مجلة الرسالة/العدد 71/الشخصية
7 - الشخصية «مجلة الرسالة/العدد 71/الشخصية» للأستاذ محمد عطية الابراشي المفتش بوزارة المعارف وسائل تقوية الشخصية العملية: قلنا فيما مضى إن الشخصية نوعان: عملية وفكرية، وذكرنا شيئاً عن الشخصية العملية، واليوم نتكلم عن الوسائل التي تقويها فنقول: هناك وسائل لتقوية الشخصية العملية نذكر منها ما يأتي: (1) تحديد الغرض ومعرفة الطريق الموصل: إن تحديد الغرض في أي عمل من الأعمال مع معرفة السبيل الموصلة إلى ذلك الغرض من أهم الوسائل المشجعة للإنسان على الاجتهاد في العمل والسير فيه إلى النهاية من غير تردد. وبخاصة إذا صحب العمل بإرادة قوية، وثقة به. فمعرفة الغرض لها أثر كبير في نفوسنا، سواء أكان ذلك الغرض عادياً أم عظيماً. وإن نظرة واحدة إلى العالم تبين لنا أن لكل إنسان غرضاً يسعى ليدركه مهما اختلفت هذه الأغراض. ولكن المهم أن يكون الغرض محدوداً سامياً. كلٌّ له غرض يسعى ليدركه ... والحر يعمل إدراك العلا غَرضا فالصياد يقف على شاطئ البحر وعصاه في يده ينتظر بصبر عظيم وملاحظة دائمة، أملاً في اصطياد السمك وما فيه من لذة وإرضاء للنفس، وسائق السيارة يسير في طريقه مهما لاقى فيها من مطر أو ثلج أو ضباب أو غبار رغبة في الوصول إلى مكان معين، وقبطان الباخرة العظيمة في البحر الخضم يقود باخرته في طريق معينة نحو ميناء أو موان معينة في جهات خاصة. وهنا يتمثل تحديد الغرض، ومعرفة الطريق الصالحة، والتأكد منها والثقة بها. وإذا تمثلت هذه الأحوال العقلية في الشخصية الإنسانية كانت من أعظم القوى العملية في العالم. فينبغي أن يكون للشخص غرض معين من العمل يسعى ليدركه ويحققه بكل ما أوتي من عزيمة وقوة ومثابرة وثقة بالنفس؛ حتى ينتفع بقواه العقلية. قال (وردِسورث) شاعر الطبيعة من الإنجليز عن الأفراد الذين يسيرون في الحياة نحو أغراض معينة: (إن اجتهادهم ناشئ عن وازع نفسي ينير الطريق أماهم دائماً؛ فيقدرون جمال الطبيعة، ويعملون بما يعلمون، ويثابرون على التعلم). وبعد الوصول إلى الغرض الأول أو المرحلة الأولى من الحياة يمكن التفكير في مرحلة أخرى وتحديدها والعمل للوصول إليها وهكذا إلى نهاية الحياة. قال عمر بن عبد العزيز: (إن لي نفساً تواقة لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة). وقيل: (ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار يضربها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعاً). (2) الرغبة في العمل: بعد تحديد الغرض من العمل يجب أن تكون هناك رغبة فيه وميل إليه؛ لأن الرغبة: ترفع من شأن العمل الذي تقوم به. تؤدي إلى الإقدام والنشاط وهما القوة الطبيعية للشخصية، وتكون كوازع نفسي أو باعث داخلي يستنهض همتنا ويستحثنا على العناية بالعمل. تمدنا بالقوة التنفيذية، والإرادة الحق الضرورية للوصول إلى أغراضنا. فالرغبة هي الدافع الطبيعي للإنسان نحو العمل مهما لاقى في سبيل ذلك العمل من متاعب ومصاعب. والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص للقيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل ولا تقف دونها أي عقبة. فإذا وجدت الرغبة ثم وجدت الإرادة، سهل الطريق مهما كان شاقاً، والحاجة تفتق الحيلة. فإذا رغبت في معرفة صناعة غزل القطن ونسجه كان الذهاب إلى معمل الغزل والنسج أحب الأشياء إليك، وأخذت تشعر بأنه يجب أن تعرف كل شئ يتعلق بالقطن وأنواعه، وأين يزرع، وكيف يزرع، وكيف تتقي آفاته السماوية، وما الأحوال الجوية التي يتطلبها، وكيف يجنى، وكيف يوضع في الغرائر، وكيف يخزن، وكيف يرسل إلى السفن، وكيف يحلج، وكيف يغزل، وكيف ينسج. وكذلك القول في رغبة (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، فتمنى لو أعطي سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطي الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً بانتخابه رئيساً لجمهورية الولايات المتحدة بأمريكا فكان من أوائل أعماله العمل على تحرير العبيد. وقد أدى ذلك إلى حرب داخلية، ولكن النصر كان أخيراً في جانبه، وبذلك يعتبر محرراً للعبيد، مدافعاً عن الإنسانية المظلومة. وإن شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) أكبر كاتب ومصلح اجتماعيبإنجلترا في القرن التاسع عشر. وإن الرغبة في شراء أسهم قناة السويس بعد التأكد من فائدتها هي التي خلدت ذكرى (دزرائيلي) بين الإنجليز، وجعلته يعمل بكل ما أوتي من قوة على تنفيذ الشراء مع شدة ما لقي من معارضة في مجلس الأمة، ومن معارضة مدير مصرف إنجلترا، وإن الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (أديسون) أكبر مخترع في القرن العشرين، والأمثلة كثيرة لا حصر لها. فبغير الرغبة لا يستطيع الإنسان أن يقوم بعمل عظيم في الحياة. فإذا أردت القيام بعمل من الأعمال - سواء أكان ذلك العمل دينياً، أم اجتماعياً، أم أدبياً، أم علمياً، أم فنياً، أم حربياً - فأوجد الرغبة الصادقة وهي كفيلة بالتنفيذ والنجاح في ذلك العمل. والرغبة نوعان: مباشرة وغير مباشرة؛ فالمؤلف الذي يؤلف كتاباً، أو يكتب مقالة لصحيفة يومية، يجب أن يكون تأليفه وكتابته عن رغبة حقيقية إذا أراد أن يكون لعلمه قيمة علمية أو أدبية، فالرغبة في العمل هي الشرط الأساسي للتقدم والنجاح فيه. ولكن هل الرغبة وحدها تكفي للنجاح؟ الحق أنها لا تكفي، بل ينبغي أن يكون هناك بعض التشجيع الأدبي أو المادي؛ لأن المؤلف أو الكاتب قد لا يكتب حباً في الكتابة فحسب، بل قد يكتب ليعيش، أو ليحصل على ضروريات الحياة أو كمالياتها. فهو ينتظر تشجيعاً، ويجب أن يشجع بتقدير عمله وإعطائه ما يستحق وحينما توجد الرغبة المباشرة الطبيعية في العمل، ثم تصحب برغبة أخرى غير مباشرة كالربح المادي أو المركز الأدبي فإننا لا نتردد أن نقول: إن النشاط يتضاعف والاجتهاد يستمر والعمل يزداد حسناً، ودواعي النجاح تكون أقوى وأشد، لأن الرغبة متوفرة من كلتا الناحيتين المباشرة وغير المباشرة. ولا ننكر أن المثل الأعلى هو أن نعمل حباً في العمل، ونؤدي الواجب رغبة في أداء الواجب، ونقوم بالشيء من غير أن ننتظر جزاءاً أو شكوراً، ولكن من حيث أن الإنسان إنسان فهو يفكر دائماً في النتيجة، وفيما يعود عليه من المنفعة والمكافأة على العمل، وهذه المكافأة نوع من التقدير يشجعه على العمل، ويدفعه إلى أدائه كما ينبغي وكما يجب أن يكون، وكلما كانت المكافأة قيمة زادت الرغبة فيها وكثر التلهف عليها والعمل على نيلها. ومعظم الأعمال التي نقوم بها يومياً من قبيل الأعمال التي نؤجر عليها. ويجب أن نصرح بأنه لولا الأجور والمرتبات التي يتقاضاها العمال والموظفون ما قام أحد منهم بعمل قيم. ولا تكفي الرغبة غير المباشرة - كالرغبة في الأجر - للنجاح في العمل واكتساب شخصية قوية، بل لا بد أن تصحب برغبة طبعية وميل حقيقي نحو العمل نفسه، وإلا كان مكروهاً لدى النفس، تبغضه، وتنتظر بفارغ الصبر التخلص منه، كما هو حال العامل الذي لا يجد لذة في عمله، فيترقب انتهاء اليوم ومجيء ميعاد الانصراف بكل صبر، ونحن لا نبغي إلا عملاً مصحوباً بلذة ورغبة وسرور، حتى ننجح في ذلك العمل ونجيده ونجد شوقاً إلى العودة إليه، ونظهر فيه تفوقاً ومهارة. ومن الصعب أن تنبغ في عمل غير محبوب إليك. يتبع محمد عطية الابراشي