انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 708/داود باشا ونهضة العراق الأدبية في القرن التاسع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 708/داود باشا ونهضة العراق الأدبية في القرن التاسع

مجلة الرسالة - العدد 708
داود باشا ونهضة العراق الأدبية في القرن التاسع
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 01 - 1947


عشر

للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

أعجب داود باشا بهذه الخريدة كل الإعجاب فأهدى إلى ناظمها إمامة قليون نفيسة فأنشد الشيخ طرباً:

إلى إمامة القليون وافت ... فتاهت في محاسنها عيوني

من المولى المشير إلى المعالي ... بأيد حطت الفضلاء دوني

فقبلها فمي ألفاً ونادى ... مفاكهة لقوم يجهلوني

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع الإمامة تعرفوني

وقد مدحه بطرس كرامة بقصائد عديدة منها قوله:

وزير إذا ما سار في حلبة العلى ... على مهل يأتي أمام ذوي الركض

هو البدر للمجد الرفيع وللندا ... وللعلم والعليا هو الحكم المرضي

وذو الحزم والرأي السديد مؤيدٌ ... بكل صواب ما يقول وما يمضي

مهيبٌ حليمٌ جهبذ متجلبب ... من العلم والآداب بالشرف المحض

ومنها قوله:

إن البلاغة واليراعة ... عند داود الوزير

وسمعت من ألفاظه ... داود يلهج بالزبور

فكأنما آدابه ... روض تنوع بالزهور

إن قال نظما خلته ... بعقوده درر النحور

صدر العلوم وبدرها ... بدر لكل ذوي الصدور

شهم إذا حضر النزا ... ل يصول كالأسد الهصور

وقد مدحه أيضاً عبد الغفار الأخرس الشاعر العراقي الذائع الصيت بقصيدة أرسلها إلى الأستانة نقتطف منها هذه البيات: بوادي الغضا للمالكية أربع ... سقتها الحيا منا جفون وأدمع

ومرتع لهو كان للريم ملعباً ... على أنه للضيغم الورد مصرع

إلى أن قال:

أراني مقيما بالعراق على ظمأ ... ولا منهل للظامئين ومرتع

وكيف بورد الماء والماء آجن ... يبل به هذا الغليل وينقع

لعل وما يجدي لعل وربما ... غمائم غم أطبقت تتقشع

يعود زمان مرّ حلو مذاقه ... وشمل أحبائي كما كان يجمع

وكنت إذا طاشت سهام قسيها ... وقتنى الردى من صنع (داود) أدرع

فمن جوده أنى ربيت بجوده ... وزير له الإحسان والجود أجمع

وردَّ شموس الفضل بعد غروبها ... كما ردها من قبل ذلك يوشع

وقام له في كل منبر مدحة ... خطيب من الأقلام بالفضل مصقع

ومستودع علم النبيين صدره ... ولله سر في معاليه مودع

كأن ضياء الشمس فوق جبينه ... على وجهه النور الإلهي يسفع

وزير ومرّ الحادثات تزيده ... ثباتاً وحلماً فهو إذ ذاك أروع

(أبا حسن) هل أوبة بعد غيبة ... فللبدر في الدنيا مغيب ومطلع

لئن خليت منك البلاد التي خلت ... فلم يخل من ذكرى جميلك موضع

ففي كل أرضٍ من أياديك ديمة ... وروض إذا ما أجدب الناس ممرع

يفيض الندى من راحتيك وإنها ... حياض بنز الآمال منهن تكرع

وإني على خضب الزمان وجدبه ... إليك وإن شط المزار لأهرع

ولو أنني وفقت للخير أصبحت ... نياقي بأرض الروم تخدى وتسرع

وكان المترجم مكرماً ومحبوباً من الجميع لما كان يأتيه من العدالة والمساواة والإخاء، وقد مدحه الشيخ صالح التميمي وعدد مناقبه بقصيدة طويلة نثبت منها ما يلي:

زهت الرياض وغنت الأطيار ... وزها المقام ورنَّت الأوتار

وصفا بها العيش الأنيق وروقت ... فيها المياه وجادت الأمطار

وعلت على دوح الأراك حمائم ... وتزاهرت بغنائها الأقمار وزها بها ورد الاقاح ونرجس ... وشقائق النعمان والأزهار

وبعد أن مكث في الآستانة مدة عيّنه السلطان عبد المجيد شيخاً على الحرم النبوي، وأرسله إلى المدينة المنورة عام 1260 هـ 1844 م، وهناك أكب على الدرس والمطالعة والتأليف والتعليم وهو شيخ، وقد أفاد أهل المدينة من وجوه كثيرة، وكان الغرض الذي ينشده هو أن يؤسس كلية إسلامية فقهية تكون بمثابة كعبة للعلوم الدينية يؤمها جميع الطلاب المسلمين من أقصى أطراف المعمور وذلك لإنارة أذهانهم وتوسيع نطاق معرفتهم بيد أن المنية أنشب أظفارها به قبل بلوغ المرام في سنة 1277 هـ 1851 م وقد عظم موته على جميع معارفه ومحبيه لما كان له من الدالة عليهم والمنزلة الرفيعة بين ظهرانيهم ودفن بحذاء مدفن عثمان بن عفان، وقد أوصى قبيل موته أن لا تبنى قبة على ضريحه بل أن ينصب شباكا من الحديد حول قبره ووقف في المدينة بستانه العامر المسمى بالداودية، وكان قد أرخ بناءه وغرس أشجاره الشيخ صالح التميمي بقصيدة عامرة الأبيات فأعجب بها الوزير غاية الإعجاب حتى أنقده ألف ريال، وكان رحمه الله ندي الكف للعلماء والشعراء والأدباء، وقد غمر الكثيرين منهم بالجوائز والصلات السنية مقتدياً بالخلفاء العباسيين الذين كانوا يسبغون العطاء على أرباب العلم والأدب.

ومما يجدر بنا أن نجعله مسك الختام لسيرة هذا العالم العامل هو إنشاؤه خزانة كتب في المدينة وقد جمع فيها طائفة كبيرة من التصانيف على اختلاف موضوعاتها وبينها مخطوطات عديدة، وإن أردنا أن نلم بكل الإصلاحات التي قام بها في بغداد والأستانة ضاق بنا المقام عن نشرها، ولما نعته الصحف رثاه شعراء عصره من عراقيين وسوريين بقصائد عددت مناقبه الحميدة وما كان له من الهمة الشماء واليد البيضاء في نشر العلم والأدب في الأقطار العربية. وقد جمع أحد أدباء بغداد كل القصائد التي نظمت في مدحه والثناء على عبقريته وهذا الكتاب لا يزال خطاً.

(بغداد)

رزوق عيسى