مجلة الرسالة/العدد 71/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 71/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 11 - 1934


6 - بحث في أصل الإنسان

بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية

من تلك الفكوك المتحجرة التي وجدناها عرفنا أنه قد عاش في الغابات الاستوائية في أوائل عصر البليوسين نوع من القردة الكبيرة، وأنه قد كان لنوع من أنواع الغوريلا أو الشمبانزي أو أورانج يورنيو وسومطره كبير الحجم يمت إلى الإنسان بالشبه من وجوه مختلفة. وأننا نعرف أن أصناف القردة التي تسمى والتي يمثلها قرد الأورانج والسيامي كانت موجودة، وأنه كانت هناك كذلك أنواع أخرى تختلف كثيراً عما نراه في نظيراتها اليوم، إلا أنها كانت من أصل واحد. ولذلك فإن من الممكن القول أن ذلك النوع الذي تفرع وتطور من الإنسان كان موجوداً في أوائل عصر البليوسين.

ونحن إذ تقدمنا في بحثنا إلى عصر الميوسين فإنه لا يمكننا أن نجد فيه أي أثر إنساني. وليس في استطاعة من يعرف أن بحثنا لم يكن إلا قصير المدى ولمدة وجيزة وأن هناك معلومات قيمة جيولوجية لم يكشف عنها بعد، إلا أن يقول إن الإنسان لم يوجد في عصر الميوسين بشكله الذي نعرفه به. وليس هناك أي شك في أن أواخر ووسط عصر الميوسين كانت فترة تطور كبيرة مدهشة في عالم القردة، دليلنا على ذلك ما قد كشف بين ثنايا طبقات ذلك العصر من متحجرات وبقايا مما لا يقل عن عشرة أنواع من أنواع القردة الكبيرة التي فاق حجمها حجم الإنسان. وكانوا عمالقة إذا ما قورنوا بما قد سبقهم من الأنواع الكبيرة. ولما كان الإنسان عملاقاً أولياً بالنسبة لباقي المخلوقات وكانت هذه الحيوانات وأحجامها أمام فكرنا، فإنه لا يسع الإنسان إلا أن يشك في أن الإنسان قد تفرع في ذلك الوقت عن فرع منها.

أما معلوماتنا عن القردة فقد بنيناها على ما قد وجدناه من بقايا فكوكها وحطام أسنانها. يقول عنها بعض العلماء أنها بقايا نوع من القردة الكبيرة كان متجهاً نحو التطور الإنساني، ولكن لا يمكننا الحكم بذلك من مجرد بقايا لفك أو بضع أسنان، لأنه قد سبق لنا أن مظهر الفك وشكله لا يدلان على نوع صاحبه كما عرفنا في إنسان البلتدون. ولكن البرهان الحقيقي الذي يمكننا أن ننتزع منه الحقائق الثابتة هو الجمجمة وعظمة الفخذ والقدم، وهذا ما يوفق إليه أحد حتى الآن.

لكننا مع ذلك يمكننا القول حدساً بأن قردة الميوسين برغم اختلافها في الشكل والتكوين عن نظيراتها في العصر الحالي لا تختلف عنها في شئ آخر، وقد وجدت آثار لصغار القردة التي يمثلها نوع الجيبون وتمتاز أسنانها بصغرها، مختلفة في ذلك عن باقي الحيوانات التي كانت منتشرة في غابات الملايو. وإننا لا نشك لحظة في القول بأنه إذا كان هناك عالم حيواني قد نزل الأرض من كوكب آخر منذ 700 ألف سنة لوجد كل الأجناس موجودة بها ما عدا الإنسان، وهذا معناه أن الإنسان كما نعرفه الآن لم يوجد قبل تلك الفترة، ولكن هل كان الإنسان الأول موجوداً في ذلك الوقت؟ أو هل كان أصل الإنسان الذي تفرع عنه موجوداً في ذلك الوقت؟. . لا يسعنا إذا نظرنا إلى كمال جسم الإنسان وتمامه قبل نهاية عصر البليوسين إلا أن نقول أن الإنسان في تطوره أو تفرعه عن شجرة الأجناس (كما سنطلق عليها الآن) قد بعد أن يكون قرداً أو عن نوع القردة من بدء عصر الميوسين على أقل تقدير، وهذا ما احتاج إلى ملايين السنين، وربما كان ذلك قبل ذاك الوقت حيث عصر الأوليجوسين.

ولنجل اليوم جولة أخرى حيث يقودنا الماضي السحيق الذي يبعد عنا بما لا يقل عن نصف مليون سنة إلى عصر مبكر من عصر الأوليجوسين حينما كانت الغابات تغطي شمال أفريقيا ومنطقة الصحراء الكبرى والسودان، وحينما كان يغمرها نهر عظيم فياض كان يفيض في الشمال والجنوب مكوناً دلتا عظيمة كانت مكان دلتا النيل الحالية، وتظهر آثارها في الفيوم على شكل ربوات عالية من الطباشير، غنية بحفرياتها التي تمثل نوع الحيوان الذي كان يسكن شمال أفريقيا في النصف الأول من عصر الأوليجوسين، ولذلك نوجه بحثنا إليها.

في سنة 1910 كشف بها عن اكتشافات هامة هي أسنان وحطام أفكاك ثلاث أنواع غريبة من الأنواع الأولى البائدة. وكان أشد ما أدهشنا في تلك الأسنان أنها صغيرة الحجم، وأن تلك الأنواع صغيرة الحجم لا يتجاوز حجمها حجم القرد الأمريكي المعروف باسم ونسبة حجم جسمها إلى جسم الجيبون توازي نسبة حجم ذلك إلى حجم القردة الكبيرة. إلا أنه قد كشف أن أحدها وهو الذي أطلق عليه يمت بصلات تقربه جداً إلى النوع المعروف باسم الجيبون. وإنا نشك في أن هذا النوع الذي ذكرناه قد يكون أصل قردة الأوليجوسين والميوسين والأنواع التي يطلق عليها اسم الجيبون.

وقد وجد الباحثون هيكل قردين آخرين: الأول صغير الحجم (وقد وجدا بالقرب من الفيوم) يظن أنه قد تفرع عن أصل قردة الجيبون وقردة الدنيا القديمة. وفي هذا النوع الذي وجدوه نلتمس القرابة والتشابه المحسوس مع قردة الأيوسين. أما الهيكل الثاني فإنه لقرد صغير يظن أنه من حلقات تطور القردة الأولى.

وإن منطقة الفيوم هذه قد أعطتنا فكرة عن قردة الدنيا القديمة وتطورها في عصر الوليجوسين، وهذه الفكرة تكفينا لنعرف أننا نتقرب في بحثنا ونتعمق في عصر من الدرجة الأولى لتطور أنواع القردة إلى عصرنا هذا الذي تختلف فيه أنواع القردة الأولى، ولو أن كليهما من عنصر واحد وتركيب واحد.

وقد أمكننا من بحثنا في صخور الأوليجوسين أن نعرف ونرى بوضوح تام أنه لم يوجد في ذلك العصر أي نوع من الأنواع الإنسانية أو القردة، بل وجد أصل كل تلك الأجناس العظيمة.

ولم نكن نريد أن نتعمق أكثر من هذا في بحثنا ونصل فيه إلى عصر سحيق متناه في القدم يمثله العصر المعروف باسم عصر الأيوسين، إلا أننا علمنا أن العلامة الكبير الأستاذ ف. وود جونز وهو من عباقرة هذا العصر يصرح بأنه يؤيد أصحاب النظرية التي تقول إن الإنسان قد تفرع من شجرة الأجناس وابتعد عن باقيها من عصر الأيوسين حينما أخذت ذوات الثدي تعدل من شكلها ويتخذ كل منها له صفات ومميزات تميزه من غيره.

لذلك نقول إنه قد وجد في طبقات عصر الأيوسين وبخاصة في الولايات المتحدة وفرنسا متحجرات لأنواع كثيرة جداً من ذوات الثدي البائدة وكلها صغيرة الحجم. وقد وجد ضمنها نوع يشابه القردة التي أطلق عليها اسم وهذا النوع قد باد ولم يبق ما يماثله الآن سوى نوع واحد يعيش في غابات الملايو سريع الحركة براق العينين واسعهما لا يظهر إلا بالليل ويطلق عليه اسم

ويعتقد الأستاذ وود جونز أننا في بحثنا هذا سوف نجد حتماً سلسلة متتابعة من الهياكل المتحجرة التي تثبت لنا أن أصل الإنسان يرجع إلى سلف من أسلاف هذا النوع وبذلك يعطي للإنسان وأصله عمراً يقدر بنحو مليونين أو ثلاثة ملايين سنة.

يتبع

نعيم علي راغب.