مجلة الرسالة/العدد 706/يا ليل. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 706/يا ليل. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1947



للأستاذ الأسدي محمد خير الله

(بحث طريف قيم في أصل هذه الكلمة وتطورها، تفضل به

علي (الرسالة) الأستاذ الأسدي أديب حلب ونحويها، وهو

يزور مصر الآن في مهمة ثقافية، فعلى الرحب والسعة).

يا ليل! وكم أرسلت حناجر الشداة ترنم يا ليل! فهل للتحقيق اللغوي أن يتولاها بحفظ من الدراسة؟ سنحاول ذلك. سنبسط في البداءة مذاهب معاصرينا الدائرة حولها ثم نمضي في مناقشتها. حتى إذا دحضتها مقاييس التحقيق أفضى بنا البحث إلى الإدلاء بمذهبنا

المذهب الأول:

حدثنا ضيفنا الأستاذ رجب المصري أن صديقنا الأستاذ خليل مردم بك يذهب إلى أن أصلها (يا ليلي) بفتح اللام. من أعلام النساء، كان يتغنى به العرب. فلما طرقت ديار الفرس التبست عليهم صورتها. فصحفوها إلى (يا ليلي) بكسر اللام، وجرى الناس على غرارهم.

وإذا جارينا نحن هذا المذهب كان علينا أن نقول: إن (يا ليل) المرسلة المطلقة من الإضافة إلى ياء المتكلم إنما هي من مرخم ليلى، كما في قول الفرزدق:

متى ما بعت عانيك يا ليل تعلمي

المناقشة:

1 - يفضي هذا المذهب إلى أن العرب نادوا ليلى صحيحاً، ثم حرفه الفرس، ثم استعاده العرب منهم محرفاً، فهجروا لفظهم الصحيح، واستعملوا لفظ غيرهم المحرف، وهو ما يستبعد.

2 - إن الغناء ألصق بحاسة السمع منه بحاسة البصر. فالأذن وهي السبيل الأوحد لدرك النغم - ليس لها بعد أن تتلقف من اهتزازات الهواء (ليلي) أن تأذن للفم أن يعيدها مكسورة اللام استجابة لما قد تتوهمه العين.

3 - أقام الأصبهاني والنويري وغيرهما معارض واسعة الأبهاء لما يتغنى به الأقدمون، لم يسجل خلالها أن العرب تغنوا بليلى، ولو أن اسمها تداخل الشعر كثيراً، وبصورة أدق لم يكن (يا ليلي) لازمة غنائية،

4 - لم يقم بين يدي هذا المذهب حجة ما تدعمه، أو تحملنا - على الأقل - على الاستئناس به

5 - سألنا من عرفناه ممن يحسن الفارسية: هل هناك إثارة من يا ليلى في الغناء الفارسي؟ فنفى

المذهب الثاني:

جاء في مجلة المجمع الملكي، من مقالة لصديقنا الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف: ومن القبطية. . . وقولهم في الغناء (يا ليلي) بمعنى يا طربي

المناقشة:

1 - انفردت العربية. دون أخواتها السامية باستعمال (يا للنداء)، فما ظنك في أن تشركها لغة حامية.

2 - في الهيرغليفية (ا) أو (ها) علامتان للمنادى، والقبطية جذرها الهيرغليفية إلا ما استمدته من اليونانية.

3 - ازدهرت القبطية في القرن الثالث للميلاد، وظلت هي اللغة الرسمية، حتى أبطلها الوليد بن عبد الملك، واستبدل بها العربية، ثم جاء الحاكم بأمر الله الفاطمي فأمر بإبطالها بالمرة، وعاقب من يتكلم بها، وفي خلال كل هذا العهد لم يسجل تاريخ الغناء ولا غيره (يا ليلي).

4 - تعد القبطية أقل الموارد التي رفدت العربية، فقصارى ما استمدته منها كلمات لا تعدو العقدين انفرد الأستاذ المعلوف بعد (يا ليلي) منها

5 - لعل ما أغرى الأستاذ بمذهبه هذا كون القبطية كالعربية من حيث أن المضاف يتقدم المضاف اليه - لا بعده - ثم من حيث أن ضمير المتكلم المتصل هو الياء.

المذهب الثالث:

هو مذهب الجمهور القائل: أن (يا ليل) إنما هو على حده؛ أعني أنه مناجاة لدنيا الظلام، لما أنه يسدل أستاره على المتحابين، فهو بهذا جدير أن يرعاه الشعر والغناء. كما في الخانة الثانية من توشيح أما ومن بالجمال أنعم:

يا ليل إن الحبيب وافى ... فشد يا ليل دهم خيلك

وانهض ورد الصباح عنا ... دخلت يا ليل تحت ذيلك

وكقول إبن خفاجة:

يا ليل وجد بنجد ... أما لطيفك مسرى؟

وقول سعيد بن حميد:

يا ليل بل يا أبد ... أنائم عنك غد؟

يا ليل لو تلقي الذي ... ألقى بها أو تجد

وعلى هذا المذهب جرى الأستاذ شلفون، مرددا قول شوقي في عبده الحمولي:

يسمع الليل منه في الفجر يا لي ... ل فيصغي مستمهلا في فراره

كما جرى عليه مؤتمر الموسيقى، قال: الغناء بكلمة يا ليل هو نداء الليل بألحان شجية مع مراعاة المقامات، وقد يكون هذا موزونا بميزان يسمى البمب أو الوحدة المتوسطة أو أوزان أخرى مثل السماعي الدارج والأقصاق والسماعي الثقيل.

المناقشة:

1 - لاشك أن النفس تأنس بمذهب الجمهور هذا، لما أن اللفظ جاء على حده فلا يحاد عنه إلا بدليل، لكن هذه الظاهرة ظاهرة اللفظ جاء على حده دحضها جمهرة من الألفاظ تولاها الباحثون، دون أن تغرهم هذه الظاهرة، وما عهد قراء مقالتنا: (حلب) ببعيد.

2 - إن الكثير بل الأكثر الأعم من الغناء، لا مساس له بالليل.

3 - قد تجيء (يا ليلي) مردفة بقولهم: يا عيني ويا سيدي الأمر الذي يرجح أنها نداء الإنسان.

4 - ليس في الأدب العربي كله قصيدة افتتحت بياليل وتداولتها الألسن مثل قصيدة (يا ليل الصب متى غده) ادعاها الكثير، وعارضها الأكثر، وحفظها على توالي العصور مئات الألوف من شداة الشعر، فما كان يقعد هؤلاء المعجبين بها المغالين بالإطراء عليها، أن يشيدوا بأنها طبعت الغناء بطابع مطلعها، لو كان ذلك صحيحا؟ إن شيئا من هذا لم يكن.

المذهب الرابع:

يقول الصديق الطبيب فؤاد رجائي في رده على موجز مقالنا هذا وقد نشرناه في مجلة الضاد: س 15 عدد كانون 2 وشباط سنة 1945، كما نشر رده في المجلة نفسها عدد تموز وآب سنة 1945:

(ولا بد لي قبل تفنيد الشق الثاني من مذهبكم أن أذكر لكم مذهبا خامسا كنت قد قرأته منذ زمن بعيد، ونسيت أين قرأته، وهو يقول: (وكان في الأندلس واد يسمى وادي الليل، لأن أشجاره الملتفة كانت تحجب ضوء الشمس، فيخال الجالس في ظلها النهار ليلا، وكان مجمع السمار والأهلين. وحين انقرضت الدولة الأموية في الأندلس، وهجر البلاد أهلها بقيت ذكراه عالقة في الأذهان، فجعل المغنون يرددون اسمه تخليدا لذكراه).

ثم قال: (وسيكون دحض هذا المذهب حين نبرهن أن لفظ (يا ليلي) لم يظهر في عالم الغناء، إلا بعد انقراض الدولة الأندلسية بعصور عديدة، وليس من المعقول بعث هذا الذكرى بعد عصور عديدة قضتها في دياجير العدم).

المناقشة:

رأيت أن الصديق الأستاذ، أورد هذا المذهب على طريقة تسجيله صحيحا كان أو خطأ، ثم رأيت أنه دحضه، وله ملء الحق في دحضه لشيء مما علق عليه ولما نورده فيما يلي:

1 - ذهبنا نبحث في كتب الجغرافية القديمة عن وادي ليل فلم نجد له ذكرا؛ والأسفار التي روجعت هي المسالك والممالك لابن خرداذبة ط ليدن، أحسن التقاسيم للمقدسي ط ليدن، الأعلاق النفيسة لابن رسته ط ليدن، مسالك الممالك للاصطخري ط ليدن، المسالك والممالك لابن حوقل ط ليدن.

على أن معجم البلدان لياقوت يذكر في الواو: والوادي: بالأندلس من أعمال بطليوس.

2 - ذهبنا أيضا نبحث في تارخي الأندلس، فلم نعثر على ذكر له. وكانت مراجعنا: الصلة لابن بشكوال ط مجريط، تكملة الصلة لابن الأبار ط مجريط، بغية الملتمس للضبي ط مجريط، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي ط مجريط، المعجم في أصحاب القاضي الصدفي ط مجريط، المغرب في حلي المغرب ط ليدن، المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب للبكري ط الجزائر، نفح الطيب للمقري المط الأزهرية.

3 - ذاع استعمال يا ليل وما تفرع عنها في الموشحات الأندلسية - كما سيأتي -، فالقول بأنها استعملت بعد الجلاء تخليدا للذكرى لا يرد.

4 - تحقيقنا الآتي يثبت أنها من أصل (يا مواليا).

المذهب الخامس:

مذهب الصديق الطبيب فؤاد رجائي الرامي إلى أن في الفارسية ألفاظا تعبر عن شعور الوداد، وهي: جانم عمرم ميرم أفندم يا للا يا للن يا للان. وأن يا للا وما تفرع عنها هي مصدر يا ليل، نقلها زرياب إلى الأندلس، فيما نقل، أيام الحكم بن هشام، فتداخلت الموشحات لتتلاقى نقص الموازين الشعرية عن الموازين الموسيقية، وفي هذا إخضاع الشعر للموسيقا، بعد أن كانت الموسيقا هي الخاضعة للشعر.

استعملت هذه الألفاظ إذن لتملأ الفراغ الذي يقتضيه النغم فاملأت (جانم) فراغ تن تن، و (أفندم) فراغ تتن تن، ويا للا فراغ تن تتن وهكذا، لذا أسموها ترنم: (ترل).

ثم دخلتها يا المتكلم العربية، فكانت مع شيء من التحريف يا ليلي، حدث هذا في عهد الفاطميين، أو ملوك الطوائف بدليل أن الموشحات التي هي في حوزة الأستاذ الشيخ على الدرويش خالية من (يا ليلي) لكنها تظهر فجأة في موشح: (أحن شوقا)، وهو من تأليف عبد القادر المراغي وتلحينه، وكان نديم السلطان حسين بن الشيخ أويس التركستاني وتوفى سنة 818هـ كما يقول رؤوف بكتابك، فظهور هذه الياء حدث إذن بعد انقراض الدولة العربية في الأندلس.

ثم تقلص ظل عمرم ميرم أفندم يا للا، وحل محلها يا للي، ويا عيني ويا سيدي.

المناقشة:

1 - لم تتداخل ألفاظ الترنم الغناء الفارسي. فيصار إلى نقلها إلى الغناء العربي.

2 - كل ألفاظ الترنم ذات دلالة في الفارسية إلا يا للا وما تفرع عنها، فإن اللغة الفارسية خالية منها.

3 - لو حكمنا بزيادة (يا)، كان في الفارسية (لا لا) ومدلوها: العبد والمربى، وإنما كان من مدلولها المربى، لأنه يكون غالبا من العبيد - كما ينص أحمد عاصم - فنداء العبد والترنم بذكره ليس من موضوع الغناء.

4 - تند (لا لا) عن رفيقاتها المعبرة عن شعور الوداد.

5 - لم يسجل في ترجمة زرياب الحافلة أنه أدخل هذه الألفاظ إلى الغناء العربي.

6 - العرب أكثر الأمم عناية بلغتهم، فهل يعد السكوت عن تسجيل هذه الألفاظ إلى العربية مما يتناسب مع العناية؟

7 - لم يكن لألفاظ الترنم ظل في الغناء العربي فيتقلص اللهم إلا نحو (جانم) مما استمد حديثا من الأتراك.

هذا وإن كنا على غير ما يذهب إليه الأستاذ في صدد (يا ليل)، فإننا نسجل له على مقالنا هذا أنه خير من بحث في الموضوع، فكان رده على مقالنا هذا سببا في ازدياد أواصر الصداقة، ذلك لأن الهدف إنما هو العلم والعلم وحده.

(يتبع)

الأسدي محمد خير الله