مجلة الرسالة/العدد 717/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 717/الأدب في سير أعلامه:
8 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
بين العبث والندم
لن يصبر الفتى على المقام طويلاً ببسنايا، فإن المدينتين: موسكو وبطرسبرج لا تزال تدعوانه إلى مفاتنهما وزينتهما، وما إن يأخذ الفتى حظه من اللهو في إحداهما أو في كليهما حتى ينطلق إلى ياسنايا يطلب الهدوء ويأمل في التوبة، ويرجو أن يتفرغ لشؤون ضياعه، وعلى هذه الحال قضى الفتى ثلاث سنوات يلقي به طول عبثه إلى الندم، ويؤدي به سأمه من ندمه إلى ما كان فيه من عبث؛ وكان في حاليه يمثل حياتي أخويه. فإذا أمعن في عبثه ومجونه وعدم اكتراثه لشيء مثل حياة سيرجي، وإذا ندم وتقشف وزهد الحياة الدنيا وزينتها عاش عيشة ديمتري
ولم يقف عبثه عند حد في العاصمتين؛ فهو في ليله يسرف في الميسر ويغشى أمكنة اللهو وينتقل بين (صالونات) الارستوقراط وأماكن الغجريات المغنيات، يقضي أرب مشاعره من الجمال البهجة، وغاية بدنه من الفسوق والرجس، وهو في نهاره يستمتع بالصيد أو بركوب الصافنات الجياد، أو يملأ فراغه يلعب الورق أو الشطرنج أو بكتابة ما يداخله من ندم في دفتر يومياته، أو باللعب ساعة على البيان، وهو في ليله وفي نهاره يشرب الخمر ويصيب ما يلذه من طعام في أشهر مطاعم المدينة وأغلاها ثمناً. يفعل ذلك في رفقة من صحابته يعبثون ويلهون كما يعبث ويلهو، ويفوزون منه بما ينفق عليهم من ماله. . .
ويحاول أحياناً أن يصنع ما نصحت به عمته تاتيانا إليه، وذلك أن يرتبط بفتاة ذات خلق وكرم محتد، فيدور بعينيه في سهرات الأرستقراط يطالع وجه الأوانس، ويخفق قلبه هذه أو لتلك، ولكنه لا يلبث حتى ينطلق تحت ستار الظلمة إلى حيث يلقي نفسه بين ذراعي إحدى الغجريات!
ويحلم تارة أحلام الزواج فيهو قلبه إلى الآنسات في صحبة أمهاتهن وقد تبرجن وأبدين زينتهن، ويتظرف في حديثه ويظهر أكثر ما يستطيع من مظاهر الارستقراطية والنبل، ولكنه سرعان ما ينصرف عن هذا إلى ما يوسوس به الشيطان من فجور وإثم يطفئ به ضرام بدنه القوي الذي ما يزال يلتهب من شهوة ويعود إليه تارة تخيله إنه محب وإنه أسير هوى غادة عرفها في موسكو هي الأميرة شرباتوث، وإن كانت هذه الغادة لتجهل كل الجهل ما تحدثه به نفسه من حب، ولا تفطن إلى ما يخيل إليه إنها بعثته في نفسه من عاطفة. . .
وكذلك تساوره أحياناً رغبته في الكمال، تلك الرغبة التي تسلطت عليه زمناً في قازان، ولكن الكمال هنا يتخذ منحنى جديداً غير منحنى الثقافة والمعرفة؛ فهو يريد اليوم أن يكون رجل مجتمعات، يشار إليه في المنتديات والصالونات، ويريد أن يكون حديث مجالس ينصت إله ذوو المكانة ويصفونه بأحسن أوصافهم من النبل والتهذيب والظرف واللباقة؛ ولكنه لا يستقر على هذا الاتجاه. وما هي إلا أن توسوس له أقل المغريات حتى يعود إلى مجونه وجنونه، ليعب منهما ما يشاء له شبابه ثم يعمد إلى دفتره فيثبت فيه ما يخالجه من ندم ومن تأنيب منه لنفسه؛ وهكذا يحيا الفتى في المدينتين حياة لا تختلف عن حياته في قازان إلا ربما يكون من إفراد في اللهو وإسراف في المال.
ولن يزال الفتى كالفراش الهائم يطير من زهرة إلى زهرة، ومن ثمرة إلى ثمرة، أو يقع على اللهب ليرتد عنه ثم يجذبه الضوء فينجذب إليه، ولا يجد ما يبثه خلجات شعوره ونوازع وجدانه إلا دفتر يومياته؛ كتب في هذا الدفتر سنة 1850 يقول وقد كان في موسكو (إن هذه ثالث سنة لي أقضي شتاءها في موسكو دون أن أكون في منصب ما؛ هنا حيث أفضي حياة سخيفة لا غناء فيها، حياة فارغة لا تهدف إلى غرض؛ ولم أحي هذه الحياة لأن كل امرئ في موسكو يفعل مثلما أفعل، ولكن لأن مثل هذه الحياة هيأت لي أسباب المسرة).
وبلغت حاله من السوء في أواخر تلك السنة بما أسرف على نفسه من الميسر أن أصبح يطلب القليل من المال فلا يكاد يجده ولذلك فكر في أن يشغل منصباً يرتزق من وظيفته، واتجه إلى منصب مدير البريد في مدينة تولا؛ ولكنه لم يجد من ذوي النفوذ من أقربائه من أعانه على تحقيق هذا المطلب، كما لم يجد في نفسه المقدرة على أن يعمل عمل الموظفين فانصرف عن هذا المتجه. . .
لكن ماذا عسى أن يصنع وقد اشتدت به الحاجة إلى المال وفدحته أعباء الدين؟. . . يا عجباً! إنه يريد أن يحذق لعب الورق ليكس المال من الميسر، عسى أن يعوض شيئاً مما خسره فيما سلف من لعبه، وإنما هو كما عرف من قبل وسيلة لإتلافه؛ ثم إن الفتى يضيق بحياته هذه حتى ما يطبق صبراً فيفد إلى ياسنايابوليانا ويقضي الفتى في ضيعته بضعة أشهر لا يكدر عليه صفوه ولا يقطع هدوءه إلا إلحاح عاطفته الحيوانية عليه وظمأ بدنه ذلك الظمأ الذي لا يفتر؛ ولكنه يغالب تلك العاطفة بكل ما في طوقه من عزم، ويصبر على ذلك الظمأ ما وسعه الصبر؛ ثم لا يلبث حتى يجد نفسه وقد غلب على أمره فعاد أكثر مما كان نهماً وطمعاً. والحق إنه كان يعاني كثيراً من الضيق من جراء فشله كلما فشل في مغالبة هذه العاطفة؛ أشار إلى ذلك مرة لأحد مترجمي حياته بعد أن تقدم به العمر فذكر إنه ما من شيء كان أشق على نفسه من محاولته قهر هذه العادة التي تسلطت عليه فلم يقو على دفعها؛ ولقد كان يتأثم منها ويندم أشد الندم كلما منى بفشل جديد، تجد ذلك في مثل قوله سنة 1850 (إني أعيش عيشة بهيمية، ولقد هجرت كل ما عسى أن يشغلني من عمل؛ وإن ذلك ليكدر روحي كدراً شديداً).
ولا يكاد الفتى يجمع من المال قدراً حتى يعود إلى موسكو في شهر مارس سنة 1851؛ وفي نفسه هذه المرة أن يبتعد عن كل ما يشين لأنه اليوم يريد أن يصل إلى مكانة مرموقة في المجتمع وأن يشغل منصباً ذا خطر وأن يتزوج من ذات ثراء ومحتد. . .
وراح يغشى أواسط الارستقراط يشهد الحفلات والولائم، يهمه أن يتعرف على العلية وذوي المكانة والنفوذ؛ إذا جلس في حلقة أخذ بقسط موفور من الجدل والحديث، وحاول ما استطاع أن يكون هو الذي يدبر الكلام ويصرف وجوهه، وحرص على أن تكون آراؤه مثيرة للدهشة أو للانتباه أو للمعارضة، واجتهد أن يبرز أقصى ما لديه من علم فيما يتشقق إليه الحديث من مسائل فيفيض ويشرح وجهة نظره ويسرد الأمثلة ويبسط الحجج في لهجة المتمكن القادر.
وعادت تطوف برأسه أحلام الزواج؛ وعاد يتذكر ما تمنته له عمته تاتيانا؛ فقد كان أجمل ما تمنته له في رأيها أن يتزوج بفتاة عظيمة الثورة وأن يمتلك من رقيق الزراع أكثر ما يستطاع أن يمتلك؛ ولكنه يرى إن مثل هذا الرباط لن يكون إلا بالحب، وهذا ما لا يحس أنه انتهى فيه إلى رأي. . .
وكان لا يزال يطمع أن يعينه بعض ذوي النفوذ والجاه من أقربائه أو أصدقائه على أن يظفر بمنصب من مناصب الدولة ينعم فيه بالمال والجاه، ولكنه لم يصل من ذلك إلى كل ما يريد. .
وكان قد صمم عند مجيئه إلى موسكو ألا يقرب الميسر وقد أوصته عمته أن يتحرر من هذه العادة المتلفة للمال الموبقة للروح؛ ونفذ الفتى أول الأمر ما عقد عزمه عليه وابتعد عن الميسر كل الابتعاد كأنه أمر ينفر منه بطبعه؛ ولكن ما كان أعجب عودته إليه بعد قليل بأمل من جديد أن يجد فيه مخرجاً مما هو فيه من عسر؛ ولعب ما وسعه اللعب وخسر خسارة كبيرة، ولكن الخسارة لم تزده إلا إسرافاً في اللعب وعد اكتراث لما يكون للعب من عاقبة حلوة كانت أو مرة قاسية المرارة؛ ولقد بلغ به الأمر أن رهن ساعته يوماً ليدفع ثمن معطف ذي فراء أراد أن يدخل على روحه بعض البهجة يلبسه والتنبل به وإن صفرت من المال يده. . .
وضاق صدره بحياته على هذه الصورة وعزا هذا الاضطراب إلى ضعف عزيمته. كتب في دفتره يقول (إن ألاحظ إن أهم عاطفتين تتسلطان علي هما الميل إلى اللعب ثم الغرور)؛ وراح يتهم نفسه كل يوم في دفتره ويندم ما وسعه الندم؛ وجعل لكل يوم من أيام الأسبوع في دفتر آخر فضائل يؤديها وأخذ يشير بعلامة إلى ما قصر في أدائه حتى لا يعود إلى التقصير في مثل ذلك اليوم من الأسبوع التالي؛ ثم لاذ الفتى بالدين فزهد الحياة أياماً فصام وصلى وألف دعاء يدعو به الله ليخرجه مما هو فيه. .
ولمحت للفتى بارقة أمل؛ لم لا يجعل الأدب حرفة له؟ ألم تكن عمته تاتيانا على حق قالت له ذات يوم (إني أعجب يا عزيزي ليو كيف لا تكتب رواية ولك مثل ما لك من خيال؟).
وكان الفتى يقرأ القصص أكثر ما يقرأ، ولم ينقطع عن القراءة مهما شغلته الشواغل أو ملأ حياته اللهو، ولا يزال إعجابه بروسو عظيماً، وكذلك لا يزال يجعل لدكنز منزلة عظيمة في نفسه؛ أما الكتاب الروس فقد كل يقبل منهم على بوشكين وجوجول إقبالاً شديداً، وكان لثانيهما تأثير قوي في خياله وعلقه؛ وبدأ يلتمع اسم ترجنيف وكان أكبر من تولستوي بعشر سنوات، وقد نشر أكل كتبه سنة 1847 وهو مذكرات رجل صيد، وكان لهذا الكتاب كذلك تأثير عميق في خيال ليو ووجدانه، وبخاصة ما أظهره مؤلفه في فنه القوي المحكم من حياة رقيق الأرض. . . وقرأ الفتى لغير هؤلاء الكتاب كتب شلر وكتب ستيرن وغيرهما من فحول القصة والشعر.
وتصادف أن كانت قصة دكنز العظيمة دافيد كوبرفيلد تنشر يومئذ تباعاً في إحدى المجلات فأحدثت في نفسه أثراً لم تحدث مثل قصة غيرها وظلت لها في نفسه المكانة الأولى حتى آخر حياته.
وماذا عسى أن يكتب الفتى؟ ذلك ما حيره أول الأمر حيرة شديدة؛ أيصف حياة الغجر كما فعل بوشكين وإنه اليوم بهم عليم؟ أيكتب قصة عمته تاتيانا؟ لا إنه لا يميل إلى هذه ولا إلى تلك فماذا يكتب؟ ليصف زيارته بالأمس لتلك الأميرة شيرباتوف التي ظن أنه يحبها؛ وأقبل الفتى فوصف هذه الزيارة، ولقد نشرت هذه القصة الصغيرة حديثاً بعد أن عثر عليها ورأى الناس أول عمل أدبي لنابغة كتاب القصة في القرن التاسع عشر فإذا بهذه الباكورة تنطق بكثير من دلائل عبقريته. . .
ويقول ليو في دفتره (إن الوصف ليس كل شيء. كيف ينقل المرء إلى القارئ شعوره؟). قال ذلك لأنه كان قد اعتزم أن يجعل الوصف غايته من الكتابة فيصف كل ما تقع عليه عيناه.
ثم بدا له وكأن أثر دافيد كوبرفيلد قوياً في نفسه أن يكتب أيام طفولته، وانكب على الكتابة كل صباح من الساعة الخامسة حتى الحادية عشر حتى أتم باكورة آثاره التي كتب لها الخلود.
ولكن حياة اللهو وما أسفاه تعود فتصرفه عن هذا الجد. فيقبل على لذاذاته ويسرف من جديد في مجونه وعبثه، ثم لا يجد آخر الأمر خيراً من أن يلوذ بضيعته من هذه الحياة التي سئمها وسئم نفسه بسببها فيعود إلى باسنايا في صيف عام 1851 ولم يتزوج من ذات ثراء ولم يظفر بمكانة في المجتمع ولا بمنصب خطير من مناصب الدولة، ولم يتحرر من الميسر ولا مما يوهن عزمه من نوازع بدنه القوي الذي لا تهدأ حيوانيته. . .
وأقام في القرية أياماً يخالجه شعور الندم على ما كان من عبثه الذي أسرف فيه على نفسه وشعور الحسرة على ما آلت إليها حاله من عسر ومن دين، وينظر اليوم إلى هؤلاء الرقيق الزراع الذين أراد إصلاحهم بالأمس فيؤله أنه انقلب اليوم مبدداً لما تنتجه أيديهم من خير؛ فلا هو أصلحهم ولا أفاد من كدهم إلا ذلك المال الذي يذهب هباء في الميسر والترف والغرور والفسوق.
وينقاد إلى جموح بدنه في القرية كما كان يفعل في المدينة، لا يهدأ هذا البدن ولا ينطفئ لهبه؛ ولكنه يشعر باشمئزاز شديد ذات ليلة أثر فعلة من فعلات الشباب فعلها تحت جنح الظلام، وكأنما استيقظت في نفسه مشاعر جديدة في تلك اللحظة جعلته ينكر هذا الذي فعل إنكاراً شديداً كان أكثر قيمة من ذلك الندم الذي كان يخالجه كل مرة ثم لا يلبث أن يموت.
كره الفتى حياته كرهاً شديداً، وضاق بالمقام في ياسنايا وفي موسكو وفي بطرسبرج، وما له غير الرحيل شفاء لنفسه ومنجاة لروحه، فليرتحل إلى حيث لا يجد شيئاً يذكره بالذي كرهه أشد الكره وأنكره كل الإنكار من مواطن مجونه وعبثه وفراغ حياته.
(يتبع)
الخفيف