مجلة الرسالة/العدد 710/على ذكر المولد النبوي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 710/على ذكر المولد النبوي:

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1947



محمد والأمن العام

لصاحب العزة علي حلمي بك

مدير جرجا

تمهيد:

بعث رسول الله في عصر مروع الأمن مضطرب النظام تسوده الفوضى من جميع نواحيه: عصيبات جاهلية، ووأد للبنات، وارتكاب لأشنع المنكرات، سلب ونهب، وقتل وعدوان؛ تغير القبلية على الأخرى فتبدد شملها وتسلبها حرياتها ومالها وتعتدي على أعراضها فكان الحق للقوة الغاشمة والسيف المسلول. وبديهي ان يتبع هذه الفوضى انحلال في الأخلاق وإزهاق للنفوس وسلب للأموال وضياع للحريات. كل ذلك كان في جزيرة العرب. وما كانت الممالك المجاورة ذات المدنية والحضارة كالفرس والروم خيرا من بلاد العرب من هذه الناحية، بل كانت الحروب فيها قائمة يضطرم أوراها ويشتد لهيبها، وكان العالم يتردى في بؤر الفساد ويرقص على بركان ثائر ينذر بالحروب والويلات - لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم على إنقاص هاتين الإمبراطوريتينأمةأخرى فتية متوثبة متطلعة للنهوض، ولا ينقصها قوة الجنان ولا تأبه بخوض غمار الحروب للذود عن الإنسانية وأمنها. وقد ألفت التقشف واعتادت شظف العيش، وكانت هذه الشروط موفورة في أصحاب النبي محمد وتابعيه من أولئك العرب الذين سما الإسلام بنفوسهم، حتى جعل منهم أمة أخرى لا شاغل لها إلا إعلاء كلمة الله وإصلاح أمور المجتمع الإنساني.

ولقد أعد الله هذه الأمة للنهوض بالعالم وتوحيد كلمته فأرسل من بينها رسولا عرف بالاستقامة والأمانة وحسن السيرة وقوة الشخصية وشرف المحتد وكرم الأصل، وكان لسلوكه الشخصي وسياسته الحكيمة وتأييده بالمعجزات الباهرة ما جعل من أخيارهم القلوب الواعية والآذن الصاغية (يؤتى الحكمة من يشاء ومن أوتي خيرا كثيرا) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فأوحى الله إليه بالقرآن الكريم فكان هو الدست العام لكل ما فيه سعادة المجتمع وخاصة للأمن والنظام والسلام لما اشتمل عليه من قواعد العدل والرحمة والحرية حتى صار دستورا يعمل به في كل جديد من مختلف العصور. لم يأت (مؤتمر سان فرنسيسكو) وغيره من الهيئات التي تحاول وضع مبادئ للحرية والسلام والأمن الدولي بشيء أفضل من مضمون هذا الدستور الإلهي وتطبيق مبادئه السامية عملا بالإشارة التي جاءت بالآية الكريمة (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) فرسالة محمد من أهم مقاصدها هداية الخلق وحقن الدماء ونشر السكينة والسلام. فبعد أن تمت له الهجرة وبلغ الرسالة ربه كانت الحكومة في عهده قائمة على العدل والحرية والإخاء المستمد من هدى القران الكريم ولم يستعن فيها النبي بعسس ولا شرط للمحافظة على الأموال والأنفس والثمرات. وكان مما يساعد على ذلك:

1 - الهيبة التي كان يتمتع بها ؛ فقد ملأت قلوب المؤمنين والكافرين والمنافقين على السواء، وقلما كانت نفس المجرم أو قاطع طريق تحدثه بارتكاب ما حرم الله لما غشيهم من خشية الله وهيبة رسوله وقد روى أن أعرابيا دخل عليه فارتاع من هيبته فقال له: (خفف عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).

2 - إن الناس في الصدر الأول من الإسلام ما كادوا يتلقون الدعوة ويدخلون أفواجا في دين الله حتى فاضت قلوبهم بتقوى الله ورهبته وقلت الجرائم التي كانت ترتكب في الجاهلية. وأصبح كل إنسان على نفسه حسيبا ورقيبا، فمن ارتكب جرما في السر أو العلانية سارع إلى الاعتراف للمصطفى بما ارتكبه فكان الجاني شرطي نفسه. روى ان رجلا أتى النبي فقال هلكت يا رسول الله! فقال ما أهلكك؟ قال أصبت امرأتي في نهار رمضان قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ ومن أجل ذلك كان واجب الحاكم سهلا هينا، غير إن طبيعة البشر الطغيان، والظلم من شيم النفوس، والنفس أمارة بالسوء، فوجب الردع والزجر استئصالا للفساد وتثبيتا للإصلاح. ولذلك قال جل شأنه: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).

وقد رمت الشريعة الإسلامية فيما جاءت به إلى المحافظة على الدين والنفس والعرض والعقل والمال وتلك أقصى غايات السعادة في الدين والدنيا، فمثلا للمحافظة على الدين حرم الكفر والإلحاد وشرعت الصلاة والعبادات، وللمحافظة على النفس حرم القتل والانتحار. وللمحافظة على العرض حرم القتل والزنا. وللمحافظة على العقل حرمت الخمر ونحوها. ولمحافظة على المال فرضت الزكاة وحرم الميسر والسرقة.

وسنتكلم فيما بعد عن التشريع الجنائي الذي كفل تحقيق هذه الأغراض.

القواعد الأولى التي وضعتها الشريعة الإسلامية لصيانة الأمن

العام

تتلخص في أن تصان النفس البشرية من العوامل التي تحملها على الإجرام وذلك:

أولا - بتهذيب النفس بالوعظ والإرشاد وإقرار العقائد الصحيحة التي تنير القلب وتجعله في شغل دائم بمراقبة الخالق والخوف من عقابه واجتناب ما نهى عنه.

ثانيا - بفرض الزكاة والترغيب في الصدقات صيانة للمجتمع من عوامل الإجرام فقد قال الله تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وقال تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث) وقال تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقال عليه الصلاة والسلام (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)

وبذلك تزول حاجة الفقير فلا يفكر في ارتكاب الجرائم. فلو علم كل فقير إن له حقا في مال الغني ما وجد عليه، ولساعده في استثمار أمواله لعلمه إن ذلك يعود عليه بالمنفعة فيعمل مجدا مع الغني في زيادة الإنتاج في جو من الأمن والسلام. إذ لا يخفي أن الجرائم إنما ترتكب غالبا بدافع الفقر والعوز وما (مشروع بفردج) وغيره من المبادئ الحديثة الخاصة بتأمين حياة الفقير ورفع مستوى معيشته إلا للأغراض التي توختها الشرائع السماوية.

على إنه ينبغي للغني أن يذكر دائما إنه لا يعطي حين يعطى تبرعا بالمعنى الصحيح بل إن ذلك في الحقيقة حق عليه كما تقدم ذكره في الآية الكريمة، يأخذه الفقير وهو محفوظ الكرامة الإنسانية التي حفظها له الشارع. فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام (اليد العليا خير من اليد السفلى).

ولا شك أن في ترغيب الشريعة الإسلامية في العمل والتكسب والاحتراف إقامة لعماد الكرامة فقد أعطى رسول الله سائلا درهما وأمره أن يشتري حبلا وفأسا ويحتطب حتى لا يتعرض لذل السؤال.

ثالثا - القصاص الحازم ممن يرتكبون الجرائم ليكون في ذلك ما يردعهم عن ارتكابها، وقد بينت الشريعة الإسلامية تفصيلات الحدود والقصاص وسنوضحها فيما بعد.

رابعا - العناية بالقضاء وجعل منصبه أكبر مناصب الدولة بعد الإمارة فلا يعهد به إلا لمن تفقه في الدين وعرف ما يصلح المجتمع وما يدفع عنه الشر وذلك بتطبيق أحكام الكتاب والسنة واتباع رأي المجتهدين من السلف الصالح، وقد امتازت الشريعة الإسلامية في قضائها بمراعاة المصلحة العامة.

وهناك قواعد إيجابية وأخرى سلبية، وسنحاول أيجاز بيان الهدى الإسلامي من الناحية السلبية في منع الجريمة قبل وقوعها وما لذلك من أثر في الأمن ضاربين بعض الأمثلة من مشاهدتنا العملية.

القتل:

هو أفظع الجرائم. فقد حرمته الشرائع السماوية. قال تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ولما كان إزهاق الروح من طبيعة الحيوان الوحش فارتكاب الآدمي له يدل على إن فطرته خلت من أخص المزايا البشرية، وإن في ارتكاب هذه الجرائم ما يهدم كيان المجتمع ويفضي إلى الإخلال بالأمن. فكثيرا ما تثار للقتيل أسرته وهذا شائع الحصول وكثير الوقوع خصوصا في بلاد الوجه القبلي فتقع بسبب ذلك معارك دموية بين الأسرتين أو الأسر وتسيل الدماء وتزهق الأرواح.

وكثيرا من حوادث القتل يكون نتيجة الغضب وحب الانتقام كلما نلمس ذلك بوضوح في الصعيد وسائر بلاد الريف، والغضب شر أمراض النفس. وقد عالجه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وكان هو نفسه المثل الأعلى في الحلم وكظم الغيظ واحتمال المكروه حتى أثنى عليه فقال (وإنك لعلى خلق عظيم).

الانتقام والأخذ بالثائر:

ولقد كانت الفوضى في بلاد العرب ضاربة أطنابها. ومن أمثال ذلك الانتقام والأخذ بالثار إذ كان من مظهر ذلك أن النساء لا يرضيهن في الثأر إلا أن يصبغن ملابسهن بدم القتيل، وبعضهن يأكل من كبده وقلبه كما حصل لسيدنا حمزة عم النبي في إحدى الغزوات. وكن يعيرن من يمسك عن الانتقام لنفسه أو الأخذ بالثأر لذويه، فوضعت الشريعة الإسلامية الغراء لذلك حدا وشرعت القصاص في قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الأبصار) فإن إعدام القاتل فيه حقن للدماء لما فيه من الزجر والاعتبار فكيف كان جان عن ارتكاب هذه الجناية وبذلك يسود الأمن ويعمم السلام.

ومازالت آثار هذه العادة الممقوتة باقية في الريف وخاصة في الصعيد وهي من التراث المكروه ويجب العمل على استئصالها بكل الوسائل الميسورة، ومن أهمها العناية بالمصالحات والقضاء على الأمية ونشر نور العلم والعرفان بين هذه الأوساط وأن تكون إجراءت المحاكم سريعة وأحكامها رادعة زاجرة.

شهادة الزور وأثرها وعلاجها:

حرمت الأديان جميعها شهادة الزور - وعدتها الشريعة الإسلامية من أكبر الكبائر، ومن دستور محمد القرآني في ذلك (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) وقوله سبحانه وتعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) وفي آية أخرى (ولا تكتموا الشهادة وأنتم تعلمون) ومما يثقل كاهل رجال الأمن في مهمة كشف الجرائم التواء الشهادة أو الإعراض عنها. فما أحكم محمدا حيث يقول ما معناه (لا ينبغي لأحد شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به فإن ذلك لا ينقص أجله ولا يمنع رزقه)

ومما يؤسف له أشد الأسف إن الشاهد وخاصة في الريف قلما يجد الشجاعة ما يدفعه إلى أداء الشهادة معاونة منه إلى للعدالة في الاهتداء إلى الجاني لينال الجزاء العادل. ويكون من نتائج ذلك استفحال الإجرام - ويرجع الإحجام عن أداء الشهادة في الغالب إلى الرهبة من الجناة والخشية من سطوتهم أو نفوذ ذويهم نظرا لطول إجراءات المحاكمة الجنائية

وعلاج ذلك تبسيط هذه الإجراءات واختصارها خصوصا وقد دلت التجارب والمشاهدة على أن طول الزمن كثيرا ما يدفع ذوي الشأن فيها إلى الانتقام بأنفسهم فضلا عن إنه يقلل من أثر الأحكام في نفوس الجناة ويضعف وقعها عند أمثالهم من المجرمين، كما أن ذلك إن لم ينس الشهود والوقائع التي شاهدوها من عهد طويل فإنه يتيح الفرص للجناة ولإضعاف أدلة الاتهام والتلفيق لإفلاتهم من يد العدالة.

وفي بلد كمصر تعددت فيه الهيئات القائمة على التحقيق وتوزعت المسؤوليات يجب وضع القواعد الكفيلة بتبسيط العمل بحيث تقوم كل هيئة بما يفرض عليها؛ حتى لا تتعدد الإجراءات تعددا قد يؤدي إلى الاضطراب في التحقيق والأضعاف من قيمته.

المصالحات والوعظ والإرشاد:

ومما جاءت به الشريعة الغراء للمحافظة على الأمن العام: الأمر بإصلاح ذات البين فقد قال الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) وقال الله تعالى (إنما المؤمنين اخوة فأصلحوا بين أخويكم) وقال الرسول عليه السلام: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) من أجل ذلك يكون لمجهود الواعظ في هذا الميدان مجال فسيح عظيم الأهمية في معاونة هيئات الحكومة للوصول إلى الهدف المنشود وهو إحلال الصفاء محل النزاع بما يسدونه إلى الفريقين من الموعظة الحسنة والإرشاد الحكيم وقد قامت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الأساس فالله يقول (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) ويقول (وعظهم وقل في أنفسهم قولا بليغا) ويقول (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وبما أن هذه الدعوة هي رسالة الوعظ فحبذا لو ذلك سبل الانتقال لحضرات الوعاظ ليتمكنوا من كثرة التردد على البلاد التي تقع في دائرة عملهم وليتيسر لهم أداء رسالتهم على الوجه الأكمل. وحبذا لو عنى كذلك خطباء المساجد بمعالجة العادات السيئة والمنكرات الشائعة والجرائم المنتشرة في دائرة عملهم بما يلائم روح العصر وتطورات الزمن بعبارة سهلة مفهومة لعامة الشعب بالحث على التمسك بالدين وغرس صفات الرفق بالضعيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم والتحذير من الكذب وشهادة الزور والترغيب في أداء الشهادة والصدق وما إلى ذلك من الفضائل. والمأمول أن يتم على أيديهم جميعا تحقيق رسالتهم على أكمل وجه فيساعدون على استتباب الأمن وإسعاد البشر.

(البقية في العدد القادم)

علي حلمي

مدير جرجا