مجلة الرسالة/العدد 726/قضى الأمر. . .
مجلة الرسالة/العدد 726/قضى الأمر. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
قضي الأمر، وانتهت الحكومة القائمة عن ترددها، وألفت الوفد الذي سيذهب إلى مجلس الأمن ليعرض موضوع الخلاف الذي بيننا وبين بريطانيا. وعن قليل سيسمع العالم كله لقضية مصر والسودان، ويصغي إلى حجتنا التي ستلقى إليه، وإلى حجج بريطانيا في دفاعها عن الذي تدعيه. ولو كان الأمر أمر عدل وأنصاف وبعد عن التحيز وأنفة من الظلم، لما بالينا أن ندعو حكومتنا أو شعبنا إلى خطة سوى عرض القضية كما هي، بلا حاجة إلى تتبع سوءات بريطانيا وعورات أفعالها. ولكن لا عدل ولا أنصاف، بل هو التحيز والظلم. هذا ما ينبغي أن نتوقعه بعد الذي كان من موقف الأمم الغربية والأمة الروسية من أعظم قضايا الشرق وأوضحها برهانا وأبينها حجة، أعني قضية فلسطين.
ولسنا نقول هذا تثبيطا لوفدنا أو لشعبنا؛ كلا فإن القضية المصرية السودانية قضية للجهاد لا للسياسة. فلنفرض أن المم ظلمتنا وتحيزت لبريطانيا فجارت علينا وضلعت معها فلن يضيرنا ذلك، بل هو الداعي الأعظم إلى الاستماتة في الجهاد إلى أن ننال حقنا غير منقوص ولا مهتضم. ولكن هذا المر المحفوف أو المتوقع يوجب علينا أشياء لا مناص لنا من المحافظة عليها والحرص على أدائها.
فقد كان من سياسة بريطانيا قديما أن تمزق وحدة هذا الشعب وتوقع بين أبنائه العداوة والبغضاء وقد فعلت، فصارت أحزابنا تسيرها شهوات رجال يتطلعون إلي مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء أو سراب الماء وكان من سياستها أن تلاين وتساير حتى يصبح السودان شيئا قائما بذاته أو كالقائم بذاته، ففعلت. وكان من سياستها أن تغري شهوات قوم من أهل السودان بالحكم أو بالسلطان، ففعلت، وانقسمت فئة من أبنائه مضللين بوعود كاذبة لن تتحقق، وخرجت عن بقية الشعب مؤزرة بالمال ففجرت ومررت، بريطانيا من ورائهم تنفخ في نيرانهم حتى يأتي اليوم الذي يجعلونهم فيه حربا على بلادهم وهم يظنون إنهم يعملون لخيرها وفلاحها. تم ذلك كله لبريطانيا، ولكننا مع ذلك لا نبالي به قليلا ولا كثيرا، لأننا نعلم أن هذا الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكي الفؤاد، تجتمع قلوبه عند المحنة يدا واحدة على عدوة الباغي إليه الغوائ بيد إننا الآن في ساعة غير التي كانت بالأمس، فالقضية المصرية السودانية سترفع عن قليل إلى مجلس الأمن، أي مجموعة من الدول لبريطانيا عليها فضل، أو لها عليها تأثير. والزمن الذي ستعرض فيه لن يطول كما كانت تطول سياسة بريطانيا وأذن فقد أصبح واجبنا نحن أن نتآزر ونتداعى ولا ندع هذه الفرصة تقلت منا ونحن عنها غافلون.
ليكن الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن وفدا لم تجتمع له الصفات التي تنبغي أن تجتمع لوفد مصر، وليكن رئيس الحكومة الذي سيرأس الوفد رجلا غير الذي كانت ترجوه بعض الأحزاب، وليكن أعضاء الوفد رجالا غير الذين كنا نتوقع أن يكونوا - ليكن كل ذلك، ولكن أليسوا مصريين سودانيين يجاهدون ما استطاعوا في سبيل حق مصر والسودان في الحياة الحرة التي تنبغي أن تكفل لكل حي ولكل أمة؟ أليسوا رجالا منا قد انبروا للمحاماة عنا في مجلس يخشى أن يكون أقرب إلى عداوتنا منه إلى صداقتنا؟ أليس مطلبهم هو مطلب مخالفيهم من سائر الأحزاب فيما يخص مصر والسودان؟ بلى، وما أظن أحدا من مخالفيهم يستطيع أن يقول خلاف هذا أو يدعي نقيضه.
وهذا المجلس الذي هو أقرب إلى العداوة منه إلى الصداقة، لن يفرق بين مصري نختلف عليه أو وصري نتفق عليه. وبريطانيا لن تكون أقل عنفا ولجاجة إذا كان الذي يرتفع بالقضية إلى مجلس الأمن إنسانا اتفق المصريون والسودانيون عليه، لأنها تريد بكل ما تبذله أن تأكل حق هذا الوادي وتحيف على مستقبله، لا تبالي بما يسمى أقلية أو يسمى أكثرية. وإذن فالعقل قاض علينا بأن نلقاها ونلقي مجلس الأمن يدا واحدة وعلى قلب رجل واحد أيا كان هذا الرجل. ونحن نعلم أن هذه دعوة قد كثر الداعون إليها فباءوا بالخيبة مرة بعد مرة، ولكن كان العذر عندئذ قائما، فإن الحكومة لم تكن قد ارتفعت إلى مجلس الأمن بعد، وكان هناك مجال لشهوات الأحزاب أن ينال أحدها فضل التقدم للدفاع عن حقوق مصر السودان أما الآن فقد قضى الأمر، فمصر والسودان تطالب أحزابها بحقها عليها، فإذا أحجم أحدها، أو أحد رجالها، عن الذي تقتضيه عليه حقوق الوطن، فذلك (خائن) خائن بمعنى الصريح التام الشامل الذي تنطوي عليه هذه الكلمة.
وكلمة الخيانة كلمة عظيمة نأنف أن يتصف بمعناها مصري سوداني لأنها تصم صاحبها بأنذل ما يكون في الطبيعة البشر، وهي جريمة لا تغتفر، وجزاؤها جزاء لا يحد. ولا نظن أحدا أحب أن يعرض نفسه لها راضيا عامدا قط، بل الظن إنه إنما يخطئ وجه الصواب فيقع في أقبح العيب ويخوض في أشنع العار. وقد جاءت الساعة التي توجب على كل مصري سوداني لن يقف ساكنا هادئا مفكرا متورعا خشية أن يقع في هذه الخطيئة أو يلم بهذا الإثم، وأن يحرر نفسه لحظة من شهواتها الجامحة، وينفض عن قلبه غبار أعوام من الأحقاد الحزبية والسخائم الوزارية، ليتطهر لوطنه وبلادة، وليستهدي بهدى الوطن في ساعة المحنة. إنها أعظم خطيئة يفارقها مصري سوداني منذ اليوم، لأنها خذلان لوطنه في ساعة يرى فيها الأعداء يتناهشونه من كل مكان، ويريدونه بالشر من كل ناحية، ويكيدون له أخبث الكيد في كل أرض.
ولن يضير أحد أن يكون له رأي يخالف هؤلاء الرجال الذاهبين إلى مجلس الأمن في شئون لا علاقة لها بمجلس الأمن، فيدع عناد الرأي إلى مناصرة الحق - بل إلى مناصرة وادي النيل في حقه الطبيعي الذي لا يعرف الرجال وأراءهم وسياساتهم، بل يعرف حقه على أبنائه من أي رأي كانوا، وفي أي زمن ولدوا، وعلى أي دين نشأوا. أقول هذا وأنا غير يائس من أن تجتمع كلمة هؤلاء المختلفين إلى هذا الحق البين الذي لا ينازع فيه عاقل.
وأنا أدعو (الكتاب) الذين أنتسب إليهم بهذا القلم، أن يجتمعوا على رأي واحد، ويقومون مرة واحدة لدعوة الشعب إلى الطريق الحق، وأن يبرئوا أقلامهم من الأحقاد الصغيرة التي أنشأتها بينها بريطانيا يوم مزقتنا أحزابا، ليملأوها بالحقد الأعظم على العدو الأعظم الذي لم يدع لنا عرضا إلا هتكه، ولا فضيلة إلا لوثها، ولا كرامة إلا تهجم عليها بالتحقير ولا تشنيع. وإنما أوجه دعوتي إلى الكتاب، لأنهم هم أصحاب الرأي الأول، وهم بناة الأمم، وهم حياة الشعب، وهم القوة التي تؤازر الضعيف حتى يدع الحق لأهله. أن التبعة الملقاة على كواهل الكتاب، فهي أعظم من تبعه الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن، لأنه بدونها لا يستطيع أن يواجه هذه الأمم مواجهة الند للند، ومواجهة صاحب الحق لظالمة، ومواجهة المؤمن بقضيته للكافر بهذه القضية. ولو فعل الكتاب ما يوجبه عليهم حق مصر، فلن يستطيع مخالف أيا كان أن يفت في عضد الذاهبين بقضيتنا إلى مجلس الأمن، وليس اليوم لهو ولا لعب ولا شهوات، بل هو يوم الجد والصبر والزهد، وظني بالكتاب إنهم أسرع الناس إلى معرفة مفصل الصاب في كل أمر، فإن يخطئوا أن يغرفوا ذلك وثرى مصر والسودان يهمس لهم داعيا مؤلبا حافزا على العمل لحرير بلادهم من نير العبودية.
وأنا مؤمن بأننا سننال حقوقنا كلها كاملة، شاء مجلس الأمن أم أبى، وبأننا صائرون إلى ساعة تجتمع فيها القلوب المصرية السودانية على كلمة واحدة، شاء رؤساء أحزابنا أم أبوا، وبأن المستقبل قد بانت لنا معالمه، فإن عميت عنه عيون قد تقادم عليها الزمن فخبا ضوؤها، ففي الوادي عيون ناظرة مبصرة لم تطمس نورها حزازات الماضي ولا شهوات الحكم، وأنهم هم الذين سيحكمون على الرجال حكما لن يرد. إنهم مصر والسودان أيها الساسة، فاحذروا مصر والسودان وأحكامها عليكم، فمن وضعته فهو الموضوع إلى يوم الفصل، ومن رفعته فهو المرفوع إلى آخر الدهر!
محمود محمد شاكر