انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 720/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 720/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 04 - 1947


11 - تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

خيوط من النور

وبطل هذه القصة التي هي في الواقع مجموعة فصول أقوى مثال للصعلوك الذي لا يكترث لشيء والذي لا يتأثم من شيء، والذي يرضى كل الرضاء عن أعماله جميعاً لا يشعر بأي أثر في نفسه مما يسميه الناس وازع الضمير؛ وفكرة القصة الرئيسية التي تدور حولها حوادثها هي أن هذا الصعلوك المسمى شيشكوف قد اعتزم أن يشتري من ملاك الضياع من يموت من رقيق الأرض قبل أن يسجل في سجل الموتى اسمه، لكي يرهن هؤلاء للمصرف على أنهم أحياء ويربح من وراء ذلك ربحاً كبيراً؛ وينتقل من مالك إلى مالك يتواطأ معهم على الإقرار بوجود هؤلاء الرقيق، وفي أثناء ذلك يصف المؤلف حال هؤلاء التعساء الذين يقول عنهم إنهم لا يحيون كما يحيا الخلق وإنما يوجدون فحسب! وكان هؤلاء الرقيق يسمون في روسيا وقتذاك الأنفس وكان الواحد يسمى نفساً، فإذا سأل أحد الملاك صاحبه عن عدد رقيقه قال له كم نفساً تمتلك، ومن هنا جاء اسم القصة (الأنفس الميتة)؛ والقصة مليئة بتلك السخرية القاسية وذلك الضحك الشيطاني الذي يتميز به فن جوجول. . .

ونشر جوجول في نفس الوقت الذي نشر فيه (الأنفس الميتة) قصة كان لها أثرها في النفوس؛ وهي ثالثة ما أشرنا إليه من قصصه، ألا وهي قصة (العباءة) أو (المعطف) أو يؤدي معنى الرداء الخارجي الذي يلبس فوق الملابس جميعاً اتقاء للبرد، وخلاصة هذه القصة أن أحد الكتبة الفقراء وهو شيخ ضعيف كانت أعظم أمنية له أن يشتري معطفاً، فما زال على خصاصته يقتصد من ماله القليل حتى اشترى المعطف المنشود، ولكنه مُنى في أول يوم فرح فيه بمعطفه بفتية من صعاليك الشوارع سرقوا منه المعطف فقضى نحبه من فرط غمه ويأسه، والقصة على بساطة موضوعها تصف البؤس والشقاء وسوء الحظ أقوى تصوير وأصدقه. . .

ولجوجول كما أسلفت القول غير هذا الذي ذكرت كثير من القصص الطويلة والقصيرة والمسرحيات والنبذ الوصفية وما إليها وإنما اخترت هذه القصص الثلاث لأنها أكثر صلة بما نريد بيانه وأعني به كيف عبر أدباء الروس بالفن عن ثورة نفوسهم المكبوتة

وهكذا كان بوشكين وجوجول ومن دار حولهما من النوابغ يلقون على الأفق الحالك في حكم نيقولا الأول خيوطاً من النور كانت لأنفس الأحرار أنساً وشفاء وعزاء. . .

بقيت بعد ذلك كلمة عن تيارين فكريين قوى ظهورهما في عهد نيقولا وأعني بهما المدرسة الشرقية والمدرسة الغربية، أو بعبارة أخرى الاتجاه نحو أوربا والإبقاء على سلافية روسيا. . .

وكانت المدرسة الشرقية أو السلافية تؤمن بان مدنية روسيا غير مدنية أوروبا، وأن على الروس أن يحذروا مادية الغرب الوضيعة وأن يعودوا إلى تلك الجماعات التعاونية التي أقامها السلاف الأقدمون في قرى روسيا؛ وكانت قادة هذه المدرسة يعتقدون أن بطرس الأكبر لم يخدم روسيا بقدر ما أساء إليها بمحاولته صبغها بالصبغة الأوروبية، وكذلك كان أنصار السلافية يعدون الغرب في طور انحلاله لأنه بعد عن الجانب الروحي من الحياة، ذلك الجانب الذي اتصفت به روسيا السلافية والذي يجب أن يعيده الروس اليوم سيرته الأولى فينعموا بالإيمان والمحبة والتعاون فيما بينهم، ثم يذيعوا هذه المبادئ حتى تشمل الإنسانية جميعاً فيكون ذلك رسالة روسيا إلى العالم.

أما أنصار المدرسة الغربية، فكانوا يعزون ما في روسيا من شقاء العيش وطغيان الحكام إلى عزلتها عن أوربا وفلسفة أوربا وعلم أوربا. فإذا أرادت روسيا أن تخرج مما هي فيه فعليها أن تأخذ بمدينة أوربا في كل شيء فهذا سبيلها الذي لا سبيل لها غيره.

ومهما يكن من خلاف بين المدرستين فقد أفادت روسيا من دفاع كل منها عن وجهتها، وكانت لها من خلافهما يقظة، وبخاصة لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على أمر جوهري وذلك أنه في أي الوضعين لا يرجى لروسيا خير إذا أسلم أمرها إلى رجل واحد يستبد فيها بالأمر، ويصرف شؤونها كما لو كانت ضيعة من ضياعه.

هذه لمحة في الحال الأدبية في روسيا حتى أواخر حكم نيقولا الأول أي حوالي سنة 1851 عندما بدا الفتى ليو تولستوي يتجه في جد إلى الأدب ليغدو بعد أمد غير بعيد أعظم كتاب القصة في القرن التاسع لا في روسيا وحدها بل في أوروبا جميعاً.

هجرته إلى القوقاز

كان لابد للفتى من هجرة إلى بلد ما، فقد ضاقت نفسه بيسنايا وبموسكو وببطرسبرج جميعاً، ومل حياته بين العبث والإسراف فيه والندم والركون إليه حتى لم يعد يطيق شيئا من هذا، بل إنه لم يعد يصبر حتى على التفكير فيه. . .

واتفق أن جاء من القوقاز أخوه الضابط نيقولا إلى يا سنايا في إجازة عيد الميلاد فنصح لأخيه نصحه في كثير مما كان يشغل باله، ومن ذلك أن يدع الزواج حتى يطمئن إلى ارتباطه برباط الحب ثم حبب إليه أن يصحبه إلى القوقاز فما أسرع ما أخذ ليو برأي أخيه وتأهب للرحيل. . . واتفقت الأسرة أن يصرف زوج أخته أمور ضياعه في غيابه وأن يدفع عنه ديونه وذلك على أن يقنع ليو بخمسين ومائة جنيه كل عام حتى يؤدي الدين كله، وقبل ليو هذا الشرط وسافر في صحبة أخيه. . .

ووقفت بهما العربة عند أول محطة على بعد أربعة عشر ميلا فما راعه إلا كلبه الأسود المحبوب قد أقبل يلهث من شدة الحر ومن سرعة العدو حتى لحق به، وعلم بعد ذلك أنه كسر لوحا من زجاج إحدى نوافذ الغرفة التي كان محبوسا بها وانطلق يعدو ليدركه لأنه لا يطيق أن يرحل عنه.

ويذكرنا هذا الرحيل برحيل (تشايلر هارولد) أو اللورد بيرون حين اضطر إلى مغادرة انجلترة إذ ضاق بها وضاقت به بعد أن أسرف على نفسه فيما أنكره المجتمع منه، وقد وجه بيرون الخطاب إلى كلبه في أول قصيدته التي وصف فيها رحلته يقول إنه لا يجد من يأسف على رحيله حتى كلبه هذا فلسوف ينساه وينكره حتى ليثب عليه ويعضه إن قدر له أوبة من غربته. .

كانت رحلة بهيجة سارة، فقد قطعا جانباً منها إلى استراخان في زورق على صفحة الفلجا، وقد عرجا على موسكو وقازان وقضيا بضعة أيام في كل من المدينتين، وكتب ليو من موسكو إلى عمته تاتيانا يخبرها في لهجة الفخر أنه استطاع أن يقهر نفسه حين زار ناحية الغجريات، ويصف لها مقدار ما بذل من مغالبة منه لنوازع نفسه حتى أمكنه أن ينتصر بعد جهد بالغ. . .

وفي قازان قابل تلك الفتاة التي عرفها منذ نحو خمسة أعوام صديقة لأخته ماري وأحس يومها بميل شديد نحوها وهي زنايدا مولستفوف، ولقد أحس أنه على الرغم من تلك الأعوام الخمسة لم يزل بها متعلقا. قال في يومياته بعد ذلك بشهرين (لم أفه بكلمة من كلمات الحب، ومع ذلك فقد كنت واثقا أنها كانت تدرك مشاعري، ولئن كانت بادلتني إياها فذلك لأنها كانت تفهمني. . كانت صلاتي بزنايدا يوم ذاك لا تعدو تلك المرحلة البريئة، مرحلة انجذاب روحين كل منهما نحو الأخرى؛ أيداخلك الشك في أني أحبك يا زنايدا، إن كان ذلك فإني أسألك الصفح فإن الخطأ خطأي إذ كان على أن أؤكد لك ذلك بكلمة. . أتذكرين حديقة كبير القساوسة يا زنايدا وممرها الجانبي؟ كان على أثلة لساني ما أفصح به عما في نفس كما كان على لسانك، ولكن كان عليَّ أن أكون أنا الباديء؛ أتدرين لماذا فكرت ثم لم أقل شيئا؟ ذلك لأنني كنت من السعادة بحيث لم يبق ما أرغب فيه، وخشيت أن أفسد لا هناءتي وحدي بل هناءتنا. . وسيبقى هذا اللقاء أعز ذكرى إلى نفسي حتى نهاية حياتي).

غادر ليو قازان إلى القوقاز مستمتعاً بصحبة أخيه، مبتهج النفس بما تركه فيها لقاء زنايدا، مرتاحا إلى ما يهجس في خاطره من أنه انطلق من حياة العبث انطلاقا لا رجعة فيه؛ ويجد القارئ وصفا لهذه الحال النفسية في شخصية أولينين بطل قصة (القوزاق) التي كتبها بعد ذلك بقليل، وكان أولينين كذلك مسافراً قال (في مثل هذه الحال العقلية السعيدة التي يحدث فيها نفسه فجأة شاب يستشعر أخطاءه الماضية قائلا إن ذلك لم يكن حقيقياً، فكل ما حدث في الماضي كان عرضا عديم الأهمية، وإنه حتى ذلك الوقت لم يكن حاول محاولة جدية أن يعيش، ولكن حياة جديدة بدأت تتهيأ له أسبابها، حياة لا شيء فيها من خطأ ولا من ندم، فليس إلا السعادة. وكان من الأمور البينة أن تلك الأخطاء لن تعود بين الجبال ومساقط المياه والأخطار والشركسيات الحسان)

وجد المسير بهما جده حتى بلغا ستارى يورت في القوقاز وأقاما في خيمة أول الأمر، وأعجب ليو بمنظر الرواسي الشامخة من الجبال، وكان لا يفتأ يقلب عينيه فيها ويتأمل فيما يبعثه منظرها من رهبة في نفسه، وكتب إلى عمته تاتيانا يصف لها تلك الأطواد في نشوة وحماسة، ويشرح لها البيئة التي سوف يقضي في قراها قرابة ثلاثة أعوام؛ وإن المرء إذ يقرأ ما جاء في قصة (الفوازاق) من وصف للجبال ليتملكه العجب من روعة وصفه، ومرد ذلك الوصف البليغ الساحر إلى معيشته سنين في سفوح هاتيك الجبال الشاهقة. . .

ولم يكد يمضي أسبوعان عليه في ستارى يورت حتى عاد إلى إحدى عاداته السيئة التي كم اعتزم أن يطلقها ألا وهي الميسر، فجلس يلعب ذات ليلة فخسر في هذه الجلسة خمسين وثمانمائة روبيل أو ما يساوي سبعة وعشرين ومائة من الجنيهات، وكدرت نفسه هذه الخسارة لا ريب، وكدرها كذلك عودته إلى هذا الذي طلب الهجرة ليتخلص منه وهو من أرذل نزعات نفسه؛ ولكن الندم عقب ذلك أخذ يتغلغل في أعماق نفسه. وآية ذلك أنه استطاع ألا يقرب الميسر بعد هذه الليلة ستة أشهر كاملة، كان يقضي فيها أوقات فراغه في الصيد والكتابة والقراءة (وتعقب حسان القوزاق).

ولفت إليه ببسالته القائد العام في تلك الجهة للجيش الروسي وذلك أثناء تطوعه ذات مرة في حملة على بعض القبائل، كانت مهمة ذلك الجيش هناك مطاردتها؛ وقد اقترح القائد أن يحلقه بالفرقة ليكون أحد رجالها؛ ووقع ذلك من نفسه موقعاً حسنا، ولعله تخيل لنفسه ما تخيله أولينين بطل قصته من البسالة والقوة، وحلم كما حلم أولينين بأن يكون قاهر القوازاق وبأن يعزى إليه وحده الفضل في تسكين القبائل الثائرة هناك.

وأرسل إلى تفليس ليمتحن هناك نوعا من الامتحان يهيئه النجاح فيه للالتحاق بالجيش، ورأى في تفليس ما يشبه الحياة في قازان فحن إلى حياة المدن بعد تلك الأشهر التي قضاها في القرى والأماكن البرية وأوشك أن يعقد النية على أن يعود أدرجه إلى موسكو، وصار يحس أنه يحيا في تلك القرى حياة أشبه ما تكون بالمنفى. . .

وظل في تفليس أياما يستمتع بمثل ما كان يستمتع به في موسكو أو في قازان، ويترقب بقلب نزوع وصبر فارغ نبأ إلحاقه بالفرقة الرابعة متطوعا فإن ذلك كفيل أن يخرجه من تردده ويجعله يركن إلى البقاء في القوقاز.

وتم له ما أراد فعاد إلى ستارى يورت، وهناك توثقت عرى الصداقة بينه وبين فتى يدعى سادو، وكانا يتعاونان في السراء والضراء ويطعمان معاً كلما واتتهما فرصة لذلك ويقتسمان المال بينهما ويتبادلان الهدايا، وقد أعجب ليو بصاحبه وما رأى من بسالته وجميل مودته وإخلاصه له ذلك الإخلاص الذي أدى به أكثر من مرة إلى أن يعرض نفسه للأخطار لينجي صاحبه؛ وطاب الفتى نفساً بهذه الصداقة وأحب من أجلها الحياة في القوقاز.

وكان سادو مقداماً لا يهاب شيئا، يهجم على قرى الأعداء فيأتي منها بما يبيعه وبذلك يحصل على المال فهو متلاف يبسط يده كل البسط وأبوه على ثرائه يضن عليه إلا بالقليل الذي لا ينقع غلته. . .

وكان على ليو أن يدافع عن سادو كما يدافع هذا عنه، ولذلك كان يتعرض لكثير من الخطر من أجله، حتى لقد أوشك ذات مرة أن يؤسر هو وصاحبه، ونجا مرة أخرى من الموت وهو على حافته إذا انفجرت قذيفة مدفع على مقربة منه.

ويعنينا من هذا ما نذكره عن حياته في القوقاز لصلته بفنه، فلسوف يصف هذه الحياة وصفاً يكسبه على حداثته ذيوع الصيت في دنيا القصة، ويضفي على عمله من الأصالة والروعة والدقة ما يسلكه وهو حدث في القلائل الأفذاذ.

(يتبع)

الخفيف