مجلة الرسالة/العدد 714/للتاريخ:
مجلة الرسالة/العدد 714/للتاريخ:
يوم من أيام بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
(لعل ذكرى هذا اليوم تهز بغداد، دار الأعزة الصيد، فيكون فيها لمصر وقضيتها يوم مثله. . .)
طلعت جريدة (البلاد) على أهل بغداد، صباح اليوم الأخير من آذار (مارس) 1939، وفي صدرها مقالة (لكاتب شامي أستحي أن أسميه)، ليست كمقالات، جملا ترصف، وكلمات تؤلف، ولكنها قلب يتفطر، وديناميت يتفجر، عنوانها: (يا غازي. يا غازي. يا غازي). وفيها:
يا غازي، تدعوك الأيامى الثاكلات، يا غازي يناديك اليتامى المظلومون، يا غازي يستنصرك الضعاف العزل، والعجائز الركع، والأطفال الرضع. يا غازي يهتف باسمك الشباب الذي يواجه بجسمه المصفحات، وبصدره الدبابات، ويحارب الدولة الطاغية الغاشمة، لا سلاح له إلا إيمانه، وأمله بالله، ثم بالعرب، وبك يا مليك العرب، يا غازي!
يا غازي: دعوة غريق ينادي منقذه القوي!
يا غازي: هتاف مريض يدعو طبيبه الآسي!
يا غازي: إهابة مشرف على اليأس بالسيد المأمول!
يا غازي: صرخة الدم، واللغة، والدين، والمجد، والجوار.
يا غازي: المدد! المدد!
يا غازي!
لقد نادت امرأة واحدة، في سالف الدهر: (وامعتصماه) فاهتز لها هذا العرش: عرشك. وماج لها هذا الشعب: شعبك وخرجت الجيوش: جيوش بغداد، فلم ترجع إلا وفي ركابها المجد والنصر. فمن غيرك، وغير العراق لهذه الأمة التي حملت البلاء، ورأت الشدائد، وشاهدت ألوان الموت، وخانها الحليف، ونقض عهده لها القوي، وجرد دباباته الضخمة، ومدافعه وعتاده، ليحارب بها النساء والأطفال والشيوخ؟ من غيرك وغير العراق لهذه الأمة التي تنادي اليوم: (واعراقاه). (واغازياه)! فقم يا أيها (المعتصم)، لبها على (الخيول البلق) فان كتاب التاريخ أعدوا صحفهم، وأمسكوا بأقلامهم ليكتبوا المفخرة مرة ثانية للعراق، ولملك العراق!
إن الأمة التي أحبت فيصلا، وأحبها فيصل تناديك اليوم يوم الخطب بابن فيصل!
إن الشعب الذي بايع فيصلا، هو على بيعته لك، فهل تضيع شعبك يا أبا فيصل؟
إن القصر الذي كان يسكنه أبوك ملكاً، والذي كنت تلهو في حدائقه طفلا، هو اليوم مقر عدو العرب، منه يصدر الأمر بتقتيل رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يسكنه اليوم العدو الذي بغى على فيصل، وسرق منه عرشه. فأنقذ تراث فيصل، من عدو فيصل، وعد أنت إلى قصر فيصل، يا بن فيصل!
يا غازي؟
الشباب الذين سقطوا في شوارع دمشق شهداء البغي، ماتوا وهم يهتفون باسمك يا غازي. العجائز تلقين أبناءهن المصرعين على أرض الوطن، وهن يهتفن باسمك يا غازي.
يا غازي، كم من طفل وطفلة، عدا عليهم الظالمون، فتلفتوا حولهم يفتشون عن المنقذ الذي حفظوا اسمه، ورفعوا رؤوساً يسيل من جراحها الدم، وأشاروا إلى الشرق بأصابعهم الصغيرة المخضبة بالنجيع الأحمر، ورددوا اسمك: يا غازي!
يا غازي! بك علقوا الآمال، ومنك ينتظرون العون، أفتدع هذا الشعب بين براثن الوحوش يعبثون بكرامته وأمجاده وحياته وكرامته كرامة العرب، وأمجاده أمجادهم، وحياته حياتهم؟
أتتركهم يموتون، وبغداد تستروح رائحة الربيع العطر، وتستمع إلى جرس النشيد الحلو، وتنام على فراش النعيم؟
يا مليكي!
هذا يوم من أيام التاريخ له ما بعده، فلا يقولن التاريخ: (يا ليتهم نصروا الشام في وقت محنته! يا ليتهم لم يدعوه رهن الحديد والنار)!
الشام في كرب شديد. . . الشام في ضيق!
لقد ضج لما يعاني الشام قبر محمد، يا سليل محمد!
لقد اهتز الحطيم وزمزم، ومادت جبال مكة، يا حفيد شريف مكة!
يا مليك العرب: الشام يدعوك. الشام يستجير بك. الشام يهتف باسمك: (يا غازي. يا غازي. يا غازي!)
نشرت المقالة في أشهر جرائد بغداد، فألهبت شبابها، وشباب بغداد كونت أعصابهم من نور ومن نار، وخلقت أيديهم من الندى ومن الحديد، وملئت قلوبهم نخوة وسماحة، وأترعت شجاعة وكرماً.
فإذا حاربوا أذلوا عزيزاً ... وإذا سالموا أعزوا ذليلا
وإذا عز معشر زال يوما ... منع السيف عزهم أن يزولا
وشباب بغداد، جند العروبة حيثما كان للعروبة أرض، وحماة الحمى، وأسد الغاب. أن أطلقت رصاصة في الشام، أو في مصر، أحسوا أزيزها. وإن أشعلت فيها نار وجدوا حرها. وإن سقط شهيد كان عندهم مأتمه، وإن أصيب جريح كان في ضلوعهم ألمه. وشباب بغداد إن غضبوا الإعصار الجارف، والبحر الطاغي، والصواعق المنقضة، والموت. هل من الموت مهرب؟ وشباب بغداد أن رضوا النسيم الرخي، والربيع الطلق، والسلسبيل العذب، والحياة. هل في الوجود أحلى من الحياة؟
وعلم شباب بغداد، أن ديار الشام في خطر، وأن (حلفاءها) قد نقضوا عهدهم لها، وعادوا كما كانوا أعدائها، فأسروا كرامها وسودوا لئامها، وجرعوها من (مدنيتهم. . .) الصاب والحنظل المسموم، وأن شعب الشام قد لبس لأمة الجهاد، ونزل إلى الشوارع يجالد البارود بالحجارة، ويرد الدبابات بالخناجر، حتى سقطت الدور على أهلها فغدت لهم مقابر، وامتلأت بالأبرياء السجون، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقل الناصر، وانقطع المدد. . .
. . . واشتعلت الحماسة في صدور شباب بغداد ناراً، ومشت هذه النار في قلوب الشعب، فلم تمض ساعات حتى صار حديث الشام حديث الناس في كل مكان، في القهوات، والطرقات، والمنازل والمدارس، ولم يعد الطلاب يصغون إلى درس، أو يستمعون إلى مدرس، أيشتغلون بالمفاضلة بين الفرزدق وجرير، وبحساب بعد القمر ومساحة سيبريه، والشام غارقة في دماء بنيها، عابقة برائحة البارود، رازحة تحت أثقال المدافع، تطؤها نعال الفرنسيين والسنغال؟. . . أيطلب الشكولاته من لا يجد الرغيف؟ أيقرأ الأشعار من تأكل بيته من حوله النار؟ إنهم يريدون أن يطيروا إلى الشام، ليطبقوا في ساحاتها ما تعلموه في دروس الفتوة من فنون القتال.
وفوجئ الناس في المساء، بإذاعة هذه المقالة من محطة الملك الخاصة، في قصر الزهور، فلما انتهى المذيع من تلاوتها، كانت مفاجأة للناس أشد وأمجد، حين سمعوا صوت الملك غازي الذي يعرفونه، يقول:
(لبيك. لبيك يا سورية!).
فكانت هذه الكلمة سحراً ماضياً جعل كل منزل في بغداد ثكنة، وكل قهوة معسكراً، وكل رجل جندياً شاكي السلاح، ينتظر الأمر بالهجوم على الجن والإنس والعفاريت لا يهاب شيئاً، ولا يخشى أحداً، ما دامت الحرب حرباً مقدسة لنصرة الشام، والقائد الملك الشاب الحبيب
وكانت حال لا توصف، ولا تصور ولا تمحو الأيام أثرها.
ودعا ناظر الثانوية المركزية في صبيحة الغد نفراً من المدرسين العراقيين والشاميين منهم كاتب المقال، وأفهمهم سراً، (ولا ضير اليوم في إذاعة هذا السر) أن الحكومة (حكومة السيد نوري السعيد) ترغب في مظاهرة احتجاجية على فرنسا، وأنه ترك لنا أمر تنظيمها، فكان ذلك أحب إلينا من خزائن المال نعطاها، وأسمى المراتب نمنحها، وخرجنا فأخذنا في عملنا.
وكان في بغداد وضواحيها عشر ثانويات، فاقتسمنا ثانوياتها العشر. ينفرد كل منا بإعداد طلاب مدرسته للمظاهرة، وتفننا في هذا الإعداد، واستبقنا فيه، وكنت امرأ أكتب ولكني لا أحسن بيتاً واحداً من الشعر، فبحثت عمن ينظم لمدرستنا نشيداً لهذا اليوم فلم أجد، فنظمت أنا أنشودة مهلهلة النسج، ضعيفة التأليف، لكنها خارجة من القلب وتقع في القلوب، ثم وضعت لها أنا. . . لحناً لفقته من ألحان الأناشيد التي كنت حفظتها قديماً ونسيها الناس، وعمدت إلى لوحات صنعناها من القماش. . . فكتبت عليها كلمات تعبر عن الحقيقة التي امتلأت بها نفوس البغداديين مثل:
(الله جعل العرب أمة واحدة فلن تفرقهم يد مخلوق)
(نحن جند الوحدة العربية، إننا سنكتبها بالدم)
(من تعدى على دمشق فقد اعتدى على بغداد)
(لبيك لبيك يا سورية، إننا آتون) (يا سورية، لن تضامي وشباب العراق في الوجود)
وسهرت مع الطلاب في كتابتها وتلوينها، وأنا الذي لم يمسك من قبل (ريشة) قط.
ولم أنم تلك الليلة بل كنت أنتقل من مكان إلى مكان حتى إذا أصبحنا بكرت إلى ساحة الاجتماع، وهي الساحة الفيحاء بين دار الكتب والمتوسطة الغربية ودار المعلمين العليا فوجدتها تعج بالطلاب من كل مدرسة، وكلهم بلباس الفتوة لا يمتاز طالب منهم من طالب، فكيف أجمع طلاب مدرستي وأصفهم؟
وطفقت أصرخ ولا سامع ولا مجيب ومن يسمع النداء في هذا المحشر الذي جمع فيه عشرة آلاف طالب متحمس كلهم يصيح ويتكلم؟ ثم ألهمني الله فكرة فدعوت عريفاً من عرفاء الطلبة، ميزته من شرائط الفضة على ذراعه، فانتصب أمامي، وحيا ووقف وقفة عسكرية ينتظر مني الأمر. فقلت له: صف هؤلاء الطلاب. فأعاد التحية وقال: حاضر. وانصرف، وأنا أعجب منه كيف يقول: (حاضر)، وقد عجزت من قبله عن ذلك ويعجز عشرة من أمثالي! وإذا به يدعو طالباً معه بوق، فينفخ به، فتقع المعجزة، ويعم الصمت، كأن المتوكل قد طلع بضوء وجهه. . .
. . . . . . . . . فانجلت تلك الدجى وإنجاب ذاك العثير ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هذه الخلائق كلها، تغدو صفاً طويلاً صامتاً مرتباً. وقد مني إخواننا فقلت فيهم خطبة. ومشينا، حتى إذا بلغنا أوائل ميدان باب المعظم، قابلتنا مواكب الشعب الهائلة آتية من حي الفضل وتلك الأرجاء، فتداني الجبلان، والتقى البحران، فعادا بحراً واحداً، تلتطم أمواجه، وتعلو أثباجه، بحراً من الناس ملأ باب المعظم وأفواه الشوارع المفضية إليه، والأرض البراح من هنا ومن هناك. وقام الخطباء في كل مكان فلن يبق في اللغة كلمة تمجيد إلا قيلت للشام، ولا لفظة تحقير إلا سيقت لفرنسا، ولا جملة تعبر عن القوة والإيمان والاستعداد إلا ألقيت على الناس، ولا شيء يهز القلب ويحرك العزائم إلا كان ثم مشى هذا البحر. وإلى أين تمشي البحار؟ والشوارع قد سدت بالناس، والناس على الأرصفة وفي الشبابيك وعلى الأسطحة. وفي كل مكان هتاف ونداء، فالطلاب ينشدون، والعامة يحدون والنساء يزغردن، والتكبير والتهليل، والمواكب تمتد، والخلائق تتوافد، حتى حلت بغداد كلها في شارع الرشيد من باب المعظم إلى باب الشرقي، وكان يوم ما رأيت له مثيلا قط.
إننا لم نخض في ذلك اليوم ملحمة، ولا شهدنا معمعة، ولا أرقنا لعدو دماً، ولم نجاوز فيه الكلام، ولكنه كلام جعل كل فتى من هؤلاء الفتيان بطلا، وترك في نفسه ذخيرة تمده بالقوة دهراً، وصب في نفسه من العزة ما جعل نفسه أسمى من النجم، وأكبر من الدنيا. كلام ولكنه كان أساساً من الصخر الراسي في صرح الوحدة العربية غداً والإسلامية بعد غد. كلام ولكنه أرهب العدو وخلع قلبه، ورده عن قصده، ودفع من عدوانه. كلام ولكن بمثله تحيا الأمم، وتبنى النهضات، وتكتب تواريخ المجد. كلام، وإن من الكلام لفعالا من أعظم الفعال، وقوة من أمضى القوى، ومجداً من أسمى الأمجاد.
إن الشام يذكر لك يا بغداد في عرس الاستقلال، ما أسديت إليه في بؤس الاحتلال، فهلا اتخذت عند مصر يداً مثلها تذكرها لك يد الدهر؟
إن مصر، يا بغداد، أختنا الكبرى في العروبة، وقضية مصر قضيتنا، ووادي مصر وادينا، وعدو مصر عدونا، وإننا إن نخذل مصر نخذل بلادنا، وإلا نكن معها نحن أمتنا.
يا بغداد، يا ذات المجد، يا مثوى البطولة، يا عرين الآساد، أن مصر قد عدا عليها العادون، وكشر لها عن أنياب الذئب، من كان يجيئها أيام الحرب في فروة الحمل، سائلا يطلب منها العون ولمال. إنه يريد الآن أن يفرق بين أسودها وأسمرها، وأعلاها وأدناها ويسرق منها نصف واديها، أفتنامين يا بغداد في سرر الأمان، ومصر في الشوارع تصارع الذئاب؟
يا بغداد! اليوم يومك، يا بغداد!!
علي الطنطاوي