيء. ثم ماتت، وأني لأذكر تماماً نظراتها الساجية وأتذكر قول الممرضة (آه) وعندها فهمت كل شيء. . . ولا أعرف شيئاً آخر سوى قول القس لي: أسيدتك! فظهر كأنه أهانها، وجاءني آخر وكان لطيفاً رقيق القلب وحدثني عنها فذرفت الدمع حزناً. . .

وعندما رأيت صويحباتها يسرن مع الجنازة، وليت الأدبار، وسرت في الشوارع شارد الذهن، وفي اليوم التالي ذهبت إلى باريس. ولما رأيت غرفتي هناك، ورأيت فراشنا وأثاثنا وكل ما تبقى من الأشياء بعد موتها، وجدتني غارقاً في بحر من الأحزان، فهممت أن أفتح النافذة وألقي بنفسي منها إلى الشارع إذ لم أستطع البقاء طويلاً بين هذه الأشياء التي تذكرني بها، وبين هذه الجدران الأربعة التي ضمتها في يوم من الأيام. . . ولما توالت على هذه الذكريات تناولت قبعتي وسرت. وعندما وصلت إلى الباب ومررت بالمرآة الكبيرة المعلقة في القاعة تذكرتها عندما كانت تقف أمامها للتزيين. . .

وقفت قليلاً أمام المرآة مرتجفاً وقد تسمرت عيناي في زجاجها، ولما لمستها وجدتها باردة، وقد أظلم زجاجها فعاد لا يعكس. . أتراه أظلم لفقد صاحبته! وما أسعد الرجل الذي يستطيع أن ينسى كل شيء يمر حوله. . آه كم أقاسي. . .

خرجت من منزلي ولم أدر إلى أين؟ ولم أشعر إلا بقدمي تقودانني إلى المقبرة! وهناك وجدت قبراً عادياً عليه صليب رخامي أبيض ووجدت هذه الكلمات محفورة عليه:

(لقد أحببت وكانت محبوبة وماتت) إنها في القبر! وألقيت بصري على الأرض وبقيت على هذه الحالة مدة طويلة إلى أن خيم الظلام على المكان. ورغبت في أن أقضي الليل باكياً بجوار قبرها ولكنني خشيت أن أرى فأطرد من المقبرة، فما العمل؟ آه إنني لداهية! لقد أخذت بالتجوال حول مدينة الموتى. سرت هنا وهناك. يا إلهي ما أصغر هذه المدينة إذا قورنت بمدينتنا الأخرى التي نحيا بها! ومع ذلك فكم يزيد الموتى عن الأحياء! إننا نقتني القصور الفخمة في دنيانا، ونشرب الماء الصافي من الينابيع، ونمتع أنفسنا بشرب الخمور المعتقة ولكن الموت يزيل هذا كله! وتضمنا الأرض في جوفها ويصيبنا العدم!!

وفي آخر المقبرة وجدت قبوراً قديمة يدل شكلها على أن الموتى بها قد ماتوا منذ عهد طويل لالتصاق قبورهم بالأرض، وقد تداعت الصلبان. . .

وكنت وحيداً فاستلقيت تحت شجرة خضراء، وأخفيت نفسي بين فروعها الغليظة، وهناك انتظرت طويلاً كربان تحطمت سفينته. . .

لما اشتدت حلكة الظلام، قمت وسرت بهدوء تام في أرض الموتى وتجولت مدة طويلة ولكنني لم أهتد إلى قبرها. . . فسرت ماداً ذراعي ناظراً إلى القبور، متحسساً بيدي ولكن دون جدوى لقد تحسست الحجارة والصلبات، وقرأت الأسماء بأصابعي بتمريرها على الأحرف فلم أعثر على قبرها. . .

ولم تكن الليلة مقمرة، وكنت خائفاً جداً، إذ وجدتني بين صفين من القبور. . . قبور في كل مكان، ولا شيء غير القبور! جلست على أحدها متهالكاً إذ لم أستطع السير أكثر من ذلك ولأن ساقي لم تقويا على حملي فكنت أسمع دقات قلبي وسمعت صوتاً آخر، ماذا؟! إن الصوت غامض وغير واضح، أتراه صوت نفسي في هذا الليل البهيم! تلفت حولي ولم أدر كم بقيت على هذه الحالة فتملكني رعب شديد وأحسست كأنني متأهب للموت.

وفجأة أحسست بأن حجر الرخام الذي كنت جالساً عليه يتحرك!! أجل كان يتحرك ويرتفع، وقد هالني ما رأيت، فقفزت إلى قبر آخر. . . وعندها رأيت الحجر الذي كنت جالساً عليه في القبر يرتفع ويظهر منه الميت عارياً وقد رفع الحجارة بظهره! لقد رأيته بوضوح وتمكنت من قراءة هذه الكلمات:

هنا يرقد جاكوس أوليفانت الذي توفى عن خمسة وخمسين عاماً. لقد أحب عائلته وكان محسناً شريفاً ومات. . . رحمه الله. . .

قرأ الميت ما كتب على قبره، فأخذ مدبباً من الأرض وأخذ يحك به الأحرف المكتوبة على قبره وبعناية وكتب بدلاً منها بعظمة كان يحملها بين أصابعه بأحرف مضيئة لامعة، كتلك التي يكتبها الأولاد على الجدران برؤوس عيدان الثقاب:

(هنا يرقد جاكوس أوليفانت الذي توفي عن خمسة وخمسين عاماً، لقد تعجل موت أبيه لأنه طمع في ثروته، وعذب زوجته وأولاده، وغش جيرانه، وسرق كل شيء استطاع سرقته، ومات بائساً).

ولما أتم كتابته وقف ثابتاً لا يتحرك وهو ينظر إلى عمله وتلفت حولي فوجدت جميع القبور مفتوحة وقد خرج منها جميع الموتى وأزال كل منهم تلك الأكاذيب التي خطها أقاربه على قبره واستبدلها بالصدق والحقيقة!

كان هؤلاء الموتى يعذبون الناس في حياتهم، ويأكل الحقد قلوبهم، ويسرقون ويغشون ويرتكبون كل خطيئة. . . هؤلاء الآباء الطيبون، هؤلاء الزوجات المخلصات، هؤلاء الفتيات العفيفات، كل أولئك كان يكتب على قبره في وقت واحد الحقيقة. . . الحقيقة المفزعة التي كان يجهلها أو يتجاهلها كل إنسان حينما كانوا في حياتهم الدنيا. . .

وقد اعتقدت بأنها هي الأخرى لا بد أن تكون قد كتبت شيئاً على واجهة قبرها. فسرت بين صفين من القبور المفتوحة إلى قبرها غير خائف، تأكدت من وجدها وعرفتها حالا. وعلى الصليب الرخامي الذي كان مكتوباً عليه قبل قليل:

(لقد أحببت وكانت محبوبة وماتت).

رأيت مكتوباً بدلها:

(بينما كانت ذاهبة في يوم ماطر لتخون حبيبها، أصابها البرد فماتت).

. . . وعند مطلع الفجر وجدت ملقى على القبر لا حراك بي.

(القدس)

جمال الدين الحجازي

الندوة الأدبية