مجلة الرسالة/العدد 713/النطق وكيف نشأ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 713/النطق وكيف نشأ

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1947



في النوع الإنساني وفي الحيوانات العليا

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

1 - هل النطق غريزي في الإنسان؟

يتعين علينا قبل الدخول في تصميم الموضوع أن نشير إلى نقطتين أو حقيقتين مقررتين ثابتتين:

تطور اللغات:

الحقيقة الأولى أن اللغات - وهي مظهر النطق أو صورته في مختلف الجماعات والبيئات الإنسانية - لم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها تنشأ وتتطور شأن كل ما في الكون من جمادات ونباتات وحيوانات (بما فيها الإنسان) طبقا لنواميس النشوء والتطور. فمنذ أفي سنة لم يكن للغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية مثلا أثر من الوجود. فكيف نشأت ووجدت؟ لما فتح الرومان باقي أقاليم إيطاليا ثم فرنسا وإسبانيا والبرتغال انتشرت لغتهم اللاتينية في تلك البلاد وكانوا هم الفاتحون الأقوياء كما أنهم كانوا أرقى من السكان الأصليين في المدنية والشرائع والعلوم والفنون، لذلك لم تلبث اللاتينية حتى تغلبت على اللغات المحلية وحلت محلها جرياً على نواميس الانتخاب الطبيعي وما يترتب عليها من انهزام الضعيف وبقاء الأصلح. ولكنها (أي اللاتينية) تطورت بدورها في كل بلد منها تطوراً مختلفاً باختلاف كل من تلك البيئات الجديدة فتحولت شيئاً فشيئاً في فرنسا إلى الفرنسية وفي إيطاليا إلى الإيطالية وفي إسبانيا إلى الإسبانية وهكذا.

وكما أن الصور أو الحلقات المتوسطة بين الحيوانات والنباتات الحديثة وبين الأنواع القديمة التي تسلسلت منها موجودة وقد كشف عن الكثير منها متحجراً في طبقات الأرض التي تكونت في مختلف الأعصر الجيولوجية القديمة، كذلك الحلقات المتوسطة بين اللغات الحديثة وبين جداتها التي تسلسلت منها، وأعني بها المؤلفات التي وضعت بتلك اللغات في الأعصر المتعاقبة ووصل إلينا الكثير منها. فلغة الكتب والرسائل الفرنسية التي وضعت في القرن العاشر مثلا أو الثاني عشر قريبة من اللاتينية ومن مزيج من اللغات الأصلية المحلية. وكلما اقتربنا من عصرنا الحالي نجدها تقترب من اللغة الفرنسية الحديثة بحيث نستطيع أن نتتبع تطور هذه اللغة التدريجي وتحولها شيئاً فشيئاً من اللغة اللاتينية التي اشتقت منها مع امتزاجها بشيء من اللغات المحلية الأصلية. وهكذا الحال بالنسبة للإسبانية وباقي اللغات المتسلسلة من اللاتينية. بل ولسائر اللغات الأخرى.

واللغات اللاتينية واليونانية القديمة (التي اشتقت منها اليونانية الحديثة) والجرمانية القديمة (التي تسلسلت منها الألمانية الحديثة وبعض لغات أوربا الوسطى والشمالية بل واللغة الإنكليزية نفسها)، ومعظم لغات أوربا الأصلية متسلسلة بدورها من لغة هندية قديمة وهي النسكريتية. وجميع هذه اللغات الهندية الأوربية تكتب من اليسار إلى اليمين خلافاً للغات السامية مثلا (التي منها العربية) فإنها تكتب من اليمين إلى اليسار عدا الأرقام لأنها من أصل هندي.

وما يقال عن اللغات الأوربية يقال عن اللغات الشرقية وغيرها. فمنذ ثلاثة آلاف سنه تقريباً لم تكن اللغة العربية ولا العبرية الحديثة ولا الحبشية ولا أخواتها الحالية قد وجدت. فكيف نشأت؟ إنها نشأت وتطورت جرياً على نفس النواميس الطبيعية المتقدم بيانها بفعل العوامل الاجتماعية والسياسية والتاريخية والطبيعية. فاللغة أو اللغات الأصلية القديمة اصطلح على تسميتها بالسامية تطورت تطوراً مختلفاً باختلاف الأقاليم والبيئات التي انتشرت فيها إلى أن تحولت إلى العربية القديمة، والعبرية القديمة والمصرية القديمة (التي اشتقت منها القبطية واستبدلت كتابه حروفها باليونانية)، والحبشية، والحميرية، والكلدانية أو البابلية، وغيرها. وقد استمرت عوامل التطور تعمل في هذه اللغات الأخيرة إلى أن تحولت شيئاً فشيئاً إلى اللغات الحديثة المعروفة. وسأعود في آخر هذا المقال إلى تطور اللغة العربية في مختلف البلاد الشرقية.

وكذلك الحال بالنسبة لمجموعة اللغات الطورانية القديمة والحديثة، (التي منها اللغة التركية ولغات آسيا الوسطى) وغيرها من اللغات الأخرى.

وكما أنه توجد في أنواع النباتات والحيوانات القديمة والحديثة وفي الإنسان أعضاء أثرية لا وظيفة لها إطلاقاً بدليل أنه يمكن استئصالها دون أن يصاب الفرد الذي تجرى له هذه العملية بأي ضرر أو نقص في حيويته، لأنها في الواقع آثار أعضاء قديمة كانت مستعملة عند أجدادنا البعيدين ثم ضمرت شيئاً فشيئاً لعدم استعمالها عندما طرأت عليهم ظروف جديدة جعلتهم يستغنون عنها، كذلك توجد في بعض الألفاظ حروف أثرية لا تنطق ولكنها تدل على الأصل الذي تسلسلت منه. مثل لفظة الفرنسية أي جسم فإن حرفي ولا ينطقان ولكنهما كانا يلفظان في الأصل اللاتيني وكذلك لفظة الفرنسية فإن ال لا تلفظ ولكنها كانت تلفظ في الأصل اللاتيني ويجد القارئ الكثير من هذه الأمثلة في كتب علم نشوء اللغات وتطورها.

وخلاصة القول إن لغات البشر ليست ثابتة ولم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها في تطور مستمر ينشأ الحديث منها من القديم ويتسلسل منه بطريقة التطور التدريجي. وسأبين فيما يلي كيف نشأ النطق في بادئ الأمر كما ينشأ الآن في الأطفال وفي كثير من الطيور والحيوانات العليا.

النطق غير غريزي في الإنسان:

والحقيقة الثانية التي يجب بيانها هي أن النطق ليس غريزياً في البشر ولا هو مميز لهم عن سائر الحيوانات (الإنسان حيوان ناطق) كما كانوا يعتقدون فيما مضى قبل تقدم العلم.

فإذا فصلنا طفلا عن البشر منذ ولادته وعهدنا في تربيته إلى شخص يتولى ذلك بعيداً عن الناس دون أن يفوه أمامه بأي لفظ، فإن هذا الطفل ينشأ عديم النطق بتاتاً إلا ما يصدر منه طبيعياً أو فسيولوجياً من أصوات الألم والانفعالات النفسية كالتأوهات والهمهمة والتأفف مثلما تفعل الحيوانات كما سنبينه فيما بعد. وقد يلجأ إلى بعض إشارات للتعبير عن حاجاته كرفع يده إلى فمه إذا أراد الأكل وما إلى ذلك من الحركات الطبيعية الآلية. وإذا سلمناه إلى جماعة من الخرس فإنه لا يلبث حتى يقلدهم في إشاراتهم ليعبر بذلك عما يتطلبه من أمور الحياة فيكون في ذلك كالأخرس دون أن يعرف إلى النطق سبيلا.

ويؤيد هذه الحقيقة، أي أن النطق اللغوي ليس غريزياً في الإنسان بل هو وليد البيئة ونتيجة التقليد السماعي - كما سيأتي بيانه - ما هو معروف للجميع من أن الطفل الذي ينشأ في وسط قوم يتكلمون العربية مثلا يتكلم هذه اللغة دون غيرها حتى إذا كان آباؤه وأجداده من أبناء لغة أخرى، وكذلك الحال إذا نشأ طفل عربي محض في فرنسا بعيداً عن أهله منذ ولادته فإنه لا يتكلم إلا الفرنسية وهكذا. وإذن فالنطق ليس بغريزي.

النطق في الحيوانات:

ومن جهة أخرى لا يخفي أن لكثير من الطيور وذوات الثدي وعلى الأخص القرود العليا، وكذلك الحشرات الاجتماعية كالنمل لغات صوتية أو اصطلاحية بسيطة يتفاهم بها أفرادها إلى حد ما. فإن لبعض الحيوانات إشارات طبيعية تعبر بها عن انفعالاتها النفسية. فالكلب مثلا يهز ذيله للترحيب بسيده ويتفوه ببعض أصوات خاصة لا يبديها إلا في مثل هذا الظرف، وهو يرخي ذيله إلى الأرض بين قدميه عند الخضوع والخشوع والخوف وهو والقطط وبعض الحيوانات الأخرى يكمشون آذانهم عند الخوف إذا هددوا مثلا بالضرب.

وللنمل طريقة للتفاهم أشبه بلغة الإشارات التلغرافية. فإذا تقابل اثنان منها من نوع واحد نراهما يتلامسان بزوائدهما الأمامية برهة ثم يسير كل منهما في طريقه. وإذا اكتشف أحدها شيئاً من الغذاء يسرع إلى استدعاء باقي أفراد جماعته، ومعلوم أنه ليس للنمل وسائر الحشرات قصبة هوائية ولا أوتار صوتية نظراً لأنه ليس لها رئتان بل إنها تتنفس من مسام عديدة على سطح جسمها ينفذ منها الهواء إلى داخل الجسم فلا يمكن والحالة هذه أن تحدث أي صوت تتفاهم به، ولا شك في أنها تتحدث مع بعضها بالإشارات بالطريقة المتقدم بيانها

وليست لغة الحيوانات قاصرة على الإشارات ولكن الكثير منها ينطق بأصوات للتعبير عما يجول في نفسيتها البسيطة من الانفعالات والمقاصد المحدودة. والذي يرقب القطط مثلا في المنازل يراها عند رؤية الطعام أو شم رائحته أو عندما تجوع تبدي نغمة خاصة. ولها عند نداء صغارها صوت آخر لا تنطق به إلا في هذه المناسبة فقط. وللإناث منها عند طلب الذكور صوت معروف أشبه بلفظه (داؤد).

والببغاء تنطق بكلام البشر بوضوح. وقد دلت المشاهدات والاختبارات على أنها تفهم في أغلب الأحيان مجمل ما تتفوه به مما تكون قد حفظته من باب التقليد في بادئ الأمر ثم تكرره وينتهي بها الأمر إلى أن لا تتفوه به بعد ذلك إلا في المناسبات التي تؤدي إليها معانيه، بل إنها كثيراً ترد على ما يوجهه إليها الإنسان بالألفاظ المناسبة مما يدل على أنها تدرك إلى حد ما معاني ما تسمع ومعاني ما تقول. ويتم لها ذلك بالتقليد والتلقين والتمرين كما يحدث للأطفال على وجه التقريب، ذلك لأن الأطفال يتعلمون بنفس هذه الطريقة: التقليد والتلقين والتمرين.

أما تغريد الطيور فأمره معروف، وتمتاز به الذكور في بعض الأنواع لتغري الإناث حتى تكتسب إعجابها وتفوز بها. وتقيم أنواع أخرى منها اجتماعات على الأشجار أشبه بالحفلات الموسيقية يتبارى فيها الذكور في النطق بنغمات شجية مطربة لتخطب ود الإناث فتنتخب هذه أجملهم صوتا، كما أن أنواعاً أخرى يتباهى ذكورها أمام الإناث بريشهم الزاهي، ولهذا كان الذكور أجمل من الإناث لا في الطيور فقط ولكن في كثير من الفصائل والمراتب الحيوانية الأخرى نتيجة ذلك الانتخاب الجنسي الطبيعي طبقاً لنظرية داروين على أن أنصار نظرية لامارك في أسباب النشوء والتطور يضيفون إلى ذلك التفسير تفسيراً آخر يرجع إلى فعل العوامل الطبيعية الخارجية (البيئة والعوامل الجوية ونظام الحياة والعادة والاستعمال أو عدم الاستعمال الخ) والداخلية (العوامل الفسيولوجية والتفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل الجسم وعلى الأخص فعل الهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء أي الغدد ذات الإفراز الداخلي).

ومما يرجح نظرية لامارك على نظرية داروين في تفسير تلك الظاهرة ونعني بها تفوق الذكور على الإناث في جمال الصوت وزهاء الريش وغزارة الشعر وجمال اللون وهو ما يحدث في كثير من أنواع الأسماك حيث تكتسب الذكور في موسم التلقيح ألواناً زاهية يسمونها في علم الحيوان (حلة الزفاف) على حين أن تلك الأنواع لا تتزاوج ولا تلقح بعضها تلقيحاً فعلياً مباشراً بل إن الإناث تفرز بويضاتها رأساً في الماء ثم يأتي الذكر ويفرز مادته المنوية في الماء أيضاً فيحدث التلقيح بين ما يلتقي منهما بفعل الأمواج، وكل هذا دون أن يتصل الذكور بالإناث. فلا شك في أن الألوان الزاهية التي تطرأ على الذكور إنما هي نتيجة التفاعلات الكيميائية التي تحدثها في الجسم الإفرازات الداخلية للخصيتين عند نضوجها وهي التي تنبت مثل الشوارب وشعر الذقن في ذكور النوع الإنساني وتؤثر في صوتهم وتكسبهم صفات الرجولة، كما أن إفرازات المبيضين تكسب الفتيات عند البلوغ نعومة المرأة وصفات الأنوثة فيها.

نعود إلى النطق في الحيوانات فنقول إن للقرود عامة وعلى الأخص القرود العليا الشبيهة بالإنسان (الغورلا، والشانبازيه، والأورنانجوتان، والجيبون) لغة أو لغات حقيقية وإن كانت على أبسط صور النطق، مكونة من بعض أصوات أو مقاطع لا تبعد كثيراً عن لغات الأطفال في أوائل العام الثاني من ولادتهم ولغات بعض القبائل المتوحشة.

وقد التقط بعضهم أصوات أفراد من القرود على اسطوانات فوتوغرافية ثم أدارها أمام قرود من نفس النوع في حدائق الحيوانات فكانت تصغي إليهم باهتمام وتنبه وتبدي إشارات وحركات وتنطق بأصوات كأنها ترد عليها.

ومما يؤيد أيضاً أن النطق في الإنسان والحيوان ليس غريزياً وإنما هو مكتسب بالتقليد التجربة القديمة الآتية التي أجراها دين بارنجتون الإنكليزي ودونها في موسوعته الفلسفية التي ظهرت سنه 1773 في الجزء وقد نقلناها من كتاب العالم البيولوجي الفرنسي فيلكس ليدانتك (العلم والشعور) طبع سنة 1916 صحيفة 181 فقد أخذ بارنتجون عصافير صغيرة عقب ولادتها من نوع ونقلها إلى عش عصافير من نوع آخر يسمى فاقتبست تغريد هذه العصافير بطريق التقليد وظلت تغرده طيلة حياتها كأنها طبعت عليه إلى حد أنه وضعها بعد ذلك مع أفراد من نوعها فلم تستطع أن تجاريهم في تغريدهم الذي هو تغريد آبائها وأجدادها. ذلك لأن مخ العصافير المحدود يعجز عن وعي شيء جديد غير ما طبع فيه بطريق التقليد في مستهل حياة هذه الكائنات البسيطة.

وخلاصة القول إن النطق ليس بغرزي في البشر ولا هو قاصر عليهم وإنما هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت على بعض الحيوانات وتدرجت حتى وصلت إلى ما هي عليه في النوع الإنساني. كما أن اللغات ظاهرة اجتماعية

فالإنسان ليس بحيوان ناطق كما كانوا يعلموننا فيما مضى وهو لا يختلف في شيء من هذه الناحية عن باقي الحيوانات إلا في الدرجة فقط.

وكل ما هنالك هو أن الإنسان حيوان ثرثار كثير النطق يحب أن يتكلم بلا انقطاع في مجتمعاته الخاصة والعامة، في كل مكان وزمان، يخلق المناسبات ليشبع شهوة الكلام، وإذا تقابل اثنان على غير سابق معرفة في القطار أو الترام مثلاً نراهما يتحدثان ولو في أتفه المواضيع كالجو والطقس. وإذا لم يجد الإنسان من يتحدث معه يظل يتكلم مع نفسه ويكرر مثلاً ما قاله أو ما يود أن يقوله إلى لغيره، وأحياناً يصحب هذا الحديث إشارات يبديها بيده على غير قصد تنم عما يدور في نفسه. وحتى في نومه لا يخلو من الكلام، وكثيراً ما يتفوه وهو على هذه الحالة بألفاظ واضحة أو غير واضحة يسمعها من بجواره. وكثرة الكلام مرض عند بعض الأشخاص يضايقون به غيرهم فيهرب الناس منهم.

وفي المقال التالي نتكلم عن نشوء النطق في النوع الإنساني ثم نعقبه ببحث خاص عن تطور اللغة العربية.

نصيف المنقباوي المحامي