مجلة الرسالة/العدد 718/مضحكات مبكيات
مجلة الرسالة/العدد 718/مضحكات مبكيات
1 - مضحكات مبكيات
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(حديث أنقله إلى صديقي النابغة العالم الأستاذ علي الطنطاوي)
(صلاح الدين)
كنا أربعة نفر، مللنا عملنا الرسمي، فانطلقنا نستروح نسمات الربيع الدافئة المعطرة في غوطة دمشق، جنة الدنيا، وكنا نحس، وقد ابتعدنا عن المدينة مجمع الشقاق والنفاق، أننا نستطيع أن نتكلم. . . فلا رقيب يحصي أنفاسنا ونظراتنا وكلماتنا وليس من يطالبنا بالنفاق باسم اللباقة والتمدن والمصانعة. فقلت لصاحبنا الفتى: لقد أمر اللغة والأدب بهؤلاء الذي عادوا وقد لقنوا اللغة على الأعاجم من ذوي الرطانة والعطانة؛ لقد صادفت اليوم في طريقي طالبا في الجامعة فحدثني حديثا أهمني. . . حدثني أن أستاذه قرأ عليه نصا فيه (لبس ثوب الحداد) فقرأها (اَلحدَّاد) فلما قال له الطالب: إنها اِلحدَاد يا أستاذ! انتهره وأصر على أنها الحداّد. ثم ساق الأستاذ على ذلك دليلا تمسك به فقال هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. . . أتعلمون من هو هذا المستشرق؟ إنه أوسع أهل الاستشراق علماَ، وأذكاهم فهما، وأفصحهم لسانا. وقوله لا يرد لأنه ثقة، ضابط، محرر.
قلت: لقد مسخ الزمان، فجاء بهؤلاء المسوخ الذين يقولون هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. ليت شعري إذا كان الأستاذ هكذا، فكيف يأتي التلاميذ؛ وليت شعري أما درى من انتقى هؤلاء ليكونوا في الجامعة أنهم يهدمون اللغة ويهتكون الأدب؟ فقاطعني صاحبي، وقال لا تلم هؤلاء إذا أخطئوا. ولا تعجل عليهم بنقدك إذا تكبروا. . . فما كبرياؤهم غير ستر لجهلهم. إنهم ليسوا بشيء، ولو بلغوا رتبة الوزارة. فما يزال في الناس ناس يعلمون أن الفضل لأولى العلم، لا لذوي الجهل. لقد غشهم من أوفدهم لتلقى العربية عند ذوي الرطانة. . . فعادوا يغشون الطلاب بجهل فاضح، والناس بشهادات أزياف كواذب.
قال أكبرنا: ولكن هذا ليس بالأمر العجب. فهناك أعجب وأغرب. ألم يأتكم نبأ ذلك الذي عاد من أوربة، كما تعود هذه الجماعة الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، شغفا بأقوال المستشرقين، مدلها بمذاهبهم، فجعل نفسه من شباب محمد، فطنطن صحبه بعلمه وفضله، ثم أخرج كتابا، فإذا هو يطعن فيه على محمد، فيختلق ويفتري، ويدس ويماري ويأخذ بالنبي إلى اليمن، ويقرئه التوراة والإنجيل ويجمعه إلى الرهبان والأحبار ثم يقول إنه ألف القرآن.
فما أدرى مما أعجب؟ أأعجب من هذا العلم الذي شداه، أم أعجب ممن يفتري على محمد، وهو من شباب محمد؟
قال صاحبي: لا تلم هذا أيضا. إنما هو ببغاء لقنوه الشر فأعاده. إنما لم أبويه اللذين أغفلا تربيته وسددا خطواته وعرفاه من هو محمد. ليت شعري أتطمع من المستشرقين أن يفعلوا غير هذا؟ إنه ليكفيهم أن يغرسوا في نفوس من يلقونه من ناشئة المسلمين الشك. . . في الدين، والكتاب، واللغة. . . فإذا شككت وكنت من الضعاف الإيمان، زلت بك القدم فهويت. لا تلم هذا، بل لم أولئك الذين لم يحسنوا تلقين الدين، ولا تعليم التاريخ، ولا انتقاء الأساتيذ. . .
قال ثالثنا: ولكن عندي ما ليس عندكم. فقد حدثت عن واحد من هؤلاء، هواه مع الشيوعيين، ومعدود في المسلمين وقد شارف على الأربعين، إنه عاد من أوربة يحمل دراسة عن كنيسة من كنائس فرنسة، نال بها الدكتوراه. فبلغني من صفته أنك إذا رأيته يمشي في الطريق، وهو يتثنى وأبصرته وقد نتف حاجبيه، وصفف شعره، حسبت أنه عانس تلبس البنطلون. دعوه يوما إلى المسجد الأموي ليحتفل بمولد الرسول. فنظر في بطاقة الدعوة شزراً، ثم غمز الجرس فأستدعى كاتبا عنده فلما أتاه قال له:
أما تزالون تنزعون نعالكم إذا دخلتم المسجد؟
فصعق الكاتب لهذا السؤال، وحدق بالسائل يريد أن يعلم أهو في الجد أم الهزل. فهذا سؤال لا يسأله مسلم. . . فأجابه.
- نعم يا سيدي.
قال: ومتى تتمدنون؟ لقد غبت عن دمشق تسعة أعوام كاملات وعدت فرأيتكم حيث كنتم. . . متى يصبح عندنا علماء يجتهدون، فيقلبون الدين رأساً على عقب؟ متى ينقذوننا مت خلع النعال، وينقذوننا من الركوع والسجود؟ لم لا يفعل المسلمون فعل النصارى؟ إنهم يدخلون كنائسهم بنعالهم، لا تتسخ جواربهم، فيقفون قليلا يرتلون. . . ثم يخرجون لم يتعبوا، ولم تتسخ سراويلهم!. لم لا تنشرون هذه الدعوة.؟ آه! سأنشرها بين طلابي بنفسي. . . .
وأخرس الكاتب، وطار لبه، وخرج ولم يجب، وهو يلعنه في قلبه ألف لعنة ولعنة. . .).
قال: لقد شككت عندما أخبرت؟ ولكني قصدت إلى الكاتب بنفسي فحدثني كما أخبرت.
قلنا: وكيف يسكت عنه علماء الدين؟ كيف تسكت عنه وزارة المعارف؟ أبمثل هؤلاء نحفظ الاستقلال؟ أنحفظه بإفساد العقائد الإلحاد والتخنث ونتف الحواجب؟ أنحفظه بالوقاحات؟ أهذا أستاذ قد أؤتمن على تثقيف الطلاب؟
قال صاحبي: لا تلم هذا أيضا؛ فمن عدم المروءة والدين طلب خلع النعال والتشبه بالنصارى ورفع الركوع والسجود من الصلاة. ولا تلم وزارة المعارف فهي أم الفوضى. ثم لا تلم علماء الدين، فهم في أمر دنياهم لاهون، وعن دينهم ساهون. إنما لم من نصبه لتثقيف التلاميذ ولم يخبروه. . . آه لو كان هنا الطنطاوي إذن لجرد قلمه لنصرة الدين والحق والشرف. ولأصلي هؤلاء نارا حامية تشويهم شياً.
قلت: أما قلت لكم لقد مسخ الزمان فجاء هؤلاء المسوخ! فانبرى، رجل كان يقربنا يسمعنا، وقال: كل ما ذكرتموه ليس بشيء. . . فعندي ما هو أعظم وأدهى. . .
قلنا: هات ما عندك هات.
(للكلام بقية)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد