مجلة الرسالة/العدد 718/الجلاء الأعظم
مجلة الرسالة/العدد 718/الجلاء الأعظم
للأستاذ محمود شاكر
أكتب هذا وكل ذرة في ثرى مصر وفي جوها وفي مائها تتلفت حواليها لتنظر إلى الضجة التي خفقت في جنيات الأرض المصرية لليوم المشهود - يوم الجلاء عن مدن الوجهين القبلي والبحري إلا ما استثنته بريطانيا عصباً وافتئاتا. نعم هو الجلاء - جلاء الجندي المتغطرس الذي كان يمشي على أديم مصر تياها مستكبراً متعاليا ليذل الشعب الذي احتقره وازدراء على قوته وعلى سلطانه، ولم يعبأ ولا بثيابه بكبريائه. وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الفقير الذي يسير في الطريق حافياً في أسمال؟ وكيف يفعل ذلك وهو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر الدنيا إلا ما حضر بين يديه؟ وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الذي هزمته بريطانيا في موقعه التل الكبير 1882، ثم انساحت جيوشها في أرضه بالمذلة التي كتبها الله عليه؟ هكذا كان يمشى كل جندي بريطاني على أرض مصر وهو يحدث نفسه بهذا كله، والمصري ينظر ليس فيها الحقد ولكن فيها الاحتقار، ويبتسم إليه ابتسامة ليس فيها الرضى ولكن فيها السخرية، ويصافحه مصافحة ليس فيها الترحيب ولكن فيها الإيمان بأن الذي أمامه إنسان مغرور يظن أن الدنيا باقية له، وهي الدنيا التي تداولتها من قبله القرون والأمم فرالوا وبادوا، ونالها من بعدهم من كانوا لهم تبعاً أو عبيداً.
هكذا كان ينظر الشعب الجاهل الفقير المهزوم بزعمهم نظرة فقيرة ولكنه عزيز، شعب جاهل ولكنه مؤمن، مهزوم ولكنه مترفع عن دنايا الأخلاق.
نعم هذا الجلاء، ولكن هل يقنع هذا الشعب به؟ وهل يزيله الفرح بما تم عن الهدف الذي رقى إليه؟ إن بريطانيا قد علمت أن لا قبل لها بإبقاء جنودها مفرقة في مدن مصر فتكون قذى في العيون يحدث آلاما تنبه النفوس يوماً بعد يوم إلى عدوانها وبغيها، فآثرت أن تحمل جنودها وتجمعهم في مكان بعيد عن عيون الشعب، تريد أن تجعل مثل هذا العبث منة يحملها الشعب المصري، فكيف عن مطالبتها وعن كشف عيوبها وسيئاتها وخبثها. فما رأت أن هذا الشعب العجيب قد فرح بجلائها عن بعض أرضه، ولكنه لم يكف عن مطالبتها، ولا عن إماطة اللئام عن رذائلها، قامت صحفها تزعم أن الصحف المصرية قد شنت على بريطانية (حملة سباب) ف نفس المكان الذي أشارت فيه إلى مسألة إشارة عابرة. وهذا دليل على أن موقف الشعب قد غاظها غيظاً شديداً وأنها كانت تؤمل أن تخدعنا بهذا الجلاء من أماكن في أرض مصر إلى مكان واحد حصين في أرض مصر أيضاً، فلما كان غير الذي أرادت زعمت أنها (حملة سباب).
ومن الذي يسب؟ أمصر المسكينة التي احتملت وقاحة جيوشها وقوادها منذ سنة 1882، وصفاقة رجالها جاءوا ليحكموا هذا الشعب بالقوة والبطش من أمثال كرومر وكتشنر واللنبي ولويد ومايلز لامبس؟ أهي مصر المسكينة التي تسب اليوم بريطانيا وقد سمعت سفاهة الصحافة البريطانية على شعبها وهو يوصف بالرعاع، وسباب الصحف البريطانية للطلبة المصريين الذين كانوا يخرجون من مدارسهم للجهاد في سبيل وطنهم وبلادهم.
إن مصر حين تصف أعمال بريطانيا بالسفاهة والوقاحة والصفاقة - لا تسب بل تقرر حقائق وتسميها بأسمائها التي خلقت لها، ولم تخرج في ذلك عما وصفها الرجال المحايدون الذين وقفوا ينظرون إلى أعمال بريطانيا في مصر والسودان. فالشعب المصري لا يسب بريطانيا وإنما تسبها أفعالها وأفعال رجالها. وإذا أرادت بريطانيا أن لا تسمع المسبة من الشعب المصري ومن سواه في أقطار الأرض، فلتقلع عن سياستها التي توجب لها هذه الصفات، والتي تدفع أمما كثيرة غير مصر والسودان إلى أن تصفها بأشد مما وصفتها به مصر والسودان.
والعداوة التي بيننا وبين بريطانيا قائمة ما بقى في أرض مصر من منبع النيل إلى مصبه جندي بريطاني واحد، ولن تكف عن عداوتها وعن ذكر سيئاتها إلا إذا جلت جلاء تاما عن كل مكان انتزعته من بلاد مصر والسودان بالكذب والمكر والخديعة والتدليس، ولن تكف ألسنة مصر عن وصف أعمال بريطانيا بأسمائها التي خلقت لها إلا إذا كفت هي عن عداوتها وأعطت كل ذي حق حقه. إنها عداوة باقية بيننا وبينها حتى تدع لنا أرضنا، وتدع للعراق أرضه، وتدع لفلسطين العربية أرضها، وتقاوم معنا كل باغ أعانته هي فيما مضى على بغيه وعدوانه، كالذي كان من أمرها في مسألة تونس ومراكش والجزائر وليبية وبلاد إفريقية التي أطلقت فيها يد فرنسا وإيطاليا ليطلقوا لها يدها في مصر وفي سوى مصر.
بل إن جلاء الجنود البريطانية لن يكفي وحده أن يكون مدعاة لنسيان تاريخ بريطانيا وأفعالها. لقد دخلت بريطانيا بلادنا وبلاد سوانا، فاستعانت بشذاذ الأمم الذي لا يجدون في بلادهم ما يأكلون، وجاءت بهم إلى مصر والسودان وكل أرض كتب الله عليها أن تبتلي ببريطانيا وسياستها الاستعمارية، وحمت هؤلاء الشذاذ وشدت أزرهم وملكتهم الأموال والأرزاق، ونفخت في قلوبهم كبرياء الحقير الذي علا بعد ضعة، ومدت لهم مدا طويلا حتى صاروا سادة علينا وهم يأخذون ما في أيدينا - أي يسرقون ما قي أيدينا. أنت بالشذاذ من كل أمة وجعلتهم جاليات وأقليات وفرضت على نفسها حمايتهم فيما تزعم، واستنكفت لهم أن يتقاضوا في محاكم البلاد التي آوتهم بعد تشرد، وميزتهم عن أبناء البلاد في كل شئ حتى في معاملاتهم التجارية. حتى صارت لهم قوة بيوتنا، ويتعالون عنا، ويحتقرون أبناءنا ورجالنا، ويسخرون من آدابنا وعقائدنا. ويطعنون في أخلاقنا، ويشتموننا في الطرقات وهم في حمى بريطانيا ذات المجد والشرف!!
وأكبر من ذلك أنها حمت هؤلاء الشذاذ حماية أخرى ليكونوا لها جنوداً في ثياب مدنية، فأقطعتهم المدارس ينشئونها حيث يشاءون، وجاءت بدنلوب ليضرب التعليم المصري ضربات قاضية لا تزال إلى اليوم باقية لا تدري وزارة المعارف كيف تخلص منها. وإذا هذه المدارس تأخذ أبناءنا من بيوتنا، فتضعهم بين جدرانها، وتنفث فيهم سمها، وتحقر لهؤلاء الصغار بلادهم وأهلهم، وتمتهن لغتهم حتى كانت تمنع طلبتها عن أن يتكلموا بالعربية بتة، ولا في أوقات الفسحة ما بين الدروس، فإذا فعل ذلك طفل منهم عوقب أشد العقاب، وداروا به على الفصول كأنه مجرم قد ارتكب أشنع جريمة يعاقب عليها القانون وبقيت بريطانيا الممثلة في دنلوب ونظام دنلوب ورجال دنلوب تحمى هذا الوباء وهذا البلاء حتى استفحل، وخرج جيل من أبناء مصر نفسها ينظر إلى بلاده كأنها أرض غريبة يحتقرها كما رأى أستاذه الأجنبي يحتقرها، وكما رأى زميله الأجنبي يزدريها.
وأكبر من ذلك أيضاً أنها أخذت هؤلاء المساكين الذين أضلتهم مدارسهم الأجنبية فآوتهم ونصرتهم ثم مكنت لهم، وصاروا لها أشياعاً يثنون عليها ويفضلونها على سائر أهل الأرض، وعلى أهل بلادهم. واتخذوا لذلك كل أسلوب يدل اتخاذه على أن بريطانيا لا تتورع عن أن تجعل أخس الطبائع البشرية والشهوات الإنسانية سلاحاً تقاتل به الشعب الذي اعتدت عليه واستبدت به. فصار الشعب المصري يسمع مصرياً مثله يبسط لسانه في تاريخ شعبه وفي أخلاق شعبه غافلا عن السبب الأول الذي كان داعياً إلى انهيار هذا الشعب، ألا وهو بريطانيا وشذاذها.
فكل هذا وكثير سواه كان احتلال أدبيا ضرب على مصر والسودان كما ضرب عليها الاحتلال العسكري، فنحن لن نكتفي بأن يزول الاحتلال بجلاء الجنود؛ بل لابد من إجلاء ما ورثناه الاحتلال العسكري من نظم ومن شيع ومن عادات ومن أخلاق؛ حتى لا يكون المصري والسوداني غربيا في بلاده، ممتهنا في أرضه، مضروبا بالفقر والجهل والهزيمة في دياره.
ذلك هو يوم الجلاء الأعظم: يوم يعود إلينا أخونا المصري السوداني المقيم في بريطانيا (يعقوب عثمان) ليقول لبلاده إني أخطأت فاغفري لي زلتي وتجاوزي عن خطيئتي، ويوم يخلع الشباب المصري السوداني من فتيان وفتيات كل الزينة التي أضفتها عليهم مدارس الليسية الفرنسية، وفكتوريا الإنجليزية، والمدارس الأمريكية، ويخرجوا إلى أهليهم خاشعين خاضعين نادمين يعتذرون من الآثام التي ألموا بها أو قارفوها في حق بلادهم وفي حق آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وأسلافهم وأعقابهم. بل يوم يخرج المهدي عن أمواله لمصر والسودان، ويعفر وجهه في ثرى النيل الأعظم، ويستغفر الله مما كسب من الإثم في حق مصر والسودان، أرض آبائه وأجداده؛ بل في حق أبيه الذي لم تتورع بريطانيا عن إهانة عظامه وهو ميت لا يملك دفعا عن نفسه.
إنه يوم الجلاء الأعظم - يوم يقف كل مصري سوداني أيامه وساعاته للتكفير عما فرط منه، ويوم يعمل جاهداً في إزالة كل اثر للاحتلال في نفسه، ويوم يخرج إلى الطريق ليميط الأذى عنه استعداد لمقدم الأجيال الحرة التي ترث أرضا طاهرة لم تلوثها غفلة القرون الماضية أو ضعفها أو استكانتها أو رضاها بالذل والمهانة طمعا في مال زائل ومجد حائل.
إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم لا يسمع ثرى مصر لسانا أعجميا من أهله أو من غير أهله ينطق بغير اللغة التي ينطقها الشعب المصري السوداني، ويوم لا يخرج المصري السوداني فتتحداه تلك الطوائف من شذاذ الأمم ناطقة بغير لسانه وساخرة من لسانه.
إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم يستطيع المصري السوداني أن يقف على ثرى أرضه مطمئنا لأنه حر من أحرار، وينظر حوله متلفتا يمنة ويسرة فلا يرى إلا وجوها عربية وبلادا عربية تضم الأحرار أبناء الأحرار.
محمود محمد شاكر