مجلة الرسالة/العدد 73/لونجفلو
مجلة الرسالة/العدد 73/لونجفلو
الشاعر الأميركي الملهم
بقلم: مأمون اياسي
لا شك أن (هنري وودسورثو لونجفلو) الشاعر الأميركي النابه غني عن التعريف إلى قراء الإنجليزية، وأن قصته الشعرية (ايفانجلين) تعد في طليعة الآثار الأدبية الخالدة التي خلفها، وخدمة لمن لم يقرأوا هذا الشاعر العبقري رأينا أن نكتب هذه النبذة عنه فنقدم لهم بذلك أحد الشعراء العالميين الذين يقدمهم الشعب الأميركي.
ولد (لونجفلو) في 27 فبراير في سنة 1807 في مدينة (بورتلاند) في ولاية (مين) وقضى طفولته وصباه في بيت واقع في شارع (الكونجرس) ما زال إلى الآن محفوظاً على حاله الأولى عندما كان يعيش فيه الشاعر العظيم. ويحج إلى ذلك البيت آلاف من الناس الذين يذهبون إلى (بورتلاند) في كل صيف، ويدخلون إليه للتفرج على كل غرفة من غرفه، وعلى مطبخه الذي ما زالت الأواني الثقيلة مبعثرة على مواقده منذ مائة عام ونيف. ثم يصعدون إلى غرفة في الدور الثالث ليروا السرير الخشبي الذي كان ينام عليه (لونجفلو) ويطلوا من النافذة التي كان يرى منها المنارة الموصوفين في إحدى قصائده.
وكانت (بورتلاند) مدينة موافقة لفتى له روح (لونجفلو) الحساسة الرقيقة، إذ كانت شوارعها الطويلة المظللة بالأشجار الوارفة، وأحراجها المكتظة، وشاطئها الشعري الهادئ ميداناً خصباً لخياله الواسع.
كان (لونجفلو) في السادسة من عمره عندما عاد من المدرسة يوماً وناول والده شهادة - لم تزل محفوظة للآن - كتبت فيها معلمته بأنه تلميذ مجتهد وأخلاقه قويمة. وبعد ذلك بسبعة أعوام عندما كان في الثالثة عشر من عمره كتب قصيدة يصف فيها إحدى المواقع المشهورة بين الأميركيين والهنود الحمر. وكان على ثقة تامة بأنها جديرة بالنشر، فاستجمع شجاعته ورماها في صندوق إحدى الجرائد، ولكن رئيس تحرير تلك الجريدة لم يوافقه على رأيه فكان نصيبها سلة المهملات. فما كان من الشاعر الصغير، وقد جرحت كبرياؤه، إلا أن أرسل القصيدة إلى جريدة منافسة فنشرتها. وقد قال بعد سنين عديدة بأن الشعور الذي استولى عليه عندما رأى أول شعر له مطبوعاً لم يعاوده بعد ذلك لدى نشر أي شعر آخر.
وكانت حياته المدرسية بعد ذلك نجاحاً مضطرداً وتفوقاً يثير الإعجاب. وعندما أتم علومه في جامعة (بودوان) راح يلتمس من والده إرساله لقضاء سنة في جامعة (هارفارد) واعترف له بما يجول بخاطره من آمال قائلاً: (الحقيقة يا والدي هي أنني أطمع في مستقبل أدبي حافل. إن نفسي لتتحرق شوقاً إلى ذلك) ولكن والده نصحه بأن يفكر في صنعة تكفل له عيشه غير صنعة الأدب. وأرغم الشاب على النزول على إرادة والده والعمل بنصيحته، فدخل كلية الحقوق. ولكن أحد المفتشين سمعه مرة يلقي ترجمة لمقطوعة من أصعب آثار (هوراس) فأعجب به، وعندما كانت الإدارة تفكر في إدخال فرع جديد للغات الحديثة في برنامج الجامعة وقع اختيار ولاة الأمر على (لونجفلو) ليكون أستاذاً لذلك الفرع، ولما يتخط عامه التاسع عشر، ولكنهم اشترطوا عليه أن يمضي ثلاث سنوات في أوروبا فيدرس لغاتها ثم يعود. ووافق والده على تزويده بالمال الكافي للقيام برحلته، وأبحر الأستاذ الشاب إلى أوروبا بقلب مفعم حياةً وأملاً، فقضى ثلاث سنوات متنقلاً بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وإنجلترا، فدرس لغاتها وأحوال أهلها وطرق تفكيرهم، ثم عاد ليقوم بأعباء منصبه بنشاط وحماس، ويتقاضى تسعمائة دولار في كل شهر (وهذا المبلغ كان يعد ثروة في ذلك الحين).
لم يكن تدريسه في جامعة (بودوان) وإدارة مكتبتها ليعوق (لونجفلو) عن الكتابة شعراً ونثراً، فواصل جهوده في النظم والتأليف، ولكن كتاباته اقتصرت إلى حد ما على الموضوعات التي كان يدرسها.
وثبت اسم الشاعر في عالم الشهرة حتى أن إدارة جامعة (هارفارد) طلبت إليه أن يتولى رياسة فرعها للغات الحديثة عندما استقال أستاذها. فقرر (لونجفلو) القيام برحلة ثانية إلى أوربا استزادة في درس اللغات والآداب. وعندما كان في هولندة وصله نعي امرأته فواصل أبحاثه بقلب مثقل بالهم والحزن.
وهنالك نادرة تحكى عنه عندما عاد من أوروبا ليتولى عمله في (هارفارد)، وكان في الثلاثين من عمره، ولكن هيئته لم تكن لتدل على ذلك، فذهب إلى (بنسيون) ليستأجر غرفة فيه، فنظرت إليه صاحبة (البنسيون) من رأسه إلى قدمه وقالت له: (أنا لا أقبل تلامذة عندي) ولكنه قال لها (لست تلميذاً). أنا الأستاذ (لونجفلو). فما كان من السيدة إلا أن قالت له وهي تفتح الباب على مصراعيه: (إذا كنت مؤلف (وراء البحار) فتفضل على الرحب والسعة) - (ووراء البحار) هو الكتاب الذي وضعه أثر رحلته الأولى إلى أوربا، ووصف فيه تلك السلسلة من الأسفار في بلدانها - وقادته السيدة إلى غرفة في الزاوية الشرقية في منزلها قائلة: (كانت هذه غرفة الجنرال وشنجطن ويمكنك أن تنزل فيها.) وبقيت تلك الغرفة مسكنه طوال السبع عشرة سنة التي قضاها في (هارفارد).
وفي سنة 1842 قام برحلته الثالثة إلى القارة الأوربية. وبعد ذلك بسنة تزوج مرة ثانية وقضى ثماني عشرة سنة في هدوء بين أطفاله وعائلته وأصحابه والقصائد التي كان ينظمها تترى.
دعي الكاتب المعروف (ناثانيال هوثورن) مرة إلى الغداء على مائدة (لونجفلو) مع صديق للأول. ودار الحديث على الغداء حول قصة جرت وقائعها بين (نوفاسكوتيا) - وهي شبه جزيرة ملحقة بكندا - والولايات الأمريكية الشرقية. فقال صديق (هوثورن) مخاطباً (لونجفلو) (أنا أجرب أن أقنع (هوثورن) بكتابة قصة عن الحادثة، ولكنه لا يرى فيها فكرة لقصة).
فسأله (لونجفلو) أن يسرد على مسامعه تلك الحادثة عله يجد فيها المواد لقصيدة أو أنشودة.
ولخص له الصديق الحادث بقوله: (كانت مقاطعة (نوفاسكوتيا) التي كان يسميها الفرنسيون (أكادي) تنتقل من أيدي الفرنسيين إلى الإنجليز ثم يسترجعها الفرنسيون، وهكذا إلى سنة 1713، إذ انتقلت إلى الإنجليز بموجب معاهدة (أوترخت) وهي باقية تحت سلطتهم إلى يومنا هذا. وكان يغلب على سكانها الدم الفرنسي. فنشأت عداوة بين العنصرين الإنجليزي والفرنسي، أدت إلى منازعات ومناوشات دائمة. وتفاقمت الحال في شبه الجزيرة حتى أصبح من الصعب جداً على الحكومة تهدئتها، فاستنبطت حيلة لم تجد أنفع منها في تلك الأحوال، وهي نقل (الأكادييين) إلى جهات أخرى من أمريكا الشمالية حتى لا يتيسر لهم الاجتماع بالسكان الإنجليز. وكانت الطريقة الني نقل بواسطتها أولئك المساكين غاية في الغلظة والفظاظة. طلب الحاكم إلى جميع الرجال والفتيان الذين تزيد سنهم على العشر سنوات أن يجتمعوا في الكنيسة، لأنه سيذيع عليهم أوامر هامة من السلطة. واجتمع الرجال والفتيان، وهم يتساءلون عما أوجب حشدهم بتلك الطريقة، وما أن دخلوا الكنيسة حتى حاصرتهم الجنود من الخارج، وألقى الكاهن على مسامعهم الأمر الرهيب بصوت ملأه حنواً ورأفة. وفي مدة قصيرة كانت السفن حاضرة على الشواطئ، فحشد فيها السكان بطريقة عسكرية قاسية كان من نتائجها أن تفرقت أسر كثيرة، وأضاع أفرادها بعضهم بعضاً.
وكان بين الذين نقلوا إلى الولايات الشرقية فتى وصبية كان الكاهن قد عقد قرانهما في ذلك الصباح فقط. فأضاع أحدهما الآخر، وبقيت (إيفانجلين) تجوب السهول والقفار وتقطع الأنهار، وتنام الليالي على الطوى كل حياتها باحثة عن (جابريال) إلى أن انخرطت في سلك الممرضات، بعد أن قطعت الأمل في وجوده، فإذا بها يوماً تلتقي به بين المرضى، فعرفته برغم التغير العظيم الذي طرأ عليه. وكانت صدمة عنيفة أودت بحياته لضعفه، وأودت بحياتها هي لسرورها وحزنها المتعاقبين.
وما انتهى الصديق من سرد قصته حتى التفت (لونجفلو) إلى (هوثورن) قائلاً: (أتعدني بألا تكتب شيئاً عن هذه الحادثة حتى أنتهي من نظم قصيدتي؟) ووعد (هوثورن) وبدأ (لونجفلو) في نظم القصيدة التي خلد فيها بطلي ذلك الحادث، فخلداه بدورهما، وجعلت (ايفانجلين) اسمه يطبع بحروف كبيرة على صفحات الجرائد، وتتوارد عليه رسائل الإعجاب تترى.
ومن الغريب أن (لونجفلو) لم ير قط مشاهد قصيدته، مع أن الوصف فيها كان مطابقاً للحقيقة كما شهد الذين سكنوا تلك الأمكنة
وقد اقتبست من قصة (ايفانجلين) رواية سينمائية أخرجت في عهد السينما الصامتة، وقامت بالدور الأول فيها الممثلة المكسيكية الفاتنة (دولوريس دليرو).
بيروت
مأمون اياسي