مجلة الرسالة/العدد 717/مراجعات في الفلسفة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 717/مراجعات في الفلسفة:

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1947



نظرية المعرفة عند شوبنهور

للأستاذ عبد الكريم الناصري

يستهل شوبنهاور (1788 - 1860) أثره الرئيسي (العالم كإرادٍ وفكرة) بقوله: (العالم فكرتي). ولأجل أن يفهم معنى هذا القول على وجهه الصحيح يحسن بنا أن نقدم له بكلمة موجزة في نظرية المعرفة عند فيلسوفين، أحدهما أيرلندي هو بركلي (1685 - 1753)، والآخر ألماني هو كانت (1724 - 1804).

ونظرية الأول تتلخص في عبارته المشهورة: (وجود شيء أن يدرك) أو (الوجود هو الإدراك). فقد كان (لوك) ميز بين (الكيفيات الأولية) و (الكيفيات الثانوية) للموضوعات الخارجية. فالأولى، كالامتداد والشكل والحركة، توجد في الأشياء أنفسها بصرف النظر عن العقل. أما الثانية، كالألوان والأصوات والروائح، فلا وجود لها خارج الحس والعقل المدرك. وقضى بذلك على فكرة (الجوهر المادي) وجعل العقل هو المحل أو الحامل للموضوعات، وكل ما تتصف به، من امتداد وشكل وحركة وزمان وأصوات وأضواء وألوان. فكل هذه الأمور لا يمكن أن تقوم، أو تتصور، مستقلة عن الذات المدركة؛ ومن هنا كان من المناسب تماماً أن تدعى (أفكارا). ويقول بركلي هنا: إن أحداً لا ينازع في إن ذكرياتنا وتصوراتنا وتخيلاتنا إنما توجد في الذهن، ولا يمكن أن توجد بمعزل عنه؛ ولكن لا يقل عن هذا بداهة أن الاحساسات أي (الفكرات) المطبوعة على الحس، على اختلاف مركباتها، أي الموضوعات الخارجية المركبة منها، لا يمكن أن توجد إلا في ذهنٍ مدركٍ. وتتضح هذه الحقيقة كل الوضوح حين نتدبر معنى لفظة (الوجود) أو (الموجود) كما تطلقان على موضوعات الحس. فما عساي أعني حين أقول إن هذه المائدة موجودة؟ أتراني أعني شيئاً غير إني أبصرها وأحسها؟ وإذا كنت خارج الغرفة، وقلت إن المائدة موجودة، أتراني أعني شيئاً غير أنني لو كنت في الغرفة إذن لأبصرت بها، أو إن هناك ذهناً آخر يدركها؟ - لقد كانت ثمت رائحة: هذا معناه أني مشممتها؛ كان ثمت لون أو شكل، أي أني أدركته بالبصر أو اللمس. هذا، كما يقول بركلي، هو كل ما يمكن أن يفهم من أمثال هذه التعبيرات. أما القول بوجود الموضوعات المادية وجوداً مطلقاً فقول متهافت، غير مفهوم أبداً. فإن وجود الأشياء أن تدرك ولا يمكن أن يكون لها أي وجودٍ خارج الأذهان التي تدركها.

ومن هنا فالمعرفة تتألف من عنصرين مختلفين، هما الموضوع أو الفكرة المعروفة، أو الذات العارفة. وليس يوجد إلا المدرَك أو المدرِك.

ولنلاحظ هنا إن كون الموضوعات المحسوسة فكراتٍ في العقل لا ينفي ما بينها وبين الأخيلة والتصورات من فروق هامة؛ كما إن إنكار (الجوهر) المادي لا يعني إنكار واقعية العالم المادي، وإنما معناه إنكار أن تكون هذه الواقعية مستقلةً عن العقل، وأن يكون للموضوع المادي وجود مطلق لا يتوقف على الذات المدركة.

ونظرية شوبنهاور في العالم الخارجي لا تختلف في جوهرها عن نظرية الأسقف العبقري، ومع ذلك فإنه يسلك إلى نظرية المعرفة طريقة (كانت)، ويستعير من مؤسس (النقد) لغته وأسلوب تفكيره. فلا مفر إذن من إلقاء نظرة، ولو عامة خاطفة، على نتائج نقد العقل الخالص (النظري)، بمقدار ما تتعلق هذه النتائج بموضوعنا.

لقد وضع (كانت) حداً حاسماً بين الشيء في ذاته، أو العالم المعقول، وبين الظواهر، أو العالم المحسوس. فالأول خارج المكان والزمان، وخارج نطاق المعرفة الإنسانية. أما الثاني فزماني مكاني بالضرورة، وداخل في نطاق المعرفة، والمعرفة العلمية مقصورة عليه، لا يمكن أن تتخطاه، فلا علم إلا العلم (بالظاهر) وقوانينه. وإنه لعلم صحيح ضروري، لهذا السبب: وهو إن العقل نفسه هو الذي يبدع عالم الظواهر، أو يشارك على الأقل في إبداعه، ويستن له قوانينه، ويخلع عليه شكوله الثابتة.

فالعالم المحسوس يقوم بالضرورة في إطارين: هما المكان والزمان. ولكن هذين الإطارين لا يرجعان إلى الأشياء في أنفسها، وإنما هما (صورتنا خالصتان) لحساسية العقل: ميدان فطريان قبليان، لا وجود لهما خارج الذات الحساسة المدركة. إنهما في الواقع (إسلوبان) أو (وسيلتان) لإدراكنا الأشياء، فلا سبيل إلى إدراك هذه إلا إذا دخل في المكان والزمان، وانطبعت بهذا الطابع العقلي الأجنبي عنها، وتحولت بذلك عن طبيعتها الأصلية، إنهما شرطا إمكان الإدراك والمعرفة؛ وبما إن معرفة الموضوعات هي ما ندعوه (بالتجربة) فالمكان والزمان إذن شرطاً إمكان التجربة، وعليهما تتوقف كل تجربة، واقعة أو ممكنة، فلا يمكن أن يكونا مشتقين من التجربة، لأن الشرط يتقدم على الشروط، وإنما هما سابقان عليها أو هما (قبليان). ولذلك ترانا نستطيع أن نتمثل المكان والزمان خاليين من كل موضوع، تمثلاً عيانياً مباشراً، ولكننا لا نستطيع أن نتمثل الموضوعات بمعزل عن الزمان والمكان. ومؤسس النقد يسمى هاتين الصورتين، معتبرتين في نفسيهما، (بالعيان الخالص) كما إنه يسمى الإدراك الحسي (بالعيان التجريبي). وهذا الأخير يتوقف على شرطين: أولهما أن تقبل الحساسية أو تتسلم من (الخارج) تأثرات مختلفة، صادرة عن الموضوع الحقيقي أو الشيء في ذاته؛ وثانيهما أن تترتب الاحساسات الناشئة عن التأثر في صورتي الزمان والمكان، إذا كان العيان يتعلق بالموضوعات الخارجية، أو في الزمان وحده، إذا كان يتعلق بتعيناتنا الباطنة.

والظواهر الناشئة عن العيان تترابط برباط العلية، وتبدو على هيئة كميات وكيفيات، ونسب وعلاقات، وجواهر وأعراض؛ ولكن جميع هذه التعينات لا ترجع إلى الأشياء في ذاتها. وإنما هي أشكال أو (مقولات) ذهنية قبلية، نتصور العالم ونفهمه على نحوها. والقوة أو الملكة العقلية التي تقوم بهذا الدور هي (الذهن) (أو (الفهم). كما إن حساسية العقل، أو قدرته على قبول التأثرات، هي التي تقوم بالعيان أو الإدراك. وقد قرر (كانت) إن هناك اثنتي عشرة (مقولة) أو (تصوراً خالصاً)، تكون، مع المبادئ القبلية اللازمة عنها، ومع المكان والزمان، شروط إمكان التجربة. وتندرج المقولات، ثلاثاً ثلاثاً، تحت أربعة عناوين أساسية، وتؤلف بذلك مقولاً (الكمية) و (الكيفية) و (النسبة) و (الجهة). ولا حاجة لنا إلى التحدث عن هذه المقولات، ما دام شوبنهاور نفسه قد نبذها جميعاً، إلا مقولة واحدة: هي (العلية). وحسبنا أن نشير - في ختام هذه الخلاصة لمذهب (كانت) - إلى نقطتين أساسيتين فيه؛ أولاهما إن عالم الظواهر متوقف برمته وبغير استثناء على الذات وشكولها القبلية وإن عالم الأشياء في ذاتها (أو بالأحرى عالم (الشيء في ذاته)، ما دام إن (الكمية) مقولة ذهنية) مستقل عن الذات وصورها الفطرية، ولسنا نعرف، ولا يمكن أن نعرف، عنه شيئاً؛ فهو (س) مجهولة. والنقطة الثانية إن قيام الظاهرة مشروط، مع ذلك بتأثير الموضوع أو الشيء في حواسنا.

وقد هوجمت فكرة الشيء في ذاته منذ ظهورها هجوماً عنيفاً. كيف يزعم (كانت) إن الموضوع (يؤثر) في الحساسية، وأن تأثيره ضروري لحصول الإدراك، مع إنه يؤكد في (التحليل المتعالي) إن المقولات، كمقولة الجوهر والواقع والعلية، لا تصح وراء عالم التجربة الممكنة، عالم الزمان والمكان؟ إن العلية تتعلق بالظواهر وحدها، فليس من حقنا أن نطبقها على ما هو خارج الظواهر، وليس لنا أن نصف الشيء في ذاته بأنه علة للظاهرة، بل ولا أن نقول بوجوده أصلاً. إذ من أبن لنا إنه موجود، وعلمنا محصور في دائرة التجربة؟ وكيف نزعم إنه (س) مجهولة ثم نقول إنه موجود، وإنه علة الظواهر؟

كذلك انتقد (الشيء في ذاته)؛ ومن جملة ناقديه (شولتسه) أستاذ شوبنهاور، و (فشته) الذي أنكر، بناءً على هذا النقد، أن يكون ثمة حقيقة مطلقة خارج (الذات)، وانتهى من ذلك إلى أن الشيء في ذاته هو الذات أو الأنا؛ فالأنا المطلق اللا متناهي يضع نفسه بنفسه، ويضع اللا أنا أو العالم الخارجي. على أن فشته، كما يلاحظ شوبهاور، لم يزد على أن جعل الذات (علة) للعالم الموضوعي، مع إن العلية هي الصورة القبلية لكل موضوع مدرك فقط، فلا يمكن أن تعدو عالم الموضوعات إلى العلاقة بينه وبين الذات.

وعلى أن شوبنهاور يأخذ بالنقد الموجه إلى فكرة الشيء في ذاته بحسب مفهومه عند كانت فإنه لا ينتهي من ذلك إلى إنكاره وإبطاله، وإنما هو بضد ذلك يقر (كانت) على القول به، ويراه كما رآه سلفه العظيم المطلق الكامن وراء عالم الظواهر. وإنما الذي يأخذه عليه إنه جعل هذا المطلق (علة) و (موضوعاً)، ووقع بذلك في الخلف والشناعة. إذ لا علة وراء إمكان التجربة، ولا موضوع بغير ذات. والقول بموضوع في نفسه، بموضوع لا تعرفه الذات، تناقض في الحدود. كل موضوع فهو بالضرورة موضوع بالنسبة إلى ذات، أو إدراك مدرك. ليس الشيء في ذاته بظاهرة أو فكرة، ولا هي بشيء (موجود) بالفعل، وإنما هو المطلق المستقر وراء الظواهر والموجودات الواقعية؛ هو ذاك الذي (يظهر)، ذاك الذي يرد أن يوجد، لأنه غير موجود. إنه الإرادة - إرادة الوجود. وقد قرر (كانت) إن الشيء في ذاته ممتنع على المعرفة، وشوبنهاور يسلم له هذا أيضاً، إن كان المقصود بالمعرفة المعرفة الخاضعة لمبدأ السبب الكافي؛ ولكن هناك ضرباً من المعرفة المباشرة، نستطيع أنن نكتشف به المطلق، ونكتشف إنه إرادة سرمدية: نزوع مطلق إلى الوجود والحياة والتحقق الموضوعي.

وليس عالم الظواهر بمعلول للشيء في ذاته أو الإرادة، لأن العلية لا تصح إلا على الظواهر وحدهاً؛ وليس هناك، إن طلبنا الدقة في التعبير، عالمان مترابطان برابطة العلة والمعلول، وإنما هو عالم واحد ذو وجهين، وجه الفكرة أو التمثل، ووجه الإرادة أو النزوع - والأول مرئي مشهود، والثاني مغيب غير منظور. إنه من جهةٍ فكرة كله، ومن جهةٍ إرادة كله؛ وبعبارةً أخرى، إذا نظرنا إلى العالم من الخارج فهو فكرة، وإذا نظرنا إليه من الداخل فهو إرادة. وبعبارة أصح، ليس عالم الظواهر إلا تجسم الإرادة، أو تحققها الموضوعي؛ إنه الإرادة كما نراها، كما تبدو لنا.

وصور العالم المرئي هو الزمان والمكان والعلية، وهي كل ما استبقاه شوبنهاور من جهاز (كانت) القبلي؛ على إنه جعل ما أسماه بمبدأ السبب الكافي التعبير العام عن هذه الصور، كما إنه أدرج هذا المبدأ، في كل أشكاله، تحت صورة عليا، هي ازدواج الذات والموضوع، وسنأتي بعد على بيان هذا كله.

وبفضل المكان والزمان والعلية يتم لنا، ولسائر الحيوانات إدراك العالم الخارجي. والذي يقوم بهذا الإدراك أو العيان، ويربط المدركات الحسية برباط العلية، هو (الذهن) وحده، لا الحساسية ثم الذهن، كما ذهب إلى ذلك (كانت)؛ ولا (العقل). ولذا (فكل عيان ذهني). وقد ميز شوبنهاور بين (الذهن) و (العقل) كما ميز (كانت)، ولكن على حين أن الأخير جعل العقل (بمعناه الضيق) قوة الصور أو المثل الكلية المنظمة لأحكامنا، قصره الأول على قوة التصورات المجردة، التي يتميز بها الإنسان على العجماوات، وليس من شأن هذه الملكة أن تكتشف أو تبتكر شيئاً، فذلك من شأن الذهن وحده، وإنما شأنها تجريد المدركات، وتعميمها، وربط بعضها ببعض، وحفظها، وتيسير استعمالها في المقاصد العملية.

(يتبع)

عبد الكريم الناصري