مجلة الرسالة/العدد 710/الكتب:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 710/الكتب:

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1947



ذكريات عشرين عاما في مصحة حلوان:

تأليف الدكتور عبد الرؤوف بك حسن مدير المصحة

عرض وتعليق في خطاب مودة وتقدير

للدكتور لويس دوس

أستاذي القديم وصديقي الكريم:

أهديت إليّ مع الكتاب مودتك وتقديرك، فإذا مودتك يثب إليها من مهجتي صنو يأتلف من الأرواح المجندة، وإذا تقديرك فيما يتم عليه من تواضع العلماء الفضلاء يبتعث في نفسي مالك فيها من كامن الشعور المضاعف بالنظير. وإنيلأعكف على كتابك قارئا ملتهما فآتى عليه في ساعة أو نحوها، وإذا شاعريتك المتأججة الجياشة وراء علمك وطبك تهز مشاعري ترجيعا لمشاعرك، وإذا ذكرياتك تهتاج في نفسي مثيلات تتداعى لها فينشط قلمي ليجلوها عليك.

بدأت كتابك من حيث بدأت صلتك بمصحتك، وقبيل تلك البداية كان أول عهدي بك، إذ كنت معيدا بكلية الطب ردحا من الزمن، وكنت مستهلا دراستي الطبية في غمار جم من الطلاب غفير. وأشهد لقد كان يروقني أسلوب تدريسك والرجل، بله المعلم، هو الأسلوب - وكنت استشف منه روح الشاعر الأديب وراء ذهن المعلم الطبيب، وتلك روح ما فتئت أراها مناط التمايز في التدريس الطبي، وقليل من يؤتاها، ولقد أوتيتا حديثا وكتابة بما تغبط عليه، حتى لأذكر إنني ضننت في محفوظاتي إلى أمد قريب بعجالة لك بالإنكليزية عن البلهارسيا تشهد لك في هذه اللغة - فضلا عن العربية - بجودة البيان. ولقد شاقني من بعد ما تأتى لي من كتاباتك، فلا غرو أن يشوقني كتابك عن مصحة الحلوان، وإن في موضوعك هذا لخافية لست أدري ما كننها، ولكنني عليم إنها تشوق كل طبيب أديب. ألم تصف كيف شاقتك، بل ألهبت خيالك فكرة إنشاء المصحة، ولما تزال طبيبا ناشئا مغتربا عن الاوطان، فساقتك إليها مستدرجا متدرجا حتى أضحيت لها نعم المدبر المدير، وإذا هي تملك عليك أقطار مشاعرك فتتفانى فيها كما يتفانى الربان في سفينة وكأنما هي دنياه، وإذ أنت تستهل كتابك بقصيدة بلغ من براعة استهلالها أن وقفت بالدار، وبكيتها مؤذنة باندثار، وشببت فيها بعروس أفكار، كل ذلك في اتساق وفي آن، وكأروع ما ينوح على منازل القلوب صب ولهان!

أي سحر هذا الذي استحوذ عليك من مصحة حلوان؟ وأية فتنة تلك التي تتجلى في استهواء المصحة للأطباء الأدباء: على ما هو معروف من هوايتك، وما وصفت من هواية الدكتور (برناند) مدير المصحة الأول. وإن شئت مزيدا فإني لأذكر - وإن بعد العهد - غدوات لي إلى المصحة وروحات، كنت أعود بها، وأنا بعد طالب طب، زميلا فاضلا لي كان ثمة ما يستشفي، وكان هو أيضاً يهوى الأدب وما يزال، وقد أبرأته المصحة بمنة الله، فلم يكد يتم دراسته حتى التحق بها ضمن من تتابعوا عليها ممن سميت من أطباء. ولعل سمعت عن أطباء غيره بمثل قصته، وعجيب أن تترادف الأمثلة بهذه الظاهرة في جانب الاطباء، وأن يقابلها في جانب المرضى ما يؤكدها بما هو متواتر مشهور: من تفزز حسهم وحدة خيالهم، وسطوة مشاعرهم وغرائزهم، حتى ليكثر بينهم الموهوبون بالفنون، على ما ألمعت إليه في كتابك، وما حفلت به روائع القصص وأفتن فيه كتابها المبدعون.

على أنني رأيتك، يا صديقي، أوشكت تتنصل في قصيدتك من هوايتك الأدب، فتقول إنك آثرت على يراعتك مبضعك ومسماعك، كأنما أصبح الأدب للأطباء في هذا البلد تهمة تدفع، وزلة يعتذر منها، وانه في سائر بلاد الله لمحمدة تذاع ومفخرة يشاد بها - تنبئ عن ذلك مطابعهم - فما تكاد تخرج إلى عالم الأدب كتابا لطبيب حتى تتلقفه الأيدي فلا يساعفها منه تلاحق الطبعات. ألا فهون عليك، يا صديقي، تحرجك من الأدب، ولا تولع منه بفرط إشفاق: وخذ بنا في تلك الظاهرة التي لفتك - وما أخالك إلا كنت ملتفتا إليها - فحض فيها بالاستقصاء والاستقراء عالما طبيبا، وبالمنظوم والمنثور شاعرا أدبيا، فما حشدت لتجلية هذه الظاهرة مواهب كمواهبك، ولا ظروف كظروفك، وإن تجليتها لفتح طبي وأدبي لا يتعلق به إلا من كان في همتك، وفي الحق إنك لها!

ولقد اصطرعت في قصة مصحتك من شخصيتك شعب ثلاث: نفحتك الشاعرية، وذهنيتك العلمية، وصفة عملك الرسمية، وفي النطاق الذي قسرك عليه هدفك، لقد استطعت ان تبلغ بهذه الشعب في اصطراعها حد الابداع، وكانما قدر للداء الذي أدرت حوله موضوعك ان يطل عليه أبدا - من حيث يدري أو لا يدري - شبح المأساة. ولم تباطئ المأساة مصحتك، إذأوعدتها العوادي أن تجعلها حصيدا كان لم تغن بالأمس، وكان لم تبرح طوال عشرين عاما جمة المآثر، جلية الآثار! فوا أسفاه على بلد ترتجل سياسته فلا يقر لها قرار، ولا ترعى فيه حرمة دار حياها الله من دار! هذا ومن ورائنا أوائل شيدوا، وأمامنا أقوام بنو، فإذا دورهم العامة معالم مكتملة للمقومات، بل شخصيات معنويات، تذكر بذكريات، وتمجد بامجاد، وتعيد لها الأعياد، ويطاول بها الدهر خوالد باقيات ترى لو صح أن الأرواح تحوم هائمات، والأصوات تختزن مكنونات، حيثما تجرى تصاريف الأقدار، ويطاح بالآجال والآمال، ولو أتيح بما أجن في ضمير الغيب من أفانين المخترعات أن تتبدى تلك الأرواح مرئية، وتنطق هذه الأصوات العيية فأي روع وهول كان عساه يتفجر من أرجاء المصحة حمما ودويا، إزاء أمانة أشفقت من حملها الرواسي ولم ترع أنسيا! لكأني أخال ما أتخيل وأتسمع بين تلك الأصوات المدوية صديق دراستي، ذلك الطبيب النافع الذي يقيالآن على مرضاه مما أفاء الله عليه من العافية بالصحة، وهو يجار مستصرخا: لا تنخبوا الدور على منخوبي الصدور، وقد وسع الله عليكم رحابالأرضو جنبات القصور.

وبعد، أي صديق عبد الرؤوف! لئن ضاق صدرك، فقد انطلق لسانك، وبلاغا أبلغت، وربك أشهدت، ولله الحكم، وإليه ترجع الأمور!

دكتور لويس دوس