مجلة الرسالة/العدد 717/منطقة إنطاكية وخليج الاسكندرونة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 717/منطقة إنطاكية وخليج الاسكندرونة

مجلة الرسالة - العدد 717
منطقة إنطاكية وخليج الاسكندرونة
ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1947



للأستاذ أحمد رمزي بك

لمعت كناصية الحصان الأشقر ... نار بمعتلج الكتب الأحمر

وفتحت إنطاكية الروم التي ... نشزت معاقلها على الاسكندر

وطئت مناكبها جيادك فانثنت ... تلقى أجنتها بنات الأصفر

هذا شعر للأبيوردي خاطب به ملكشاه بن ألب أرسلان حينما فتحت الدولة السلجوقية إنطاكية، ولست أعرف ركناً من أركان الدنيا برز في التاريخ بروز هذه البقعة من الأرض، فقد لفتت أنظار الإنسان منذ بدأ يفكر وينظم حياته، فما تأسس ملك أو سيادة أو ظهرت قوة فنية أو دعوة دينية إلا وجعلت من أول أهدافها امتلاك هذه البقعة التي شهدت مصارع الدول، وحمل صعيدها إزراء الحروب وما يتخللها من إزهاق الأرواح، ذلك تاريخها في القرون الغابرة وهذا عهدنا بها اليوم في تاريخنا الحديث. لقد شغلت رجال السياسة بعد الحرب الماضية واهتمت بمصيرها هيئة عصبة الأمم، ثم كان من نصيبها أن ضمت إلى أراضي الجمهورية التركية وبقيت معها طول الحرب العالمية الثانية، وما انتهت هذه أو قاربت نهايتها واستقلت سوريا، حتى قامت تطالب بها، ولا يعلم غير علام الغيوب ما تخبئه لها الأقدار والأيام القادمة.

وإذا ورد ذكر هذه البقعة برز اسم مدينة إنطاكية لأنها رأت من السعد والعظمة في زمن ملكها أنطيوكس الكبير (223 - 187 ق. م) ما جعلها سيدة المدن. فكان أن أصبحت حاضرة سوريا وفاقت غيرها في الثورة والعلوم والمتاجر، ولما دخلت تحت سلطان روما حصل أهلها على حقوق المواطنين في الدولة الرومانية، وإذا بها قد أصبحت إحدى عواصم ثلاث كبرى: روما والقسطنطينية وإنطاكية.

ولقد حاول بعض مفكري الغرب من الفرنسيين أن يجلعوا من ملك أنطيوكس تتمة لملك الإسكندر ومن أثر عمله تكملة لسلطان الغرب على الشرق، ودليلاً على تفوق العقل اليوناني على العقل السامي، والصورة التي أعطاها العهد القديم والمؤرخ يوسيفوس للعاهل اليوناني تنبئ بأنه كان ملكاً مستبداً جباراً، فقد ورد عنه في كتاب المؤرخ اليهودي ما يأتي: (إنه دخل مصر بجيش كثيف وعجلات وفيلة وأسطول عظيم فاستحوذ عليها ثم قوى أمره وعظم شأنه حتى استولى على كثير من الأمم وأطاعته ملوك فارس وغيرهم من الملوك فداخله العجب والكبرياء وطغى وتجبر وسبب الكثير من الآلام لأهل المشرق).

فهذه القوة التي طغت على الشرق يقول عنها الكاتب الفرنسي إنها بقية من عبقرية الإسكندر، وإن بقاءها كان من ضرورات بقاء الاصلح، لأنها تحمل قبساً من روح الهيلينية إلى الشرق، وإنها قوة دافعة منظمة منشئة لأنها أدبت الناس وأخذتهم بالسيف وعلمتهم ما لم يعلموا. ولكن روما لم تلمس الحقائق حين ساقت كتائبها وأخذت إنطاكية مركز هذه الحركة ولذلك لما حطمت الممالك والعروش التي أنشأها أتباع الإسكندر، كانت تحارب نفوذ الهيلينة في الشرق وكانت تحطم بأيديها سيطرة الغرب على الأمم الشرقية. فروما حينما تنازعت مع أهل إنطاكية وقضت على عظمتهم مهدت لشعوب الشرق عودة، بدأت بقيام الفرتيين أو البارتيين وهم قوم عرفوا بشدة المراس والصبر على القتال، وظهرت غضب اليهود بحركة المكابيين وتطورت بظهور المسيحية ضد هذا التحكم ثم في مذاهبها المختلفة التي يعبر عنها بالكنائس الشرقية، والتي تعتبر نفثة ضد استحواذ أهل الغرب على المسيحية وهي شرقية في أصولها ومبادئها ومراميها، وما كان هذا ليحدث لولا اختلاف الكلمة وتعارض المصالح بين روما والإغريق المحتلين لأراضي الشرق، فلو تم بينهم التعاون والتفاهم والتآزر والتكاتف وما تمليه وشائج القربى. لما تهيأت الأسباب لقيام الشرق مرة أخرى، ولما تفاعلت العوامل التي مهدت السبيل أمام جيوش المسلمين فاستولت بعد قرون قليلة على إرث روما وبيزنطة وما أنشأه الإسكندر من مجد وملك قبل ذلك. وتلك دعوة لها خطورتها لأن معناها إن الخلاف الذي قام بين فرنسا وبريطانيا على سوريا ولبنان يمثل النزاع الذي نشب بين روما وأهل إنطاكية في المشرق وأن الإمبراطورية البريطانية تلعب اللعب الخطرة التي أخذت بها الإمبراطورية الرومانية منذ عشرين قرناً فهي قد قضت على نفوذ فرنسا وأبعدتها عن سواحل البحر الأبيض المتوسط في شرقية، كما زحزحت روما نفاذ الهيلينية عن هذا الشاطئ، فكانت النتيجة أن خرج الشرق من تحت سيطرة روما واليونانيين وتقلص حكم الغرب عن أمم المشرق، فإياكم أن يحدث لكم ما حدث للقدماء من قبل ويخرج الشرق من يد بريطانيا وفرنسا على السوء.

وإنما سقنا هذا الحديث للتدليل على أثر هذه البقعة من الأرض في عقول القوم من ناحية السيطرة الفكرية والرغبة في التحكم على مقادير الشعوب من شباك يطل علينا ويثير لنا الكثير من المشاكل. ولقد نظرنا إليها من الوجهة التي يرى بها رجل الفكر الغربي فلنجرب نظرة رجل الدين.

كانت إنطاكية مثل الإسكندرية ميداناً للتنازع بين الوثنية والمسيحية، ذلك التنازع الذي انتهى بانتصار الفكر السامي ممثلاً في تعاليم معلم الناصرة، ولكن إنطاكية فاقت الإسكندرية في ناحية أثرها في حياة المسيحية، فكلتا المدينتين أوتيت حظها من حياة الترف واللهو والخلاعة والتغاضي عن الفضيلة. ثم قامت في كل منها دعوة للخير والصلاح وترك الدنيا والابتهال إلى الله، ولكن النكبات المتتالية وخصوصاً الزلازل المدمرة جعلت أهلها في حيرة منها، وأخيراً قر رأيهم على أن يطلقوا على إنطاكية اسم (مدينة الله) وتحصنوا بالفضائل وجانبوا الرذائل وتقربوا بهذا لله زلفى؛ وكان أن عرفت مدينتهم وسط مدن العالم بأنها حازت سلطان الحياة الدينية، وإذا بكرسيها يتلألأ وسط كراسي ملكوت السماء، ويقول عنها الناس: ليس في المسيحية كلها بعد روما سوى إنطاكية الخالدة.

ولذلك لا تعجب إذا وجدت عدداً من رؤساء الطوائف المسيحية يضعها في المكان الأسمى من نعوته وألقابه الكهنوتية فيقول كل منهم إنه صاحب كرسي إنطاكية وسائر الشرق. وهم على حق في ذلك لأن أنوار المسيحية أشرقت على الأرض من هذه البقعة، وانتقلت من مواجهة إسرائيل إلى مواجهة الدنيا، وفي ذلك يقول القديس لوقا: (وكان الذين تبددوا من أجل الضيق قد اجتازوا فينيقية وقبرص وإنطاكية وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود، ولكن قوماً منهم كانوا قبرصيين وقيرارتيين فهؤلاء لما قدموا إنطاكية أخذوا يكلمون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع).

ففي إنطاكية تحولت الدعوة إلى حركة عالمية. فهذا أثر من تأثير هذه البقعة الفريدة، التي كانت قبلة الدنيا ومجمع مدنية الشرق مع مدنية الغرب، ولو أدركتها المسيحية وهي في أبنا مجده وسطوتها؛ أي لو تقدمت قرنين من الزمن حينما كانت إنطاكية حاضرة سوريا وقد فاقت قرطاجنة وصور وصيدا، فالأغلب على الظن إن كانت تأخذ إنطاكية في عالم المسيحية مكان روما.

ويجمع المؤرخون على إن إنطاكية كانت مركزاً هاماً للدعوة المسيحية في القرن الرابع وإن كان هناك من يقرر بأنها كانت منذ البداية أول مركز أرسل منه المبشرون المسيحيون إلى أقطار العالم، وظهر فيها القديس يوحنا فم الذهب بل كانت مسقط رأسه وسطعت فيها أعماله ومعجزاته، وكان أهلها مائتي ألف نسمة دخل نصفهم في الدين الجديد وتصدروا الدعوة إليه، ولذلك تذكرها الكتب المسيحية بأنها المدينة الأولى في العظمة بعد روما، وإنها تأتي في تاريخ الكنيسة بعد القدس، وهذا ما جعلها مكاناً يؤمه أهل التقوى والصلاح والعبادة ويهرع إليها الزوار لرؤية ما كانت تحويه من قبور القديسين والأبرار وما عرف عنها من العجائب والمعجزات.

فمدينة هذا تاريخها يأتي ذكرها دائماً في الكتب المقدسة وفي تاريخ الكنيسة ويتكرر هذا الاسم في الطقوس والصلوات ويرد في ألقاب رجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب، لا شك في مكانتها وعظمتها واحترامها في قلوب الناس، وإن مجرد ذكر اسمها يحرك ذكريات عزيزة على النفس، وهذا ما تؤكده الآيات الواردة في أعمال الرسل. (ثم خرج برنابا إلى طرسوس في طلب شاؤل ولما وجده أتي به إلى إنطاكية، وترددا سنة كاملة في هذه الكنيسة وعلما جمعاً كثيراً حتى إن التلاميذ دعوا مسيحيين بإنطاكية أولاً).

أحمد رمزي