مجلة الرسالة/العدد 72/كيف ولماذا سافرت إلى أوربا؟
مجلة الرسالة/العدد 72/كيف ولماذا سافرت إلى أوربا؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضع سنوات - أربع أو مائة، لا أدري! - استقر عزمي على القضاء الصيف في لبنان، فجمعت ما عندي من الثياب القديمة، وحشوت بها حقيبة، وقلت أقضي أياماً في الإسكندرية ثم أبحرت منها إلى بيروت. وهناك - في الإسكندرية، لا بيروت - لم أدع شركة ملاحة إلا دخلت مكتبها واستفسرت من رجالها عن البواخر، حتى الذاهبة إلى الهند، ومواعيد وصولها ورحيلها. وكنت أخرج من كل مكتب بحزمة من الأوراق، فيها صور مغرية وأسعار منفرة. فاتفق يوماً أن لج وكيل (شركة سيتمار) في تزين السفر على الباخرة (اسبيريا) إلى إيطاليا، وكان الوقت ظهراً، وأنا جوعان، فدار رأسي، ووهن عزمي، وكدت أنقذه ثمن التذكرة، ولكني تذكرت أن (الجواز) يحتاج إلى (تأشيرات) فاعتذرت به وانصرفت. وعدت إلى فندق (بوريفاج) في أقصى (الرمل) وكنت مقيماً به، وأسرعت إلى مائدتي فجلست إليها، وكنت مهموماً مكروباً موزع النفس، بين لبنان والباخرة (اسبيريا) - أي والله! كأنما كنت سأقضي الصيف كله على ظهرها! - فناديت الخادم وطلبت من النبيذ عسى أن يذهب عني الفتور،
وملأت الكأس، وتناولتها، ورفعتها إلى فمي، فسمعت من ورائي صوتاً رخيماً يقول: (المازني - هذا - حشرة!).
فارتدت يدي عن فمي، وهي ترعش، وسالت عليها قطرات من النبيذ، ومضى الصوت الحلو يفري أديمي: (حشرة حقيرة - يجب سحقها بالأقدام.)
فتلفت مذعوراً وقد خيل إلي أن العيون كلها صارت علي، وتمنيت لو أن إدارة الفندق تحرم الكلام على الطعام، أو تجيء بموسيقى تغرق في أنغامها العالية القوية هذه الأصوات الحلوة! ولكن الكلام لم يكن محظوراً، ولا موسيقى هناك، فسمعت مكرها: (سكير لا يفيق، ومعربد لا يرعوي).
فقلت في سري (يا خبر اسود؟! أنا سكير لا أفيق؟؟ أنا عربيد؟؟) ودهشت، ولو أن رجلاً كان يزعمني كذلك لما حفلت نفسي ماذا يقول عني، ولكنها فتاة - فتاة على التحقيق. . صوتها وحده دليل على ذلك - تذكرني بلهجة المحنق، كأنما كنت قد قتلت أباها، - قاتله الله على أي حال! - وكان الخادم قد وضع أمامي شبوطةً مغرية، ولكن نفسي انصرفت عنها وزهدت فيها، فاضطجعت وأنا أعجب للذين يؤاكلون هذه الفتاة لماذا لا يتكلمون؟؟ وما لهم لا يغيرون هذا الموضوع.
(رجل مستهتر، لا يبالي ماذا يقول عن نفسه، ويظن لسخافته أن هذا من الظرف) فلم أعد أطيق هذا الطعن، واشتهيت أن أكتم أنفاسها بالفوطة، ولكني طويتها - أعني الفوطة - ووضعتها على المائدة وهممت بالقيام، فسمعتها تقول:
(على كل حال ماذا ننتظر؟ إن (اسبيريا) تسافر بعد غد، وإذا لماذا لم نشتر التذاكر غدا تأخرنا وفاتتنا. . .). وتسللت، كاللص، ولكن بعد أن خالستها النظر ورأيت وجهها، من غير أن تراني، وكانت مع الأسف جميلة. فزاد عجبي، فان الحسن ري ولين، وهذه الفتاة تحمل لي في جوفها بركاناً فائراً بالسخط والنقمة وكل ما ينافي معاني الجمال. فقرضت أضراسي وأقسمت لأسفارن على هذه الأسبيريا لأرى آخر هذه الحكاية.
وأقبل الليل، وكنت أتمشى في حديقة الفندق، وحدي، كما لا أحتاج أن أقول، وكنت لا أزال أحدث نفسي بما سمعت من أوصاف، وكان صدري كالخضم المضطرب، وكان الخدم يروحون ويجيئون في أرجاء الحديقة تلبية لنداء المنادين أو تصفيق المصفقين، وكان الأطفال يجرون هنا وههنا، وأنا ذاهل عن هؤلاء وأولئك جميعاً بالحجارة التي صكت سمعي على الطعام، فكنت أخطو خطوات، وأقف وأقول لنفسي: (حشرة. . .!).
فقال صوت (أفندم؟). قلت - غير عابئ به أو جاعل بالي إليه - (حشرة حقيرة. . تستحق السحق بالأقدام) واستأنفت السير، أو الخطو، وتركت الخادم - فقد كان أحد الخدم - يسخط ويلعن، أو لا يدري هل يضحك أو يغضب.
وإني لفي ذهولي هذا، وإذا بصرخة خافتة، فالتفت مسرعاً إلى مصدرها، فبصرت بفتاة حانية على غصن مريجٍ علق به ثوبها، فوثبت إليها وعنتها على تخليص الثوب، ولكن بعد أن تخرق.
وقلت وأنا أنفض التراب عن كفي وأشير إلى الثقوب الظاهرة في ثوبها:
(ليس هذا ذنبي. . إنه ذنب البستاني المهمل الذي يربي هذه الألفاف ليزين بها الطريق ولا يعني بتقليمها. . . .).
فقالت: (على العكس. . . إني شاكرة لك نجدتك، ولولاك لصار الثوب في يدي هلاهيل. . . فأنا مدينة لك. . .)
فرفعت عيني إليها فإذا بها هي التي سلقتني على المائدة بلسانها وحرمتني لذة الطعام وأنا جائع أتضور، فارتددت عنها مقدار خطوة وندت عن صدري آهه مخنوقة:
فقالت وهي تدنو مني: (ماذا بك؟) ورأتني أتكلف الابتسام فقالت: (بالدور. . . أنت مرة وأنا مرة)
فقلت: (لا شيء. . . لا شيء. . .)
فألحت (ولكن ماذا بك؟)
قلت: (أوه. . . لاشيء، لم أكن أحسب أنك أنت. . .)
فقالت مستغربة (ولكن بالطبع أنا أنا. . .)
قلت: (طبعاً. طبعاً. إني سخيف)
قالت: (هل تعرفني؟)
قلت: (أعرفك؟ الجواب نعم ولا)
قالت: (كيف يمكن هذا؟ ماذا تعرف عني؟)
قلت: (أقل مما تعرفين عني)
قالت: (لا مؤاخذة، ولكني لا أعرف عنك شيئاً)
قلت: (صحيح!؟)
قالت: (بالطبع صحيح! إني لم أرك إلا الساعة)
فتشهدت وأنحط عن صدري حجر، وقلت: (الحمد لله!، يا ما أكرمك يا رب!)
فقالت: (ولكن لماذا تتكلم هكذا؟ لست أفهم شيئاً. . .)
قلت: (أحسن)
قالت: (هل معنى هذا أنك تخشى أن أعرفك؟)
قلت: (جداً جداً جداً!)
فضحكت وقالت: (هل أنت مجرم هارب؟)
قلت: (شر من مجرم، بودي لو أستطيع الهرب ولكن إلى أين؟ كلا. لست مجرماً ولكني حشرة!)
فصاحت: (إيه؟ حشرة!)
قلت: (أي نعم. حشرة حقيرة. . .)
فوضعت راحتها البضة على كتفي وقالت: (لا تتكلم هكذا! هل أنت مريض؟)
قلت: (نعم. نعم. نعم.)
قالت: (مسكين! ماذا بك؟)
قلت: (أذني. . . أذني. . . آه من أذني) والمصيبة أني كنت أبتسم، فقد راقني هذا الموقف على الرغم مما أجن من الحقد على الفتاة، فأقبلت علي، وجعلت تهون من أمر أذني وتشير علي بأن أضع فيها قطرة أو قطرتين من (الجليسيرين) وأن أبلع قرصاً من (الأسبيرين) فشكرتها افترقنا.
وفي صباح اليوم التالي مررت (بقلم الجوازات) وبدار (القنصلية الإيطالية)، ثم استخرت الله وذهبت إلى مكتب (شركة سيتمار)، وطلبت تذكرة على الباخرة (اسبيريا) وإذا بالفتاة تقول لي:
(وأنت أيضاً مسافر عليها؟)
قلت: (نعم. هل هناك بأس؟)
فضحكت وقالت: (كيف أذنك اليوم؟)
قلت: (أذني؟ آه! صحيح! تطن)
قالت: (يظهر إنها شفيت. . .)
فهممت بأن أقول شيئاً ولكن الرجل سألني عن أسمي، ولم أكن أتوقع هذا، فهبط قلبي إلى حذائي، ونظرت من الفتاة إلى الرجل، ومن الرجل إلى الفتاة وقلت:
(إسمي؟ ولكن هل هذا ضروري؟)
فقال: (لا. . . ولكن يحسن. . . إن أسماء الركاب تكتب وتوزع على الباخرة)
وكنت قد أنقدته قبل ذلك ثمن التذكرة فلولا هذا لعدلت فقلت:
(إسمي؟ إسمي؟ أظنه إبراهيم. . نعم. . . إبراهيم عبده)
وقالت الفتاة ونحن خارجان: (هل هذا أسمك الحقيقي؟)
قلت: (هل تعرفين إسمي الحقيقي؟)
قالت: (لا. . . إذن هذا اسم مستعار؟ معذرة إذا كنت أتطفل. . .)
قلت: (لا. لا. . . ليس اسماً مستعاراً. . . أنه اسمي من الآن فصاعداً)
فهزت رأسها وقالت وهي تبتسم: (ليس لي حق، هذا فضول لا يغتفر. . . سامحني)
فقلت: بلهجة الجد الصارم (أسامحك؟ كلا! أبداً. . . أبداً. . .)
فتعجبت، ولها العذر وقالت: (هل أسأت إليك بشيء؟ إني آسفة!)
قلت: (أسأت؟ أسأت فقط؟ لقد قتلتني يا فتاتي!)
قالت: وهي تدير وجهها لترى وجهي
(أتمزح أم تتكلم جاداً؟)
فواجهتها وقلت: (هل تعرفين أني أمزح؟؟ كلا! أعني نعم. قتلتني. . . طعنتي هنا) (وأشرت إلى موضع القلب)
فضحكت وقالت: (بهذه السرعة؟! إنك حساس جداً)
قلت: (نعم. جداً. فاتقي أن تدوسيني بقدميك. . .)
قالت: (ولكن لماذا أدوسك بقدمي؟ لست أفهم كلامك. . .)
قلت: (لأني حشرة. . .)
قالت: (أوه! لا تقل هذا. . لماذا تشتم نفسك هكذا؟)
قلت: (نعم حشرة، وحشرة حقيرة أيضاً. . .)
قالت: (أوه! إنك تضجري بهذا ار. . .)
قلت: (وسكير عربيد. . . .)
فوقفت في الطريق وصاحت
(أهو أنت؟)
فقلت - مقلداً -: (بالطبع أنا. أنا.!)
قالت: (وسمعتني؟)
قلت: (كل كلمة. . . خرقت أذني كالمسار المحمي) قالت: (إني آسفة. . . جداً. . . وأعتذر)
قلت: (آسفة؟ هممم. وأنا أنفلق! لا يأس. هيا بنا. . .)
قالت: (لقد تعمدت ذلك. . .)
فصحت بها: (إيه؟ كان هذا كله إلى الآن تمثيلاً؟)
قالت: (نعم قلت ما قلت عمداً. . . عرفتك من وجهك ومن. . . لا مؤاخذة. . . من رجلك. . ولكنك تؤثر الوحدة ولا تبالي الناس وتتقي أن تكلمهم، بل تهرب منهم، فماذا أصنع غير ذلك؟)
قلت: (كنت تستطيعين أن تمدحيني مثلاً فأسر. . . أم هذا حرام؟)
قالت: (والآن ألا تعفو عني؟)
قلت: عفونا يا ستي! بعد أن غرمنا ثمن تذكرة إلى أوربا بلا داع!
قالت: (إيه؟)
قلت: (نعم. كنت مسافراً إلى لبنان، فلما سمعت منك بعض الحقائق. . .)
فاحتجت: (لا تقل الحقائق. . .)
(أردت أن أعرف البقية. . . فقد أوصانا سقراط أن نعرف أنفسنا)
فوضعت كفها على فمي.
فلم أقبلها - أعني كفها - ولكني عضضتها عضة مغيظ، ولم أبال صراخها في الطريق.
إبراهيم عبد القادر المازني