مجلة الرسالة/العدد 709/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 709/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 02 - 1947



تولستوي. . .!

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا)

للأستاذ محمود الخفيف

- 1 -

طفولة ونسب

اطل من نافذة قصر أنيق أقيم على مرتفع في ضيعة ياسنايابوليانا الجميلة، طفل في الخامسة من عمره، وقد أعجبه ذلك المنظر البهيج من حوله، ذلك المنظر الذي الفته نفسه وباتت تأنس به روحه ويتعلق بجماله حسه.

كان الطفل يمد عينيه الصغيرتين الحالمتين إلى كل ما يحيط به إلى الغابات التي تتناثر هنا وهناك، والى النهر الذي تتثنى صفحته بين هاتيك الغابات فيظهر لعينيه جزء منه وتتوارى خلف الشجر أجزاء، ثم إلى القرية الهادئة التي تتراءى لعينيه من بين الخمائل التي تحيط بها على مقربة من النهر برك صغيرة وأخرى كبيرة، وتبدو كنيستها المتواضعة بجانب الأكواخ والعشش الصغيرة المبنية من الطين وجذوع الشجر، والتي يفصل بينها طريق عريض هو طريق القرية الرئيسي؛ ثم يمد الطفل عينيه إلى ذلك الطريق البعيد الذي سمع عنه فيما سمع أنه ينتهي عند مدينة تولا على مسافة عشرة أميال إلى الشمال وهي مسافة يصورها له خياله طويلة بعيدة؛ وكم يتمنى ان يرى مدينة نولا هذه التي يسمع عنها وعن حياتها الشيء الكثير. وثمة طريق آخر يمتد إليه بصره هو الطريق المؤدي إلى كييف، وإنه ليتمنى أن يرى كييف تلك المدينة التي يذكر اسمها الناس في احترام وتقديس، والتي يتقاطر إليها الحجاج مارين بضيعة أبيه وفي هذا الطريق القديم. . .

وإذا رد الطفل بصره وقع على الطريق المنحدر من القصر تحيط به أشجار الليمون ويقوم على جانبي مدخله برجان أبيضان جميلان. ولم يكد يتحول الطفل ببصره عما يرى حتى مشت في صفحة وجهه سحابة خفيفة من الهم، فقد تذكر أن عهده باللعب قد انتهى كما أخبرته العمة تاتيانا، وأنه من غده سيخل حجرة الدراسة كل يوم في ساعة معينة من الن فلا يبرحها إلا متى شاء معلمه ان يطلقه. . . وهو منذ تلك السن يكره القيود كرهاً شديداً فكيف يطيق حجرة الدراسة ويطيق ان يأتمر بما يقضي به المعلم؟ ذلك ما كان يكرب نفسه الصغيرة، بعد أن اخذ ذلك المنظر بمجاميع عينيه، فهو يطل على مسارح لعبه ومجال حريته تحت هاتيك الخمائل وفي فناء ذلك القصر.

ولكن الصبي يعود فيذكر أن لا بأس من حجرة الدراسة وما فيها؛ أو ليس معنى غدوه إليها انه يغدو كبيراً فيقرأ ويكتب كما يقرأ اخوته ويكتبون؟ فلا يدل عليه أحدهم بشيء ينقصه هو ولا حيلة له في هذا النقص، ولا يفاخره منهم أحد بكتبه ودفاتره فسوف تكون له كتب ودفاتر. وتطيب نفس الصبي بهذه الأفكار فهو يكره اشد الكره أن يتفاخر عليه أحد، أو أن يشعر أنه دون من يحيطون به. وكثيراً ما دمعت عيناه غيظاً إذ يرى لغيره من دواعي الفخر ما ليس له. وهو سريع البكاء إذا غيظ لأنه لا يحب ان يغيظ أحداً. فليقبل إذا على حجرة الدراسة في غير نكد بل ليقبل عليها في ارتياح. هكذا توحي إليه كبرياء نفسه الصغيرة، وانه منذ صغره لذو كبرياء، وان كان إذا غضب سريع البكاء.

وكان للطفل واسمه ليو، ثلاثة اخوة أكبر منه وأخت هو أكبر منها. أما أخوته فهم: نيقولا وكان يكبره بخمسة اعوام، وسيرجي وكان يكبره بعامين ونصف، وديمتري وكان يكبره بعام وأربعة اشهر، وأما أخته فهي ماريا، وكانت دونه بسنة ونصف سنة.

وكانت تعيش مع صغار الأسرة بنت ليست منها وهي بنت غير سفيحة لأحد الأصدقاء المقربين من عميدها، وكان أبناء الأسرة يحسنون معاملتها كما لو كانت أختاً لهم، وماذا تصنع غير ذلك نفوس بريئة كهاتيك النفوس التي لم تدر بعد لؤم الحياة؟. . .

هؤلاء هم أفراد الأسرة الصغار؛ فأما الكبار ففي مقدمتهم أبوه، ثم تأتي بعد أبيه العمة تاتيانا، ولم يعرف الصبي منذ بدأ إدراكه أماً له غيرها، فقد ماتت أمه كما يذكر أحياناً أخوه نيقولا في همس وحزن عقب مولد أخته الصغيرة بأيام.

وهناك جدته لأبيه وهي تعيش في هذا القصر منذ مات زوجها، ثم عمته ألين التي جاءت لتعيش في حماية أخيها بعد أن أصيب زوجها بالجنون فقد بلغ به الجنون أن أطلق الرصاص ذات يوم على صدرها. وكانت ألين هذه عمته حقاً، أم تاتيانا فكان يناديها بالعمة كما يفعل اخوته؛ ولكن نيقولا يفهمه ذات مرة أنها ليست عمتهما فهي ليست أختاً لأبيهما فيعجب ليو لماذا إذا يدعوها الجميع عمتهم ولا يدرك مكانها من أبيه ولا موضعها من الأسرة، ولعل نيقولا كذلك لم يكن اقل منه جهلاً بهذا الأمر. وكيف يتسنى له أن يعرف إن أباه احبها في صدر شبابه وأنها أحبته ولكنها أفسحت له الطريق ليتزوج بسيدة غنية يصلح بثروتها حال معيشته إذ رأت منه هذا الميل على الرغم من حبه إياها حباً وثقت منه؛ وكانت تلك السيدة الغنية هي امه، فلما ماتت أمه عاد أبوه يطلب يدها فرفضت أن تتزوجه ولكنها وعدت أن تكون أماً أخرى لبني، وها هي ذي تبر بوعدها، فتكون لهم أماً في مكان أمهم.

لم يكن يعرف ذلك نيقولا مفصلاً هذا التفصيل فما يجدر ان يتحدث إلى الأطفال بمثل هذه الأمور، وحسب أولئك الأطفال أنها تحبهم وانهم يحبونها حباً شديداً، وعلى الأخص ليو فقد كان شديد الحب لها قوي التودد إليها. . .

على أن عطف العمة تاتيانا عليه لم يشغله منذ هذه السن الباكرة عن التفكير في أنها ليست أمه، وإن كان يرى منها مثلما يرى الأطفال من أمهاتهم؛ وإنه ليسأل نفسه أين امه؟ لقد ذكر له نيقولا مرات إنها ماتت وإنه ليرى على وجه نيقولا إمارات الغم كلما أشار إلى ذلك وير كذلك دلائل الرهبة والألم. فما هذا الموت الذي حرمه من أمه؟ إن خياله يصوره له شيئاً كريهاً مخيفاً وإنه ليخاف من اسمه وينفر منه ولكنه لا يدري ما هو.

وإن الطفل ليرهف أذنيه كلما تحدث متحدث عن أمه، ولئن كان يحزنه انه لم يرها فإنه يطيب نفساً بما يسمع من صفاتها والثناء عليها، وإنه ليجد من عطف عمته تاتيانا ما يخفف حزنه؛ ثم إنه ليزداد حباً لهذه العمة كلما سمعها تذكر بالخير أمه، وتظهر الأسف على فقدها بكلماتها أو بما يبدو من صور الهم على ملامح وجهها. .

وتقع عينا الطفل في القصر على عدد من المربين والمربيات، ومن الخدم على اختلاف مراتبهم وتنوع أعمالهم؛ ويجد لأبيه السيطرة على هؤلاء جميعاً، فما يلقاه أحد منهم إلا بعبارات التجلة وتحيات الاحترام، فيداخل نفس الطفل شعور الفخر بجاه أبيه وعظمته، ثم انه إذا مثل بعض هؤلاء الفلاحين الذين يسكنون القرية القريبة بين يدي أبيه رآهم يحنون رؤوسهم خاشعين، ويخاطبونه بألقاب السيادة والعظمة، والسعيد منهم من ظفر بلثم يده إذا شاء أن يمدها إليه، ويعجب إذ يرى أباه يخاطبهم أحياناً في ازدراء ويعنف عليهم في لهجة الأمروالنهي، ويتساءل بينه وبين نفسه لم يترفع عليهم أبوه هذا الترفع، ولم لا يعاملهم كما يعاملونه، ولكن نيقولا يخبره إذا سأله ان الفلاحين في الضيعة كلها ملك أبيه وملك أجداده كما حدثته بذلك العمة تاتيانا.

على أنه يعلم فيما يعلم أن القصر والضيعة كانا من أملاك أمه ورثتهما عن آبائها من أسرة فولكنسكي، ولكن رأسه الصغير لا يتسع لما يقال عن نسب أمه ونسب أبيه، وإن أخاه نيقولا نفسه الذي كثيراً ما علمه ما لم يكن يعلم يبدو منه العجز والتناقض إذا تحدث عن هذا النسب، ولا تحدثه العمة تاتيانا عنه إلا بقدر ما تعتقد أنه يفهم.

لم يكن يستطيع الطفل في تلك السن أن يدرك حديث نسب أبيه ونسب أمه فإنه حديث طويل وتاريخ قديم. . .

كان بطرس اندر فتش تولستوي أول فرع سامق من فروع أسرة تولستوي التي نبت اصلها في ألمانيا من زمن بعيد؛ وقد بدأ سموق هذا الفرع في عهد العاهل العظيم بطرس الأكبر الذي ولي أمر الروسيا في أواخر القرن السابع عشر.

حارب بطرس اندروفتش تولستوي في معركة أزوف عام 1696؛ وأرسله القيصر بعد ذلك إلى أوربا ليتعلم بناء السفن؛ وفي مستهل القرن الثامن عشر عينه سفيراً لروسيا لدى الباب العالي، ولما اشتبكت الدولتان في حرب عام 1710 ألقى به في سجن الأبراج السبعة، وكان يلقى فيه السلطان بالسفراء الذين يكون بينهم وبين دولهم حرب، ولما عاد بطرس إلى بلاده عام 1714 وصل إلى منصب الوزارة. . .

ولم ينس العاهل الجبار بطرس الأكبر صنيع وزيره هذا إذ أرسله إلى إيطاليا ليعود بأبنه اليكسي، وكان قد هرب من بلاده خوفاً من غضب أبيه عليه لما كان من معارضته إياه في إصلاحاته، ولم يزل به ذلك الوزير الماكر يغريه ويمنيه، ويستعين عليه سراً بخليلته، حتى عاد به إلى روسيا حيث أسلمه إلى الموت نكال أبيه، وجزى بطرس رسوله بالمال والضياع المترامية. ومما يروى عن القيصر العظيم انه في أواخر أيامه كان يمس بكفه رأس وزيره قائلاً: (أيها الرأس. . .! أيها الرأس، لولا ما أنت عليه من مهارة لمضى اليوم زمن طويل على الإطاحة بك من فوق كتفيك).

ويأتي دوران الفلك إلى عرش روسيا بنجل اليكس بعد، فيكون أول ما يعنى به القيصر الجديد ان يقتص من ذلك الذي خدع أباه حتى جره إلى مواطن الحتف، ولئن سقاه أمس جده الكأس عسلاً فإنه اليوم يجرعه إياه علقماً، فقد جرده من القاب شرفه ونفاه إلى اركينجل نفياً لم تكن منه عودة. . .

على أن ذلك الفلك الدوار يضع على العرش عام 1741 القيصرة اليزابت ابنة بطرس الأكبر فترد إلى أسرة تولستوي شرفها وضياعها في شخص اندرو ايفانوفتش تولستوي حفيد ذلك الذي قضى نحبه في اركينجل.

وينمو من هذا الفرع الجديد السامق فرع هزبل رخو هو أبنه إليا تولستوي، فلقد كان ماجناً مستهتراً ضيق العقل، بسط يده كل البسط في ثروته العظيمة فبددها، ثم بدد بعدها ثروة زوجه الغنية، ولولا أن تداركه بعض ذوي النفوذ والثراء من أقربائه لحاق به سوء ما فعل، فبفضل هؤلاء عين إليا تولستوي حاكماً لقازان واستطاع أن يسترد بعض ما فقد. . .

ورزق حاكم قازان بغلام اسمه نيقولا، وترك له بعد موته ما بقي من أملاك الأسرة، وفي عهد نيقولا هذا وهنت ثروة الأسرة وهناً شديداً ولم تكن له يد في ذلك وإنما حدث هذا بسبب غيابه إذ أسره الفرنسيون، وكان لم يتجاوز الثامنة عشرة اثناء حملة نابليون على روسيا، وظل سجيناً بفرنسا حتى غلب نابليون على أمره فأطلقت سراحه جيوش الحلفاء الظافرة بعد دخولها باريس. . . ولم يجد نيقولا ما يرأب به ما تصدع ويصلح ما فسد خيراً من زواجه بات ثراء، وتم له ذلك بزواجه من ماري فولكنسكي العظيمة الثراء الكريمة المحتد.

وكان لأسرة فولكنسكي إلى الثروة وعراقة الاصل، الشمم والبطولة وقوة الروح واستقلال الرأي وصرامة العزم فتلك خلال ظهرت كلها أو بعضها في أفرادها، ومن هؤلاء ثائر اشترك في ثورة الديسمبريين وعوقب بالنفي ثلاثين عاماً في سيبريا حيث صحبته زوجته عن طوع، ومنهم ابن عم له خاض المعارك ضد نابليون في حماسة وبسالة اعجب بهما نابليون إعجاباً حمله على أن يرسل في طلبه وهو جريح أسير وعرض عليه أن يرد إليه حريته إذا قطع على نفسه عهداً إلا يحاربه مدة عامين ولكنه رفض هذا العهد في شمم وكبرياء. . .

وعرفت كذلك أسرة فولكنسكي بصلة النسب بين كثير من أفرادها وبعض ذوي المقدرة الفنية من المؤرخين والأدباء والنقاد والشعراء، وكانت تربط ماري كولكنسكي وشائج الرحم من بعد بشاعر روسيا الكبير الأكبر بوشكين.

وكانت ضيعة ياسنايا بوليانا من نصيب ماري فولكنسكي عند زفافها إلى نيقولاي تولستوي نالتها من أبيها كما نالت ذلك القصر الأنيق الذي استقرت فيه وزوجها عقب زواجهما، وكان ذلك القصر الأنيق الذي تستوقف الأعين أخشابه الزاهية اللون في وسطه ويمتد جناحاه الحجريان العظيمان يمنة ويسرة إلى مسافة بعيدة، يقع فوق مرتفع على مقربة من الضيعة. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس سنة 1828 ولد فيه لك الغلام الذي يقف الآن وهو في الخامسة من عمره يطل من شرفته على الضيعة والنهر والغابات والقرية القريبة، ويذكر ما أخبرته به العمة تاتيانا في رفق وهو انه لم يعد بعده صغيراً وانه سيدخل حجرة الدراسة من غده فلا يبرحها إلا متى شاء معلمه أن يطلقه.

(يتبع)

الخفيف