مجلة الرسالة/العدد 712/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 712/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1947


4 - تولستوي. . .!

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

غلام نابه

كان كلما اقترب ليو من أخوته سمعهم يتحدثون عن موسكو وعن الرحيل إلى موسكو فيرفع بصره إلى وجوههم يتبين هل ثمة فيها شيء من الهم لقرب هذا الرحيل؛ فإن الهم ما يبرح يهجس في خاطره منذ ان علم بقرب انتقالهم إلى موسكو؛ ولكن الغلام لا يجد في وجوههم أية أماره لذلك الذي يعتلج في نفسه من الحزن كلما تطرق الحديث إلى موسكو أو كلما وقع بصره على ما يلمح إلى الرحيل أو يشير إليه، ومن ذلك تلك السراويل الجديدة ذات الأشرطة الزاهية يقلبها أخوته بين أيديهم فرحين؛ وإنه ليشاركهم فرحهم بها وما ينقم منها إلا إنها سوف لبس في موسكو؛ فعما قريب يرحل مع أخوته ليتعلموا في تلك المدينة الكبيرة؛ وإنه ليعجب كيف يطيقوا الرحيل عن يا سنايا بوليانا فيتحدثون عن ذلك الرحيل ضاحكين مستبشرين ويقع الحديث من نفسه موقعاً أليماً.

وهل كان يطيق البعد عن ذلك القصر وعن تلك المدينة وعن هاتيك الغابات التي أحبها وألف المرح في أرجائها؟ وهل كان يطيق البعد عن العمة تاتيانا وهو لا يجد له أُماً غيرها؟ ومن ذا يكون مربيه في موسكو مكان تيودور رويسل؟ وهل هو واجد في موسكو ما يجده هنا من مسرات الحياة ولهوها؟ أيطيق ألا يرى الخدم الذين احبهم وأحبوه والخيل وكلاب الصيد التي أولع بها وأحب ان يراها كل يوم؟ ولكن ما من الرحيل بد فليس له إلا أن يصبر عليه. . . بهذا كان يتحدث الغلام إلى نفسه أو بهذا كانت تحدثه نفسه.

وحان يوم الرحيل؛ ومسح الغلام عينيه وقد انطلقت به وباخوته العربة إلى موسكو فما يجدر به أن يبكي وهو ابن ثمان، وهؤلاء اخوته حوله لا يبكون بل ليكترثون لشيء كأنما هم ذاهبون كما كانوا يذهبون بالأمس إلى الصيد في الغابة!

ونظر الغلام في موسكو إلى مربيه الفرنسي الجديد سنت توماس فإذا هو تلقاء رج يحس في وجهه ما كان يحس في وجه تيودور رويسل من عطف ومحبه وإخلاص، وما لبث أن وجده يعنف عليه كأشد ما يكون العنف، فيحبسه في حجرته ويتهدده بالعصا، الأمر الذي أغضبه أشد الغضب وكره إليه الغلظة والعنف ونفره من العقوبة البدنية ومن صور القسوة جميعاً طيلة حياته؛ كتب بعد ذلك في مذكراته يشير إلى هذا الحادث فقال (حبسني سنت توماس أولا في حجره ثم جاء يتهددني بالضرب بعصاه، ولست اذكر الذنب ولكنه كان أمراً لا يستحق العقاب البتة؛ وعندئذ ذقت شعوراً مخيفاً هو مزيج من الغضب والاحتقار والاشمئزاز، ولم يكن ذلك نحو سنت توماس فحسب، ولكن نحو القسوة التي يتهددني بها كذلك).

وأكبر الظن أن مربيه ما فعل هذا إلا لإهماله وانصرافه عن الدرس، وعناده إذا دعاه إلى العمل؛ ولم يتجن عليه سنت توماس فهذا أحد لداته قد تحدث عنه وعن أخوته فقال: (يرغب نيقولا في التعلم ويقدر عليه، ويقدر سيرجي على العلم ولكنه لايميل إليه، ويميل ديمتري ولكنه لا يقدر، أما ليو فإنه لا يقدر) ولكن مربيه على الرغم من ذلك موقن من ذكائه ومن موهبة فيه عبر عنها بقوله (إن لهذا الغلام رأساً. . . إنه موليير صغير).

وماذا كان في رأسه يومئذ حتى يسميه مربيه هذا الاسم؟ لعل مرد ذلك إلى نفاذ عينيه إلى ما تقعان عليه، ونفاذ بصيرته إلى أفعال أخوته ولداته من التلاميذ وتفطنه إلى خصائص كل منهم، فالغلام على حداثته يقظ مرهف الحس، دقيق الملاحظة للناس وللأشياء جميعاً.

وهو وإن لم يتجاوز الثامنة بعد، تطوف بقلبه الغض عاطفة الحب، ولم يكن هذا الحب الجديد كذلك الذي يحسة نحو العمة تاتيانا أو نحو غيرها ممن أولوه مودتهم وعطفهم من أفراد الأسرة ومن الخدم، وإنما كان حباً كذلك الحب الذي قلما خلا منه قلب فتى أو فتاه في ربيع العمر؛ ويميل بعض علماء النفس إلى عد هذه العاطفة في مثل هذه السن الباكرة دليلاً على الموهبة الفنية، ولذلك يرجى لصاحبها أن يكون في غده من الأفذاذ. . .

أحب ليو تلك البنت الصغيرة التي عاشت بين أفراد الأسرة في كنف عميدها الكونت وكانت تسمى اسْلنيف، وأحب في موسكو غلاماً صغيراً من أبناء عمومته منالبوشكين، وقد بلغ من حبه إياه أنه كان ينعقد لسانه إذا وجد نفسه تلقاءه من فرط إحساسه بعاطفته؛ وكذلك أحب بنتاً لا تكبره في العمر جميلة زرقاء العينين تدعى سونشكا، وكان يشعر بين يديها بفيض من السرور والمودة والرفق، فإذا غابت فإن ذكر أسمها كان يملأ مقلتيه بدموع الفرح من فرط نشوته، وكانت عاطفته نحوها عميقة بالغة العمق صادقه خالصة الصدق بريئة من كل شائبة أو غرض، حتى لقد أتخذها في مستقبل أيامه مقياساً يرجع إليه إذا شاء أن يقارن بين حالات شعوره. . .

أما اسْلنيف فكان يغار عليها كأشد ما تكون الغيره، لايطيق أن تحدث شخصاً غيره كبيراً كان أو صغيراً أو تتجه حتى بنظره إليه، وكان يعسف عليها ويعصف في وجهها إذا وجد منها ما يظنه ميلاً إلى غيره حتى إنه دفعها مره من شرفه حيث كانا يلعبان وقد بلغت بها الجرأة أن كلمت غلاماً أمامه فسقطت ولحق بها العرج من جراء ذلك بضع سنين، وبعد قرابة ربع قرن من هذا الحادث شاءت الأقدار أن يتزوج ليو من ابنة هذه التي غدت سيده أنجبت بنات وبنين، وأصبحت أم زوجته فقالت ضاحكه تذكره بذلك الحادث (أكبر الظن أنك دفعتني من الشرفة إبان طفولتي لكي تتزوج بابنتي فيما بعد).

وذاق الغلام في موسكو لوعة الحزن كما ذاق فرحة الحب، فقد مات أبوه وكان في طريقه إلى مدينة تولا في صيف سنة 1837 وسقط في الطريق جسماً لا حراك به، فمن قائل انه مات بنوبة من نوبات القلب، وآخرون يهمسون أن السم أودى به على يد فلاح ممن ملكت يداه؛ ويتسلط على رأس الغلام خيال عجيب فهو يحس أن أباه حي لم يمت ولا يستطيع أن يتصور أنه مات حقاً على الرغم من أن أخاه نيقولا قد شهد دفنه في ياسنايا بوليانا؛ وإنه لينقل بصره بين وجوه المارة في شوارع موسكو يتوقع ان تقع عيناه على أبيه، وظل هذا الخيال بضعة اشهر متسلطاً عليه.

ويتفكر الغلام مره ثانيه في الموت والحياه، فقد تفكر في ذلك حين أدرك أن عمته تاتيانا ليست أمه وعلم من نيقولا بموت أمه؛ ولقد أحس يومئذ أن الموت شئ كريه مخيف، ولكنه لم يدرك كنهه، وهو كذلك يحس اليوم مثلما أحس بالأمس، وإن كان يصحب تفكيره هذه المرة شئ من التفكير والدهشة، وسيظل هذا شأنه كلما نظر في الموت حتى يجاوز الثمانين من عمره فيطويه ذلك الشيء الكريه المخيف وهو لم يعد من طول النظر في أمره بشيء.

ولم تكد تمضي تسعة أشهر على وفاة أبيه حتى ماتت جدته محزونة على ابنها؛ وجاء المربى يحمل النبأ إلى الصبية وهم يلعبون، فأنقلب فرحهم وزياطهم إلى وجوماً وسكوناً، وأرهف ليو أذنيه ودار بعينيه يسمع ويرى، فكم كره مرآى الحانوطية على مقربه من البيت في ملابسهم السوداء، وكم بث في نفسه الخوف رؤية التابوت بين أيديهم ووجوههم كئيبة عابسة من أثر ما يتكلفونه من الحزن؛ على أنه يطيب نفساً بما يشاهد من مظاهر العطف عليه وعلى أخوته وبما يسمع من عبارات الرثاء لهم والإشفاق عليهم وإن كان ذلك يزيد إحساسه باليتم؛ ولقد تندت عيناه ذات مره متأثرة بكلمة عطف سمعها من سيده إذ قالت لجارتها (إنهم اليوم أيتام كل اليتم فقد مات أبوهم منذ قليل، وهاهي ذي جدتهم كذلك يأخذها الموت).

وينظر الصبي إلى حلته السوداء المخططة الحوافي بخيوط بيضاء وهو يرتديها حداداً على فقد جدته وقد صنعت لهذا الغرض خاصة ويعجبه منظره في هذه الحلة فينسى بعض ما يمسه من حزن.

وللغلام في هذه السن الباكرة اشتغال بما يعد الاشتغال به من أعجب الأمور ممن كانوا في مثل سنه، وذلك هو نظره في الدين ومسائله، ولندع تولستوي نفسه يتحدث عن ذلك قال في مستهل كتابه (اعترافاتي) إني اذكر كيف زارنا ذات يوم من أيام الآحاد فيفي الحادية عشره من عمري غلام يدعى فالرمير موليتين كان في إحدى المدارس الابتدائية وراح يقص علينا ما سماه أحدث الطرائف من الأنباء ألا وهو كشف اتفق وقوعه في مدرسته، ومؤدى ذلك الكشف إنه ليس لهذا العالم إله، وأن كل ما قلناه عنه إن هو إلا محض اختراع. وإني لأذكر مبلغ ما داخل اخوتي

من سرور عند سماع ذلك، لقد دعوني إلى مجلسهم واذكر أننا جميعا شعرنا شعور النشوة لهذه الانباء، وتلقيناها كأمر سار ممتع ممكن الحدوث كل الإمكان).

وعرف الغلام منذ حداثته بقوته البدنية وحيوتيه المتوثبه، تبين ذلك من حادثة تقصها أخته ومؤداها أن أخاها انزل من إحدى العربات ذات مرة وقد توقفت عن السير لأمر ما فظل ماشيا حتى أوشكت العربة أن تدركه فاخذ يعدو عدوا سريعا كيلا تدركه واخوته في العربة يعجبون من سرعة عدوه وطول نفسه؛ ولم ينقطع نفسه إلا بعد ميلين فصعد إلى العربة وهو يلهث ولكنه يحاول أن يخفي تعبه؛ ولسوف تلازمه هذه القوة البدنية وهذه الحيوية على الرغم مما ينتابه أحيانا من أسقام وآلام حتى يطويه الموت بعد أن يجاوز الثمانين.

وكان ليو منذ صغره مولعا بركوب الخيل، وقد تعلم الركوب في سن مبكرة على الرغم من معارضة أمه إياه في لك؛ وقد رأى أخويه اللذين يكبرانه يمتطيان جواديهما ذات يوم فما زال يلح حتى سمح له بأن يمتطي جوادا كما فعلا فإذا به بعد خطوات فوق عرفه يطوق عنقه بساقيه ويسمك بجبهته، فلما أعيد إلى حيث كان لم يبد عليه شئ من الخوف وصمم على أن يطلق العنان لجواده وانطلق به يعدو وهو ثابت فوق صهوته ومن ذلك الوقتاصبح يجيد الركوب.

وفكر الغلام ذات يوم في أمر: لم لا يطير كما تفعل الطير؟ لم لا يضع ذلك موضع التجربة؟ إنه يرى أنه مستطيع بحركة ما أن يثب طائرا فيسبح في الجو كما تسبح الطير؛ وإن في نفسه منذ صغره لميلا إلى أن يضع ما يهجس في خاطره موضع الاختبار، ولسوف يكبر معه هذا الميل فيظهر في مواطن كثيرة؛ ويشد الغلام بيديه حول ركبتيه ثم يثب من نافذة يريد أن يطير ولكنه يصحو بعد ثمان عشرة ساعة قضاها في سبات عميق فيفتح عينيه دهشا متحيرا يحاول أن يذكر ماذا كان من أمر طيرانه فيذكره ما يحس من ألم من مفاصله وأضلاعه.

ولم يقتصر شذوذه على هذا الحادث، واكثر ما كان من شذوذه ما كان يتصل باهتمامه بهيئته، ومن ذلك أنه حلق شعره ذات مرة بالموسى لعل في ذلك إصلاحاً لشكله ثم عاد فأطلق شعره حتى استطال، وعمد إلى المشط فجعل به ذلك الشعر في موضع خاص لعل في ذلك أيضاً ما يكسبه وجاهة وليظهره في هيئة المهموم المفكر على نحو ما يظهر بيرون. وعمد مرة أخرى إلى حاجبيه 17. 28 فانتزع شعرهما بملقط كي يشتد بعد ذلك نماؤه فيكسب ملامحه مظهرا عاطفيا شعريا، ولكنه لم يرجع من وراء هذا كله بطائل الأمر الذي نغص عنده العيش.

ولقد جاء في كتابه (عهد الطفولة) قوله (كنت اعلم حق العلم أني لم أك حسن المنظر، ولذلك كانت كل إشارة إلى هيئتي تسيء إلى إساءة مؤلمة، ولقد مرت بي لحظات تملكني فيها اليأس وخيل إلى أنه لا يمكن أن تتهيأ السعادة على هذه الأرض لمن كان له انف كانفي العريض وشفتان كشفتي الغليظتين وعينين كعيني الصغيرتين الشهباوين، وسألت الله أن يحدث معجزة فيجعلني وجيها فأني لأجود بكل ما هو لدي وبكل ما عسى أن اظفر به في المستقبل في سبيل وجه حسن).

وفي صيف 1839 شاهد الغلام في موسكو مشهدا استقر في نفسه فلم يبرحها حتى ظهر أثره في أحد أوصافه فيما بعد في قصته الكبرى (الحرب والسلم) إذ وصف موكبا من مواكب الاسكندر الأول على لسان روستوف أحد شخصيات تلك القصة، أما المشهد الذي رآه الغلام وجعله مثاله فيما كتب من وصف فهو موكب نيقولا الأول يوم زار موسكو ليضع الحجر الأول في بناء كنيسة أقيمت لتخليد ذكرى تحرير روسيا من غزو نابليون.

ولم يطل بالغلام المقام في موسكو فقد أعيد مع أخيه الصغير إلى يا سنايا بوليانا ليكونا في رعاية العمة تاتينا، وبقي الأخوان الكبيران في موسكو ترعاهما الكونتس اوستن سيكن عمتهما على الحقيقة؛ وكانت الكونتس اوستن أو عمتهما ألين امرأة تقية صالحة لله في السر والعلن وتنفق مالها في سبيل الله فلا ترد فقيرا ولا تتكره لذي حاجة، وكانت بالخدم رحيمة عطوفا تكره أن توقظهن إذا آوين إلي مضاجعهن فتعمل عملهن فينا تريد لنفسها من حاجة؛ وكان أثرها عميقا في نفس الغلام فكان يشعر نحوها من الإجلال والإكبار بقدر ما كان يشعر نحو عمته تاتيانا من المحبة، ولئن علمته العمة تاتيانا كيف تكون بهجة النفس في الحب فقد أوحت إليه ألين كيف تسمو النفس وكيف تطيب بالدين

ولكن هذه العمة قضت نحبها في خريف عام 1841 فصارت الوصاية على الاخوة جميعا لعمة أخرى هي السيدة يوشكوف زوجة أحد ذوي الثراء من الملاك في قازان، وثم فقد نقل الصبية جميعا إلى قازان فأقاموا هناك حتى ربيع 1847؛ على أنهم كانوا يقضون إجازاتهم الصيفية في ضيعتهم المحبوبة بناحية ياسنايا بوليانا.

(يتبع)

الخفيف