انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 706/إلى السماء. .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 706/إلى السماء. .!

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1947



للأستاذ محمد العلائي

لك الأمر لا يدري عبادك ما بيا ... لك الأمر لا للناصحين ولا لِيا

وهذي معاذيري وتلك صحائف ... عليها خطاياها. . . وفيها اعترافيا

وفيها من الأمس الدفين وحاضري ... وفيها من الآتي وفيها ابتهاليا

وفيها تهاويلٌ. . ومهجة شاعر ... ينام بها يأساً ويصحو أمانيا

وفيها أعاجيب يكفِّر همها. . ... ذنوبي وإن كانت جبالا رواسيا!!

ونازعني شوق إليك وهزَّني ... من الغيب ما يهفو إليه رجائيا

وجئت من الدنيا الأثيمة هارباً ... بصفويَ من أكدارها ونقائيا

وفي النفس ما أخشى ظلام ضبابه ... على نور إيماني ومسرى حيائيا

وذكرى من الماضي الشهيد وعالم ... ورائيَ منه خدعة وأماميا!

وناديت أحلامي إليك وخافقاً ... تهيَّب أسباب المنى والتماديا!!

أُناديك في ضعف. وأخجل أن ترى ... جراحَ أمانيه ولون دمائيا

لك الأمر. أشواقي ببابك والمنى ... ولي أمل ألا يطول انتظاريا!

دعوتك بالسرِّ المغيَّب في دمي ... وألهمني حبي وفاض عتابيا

ولاح نشيد جئت أشرع لحنه ... فهابتك أرضي واستحتك سمائيا

وهابتك نفس لم يدع لي شبابها ... من الروح ما يهدي إليك اشتياقيا

شباب أحس الدهر ثم حملتُه ... إليك شهيداً لا يحس بكائيا!!

وداريت إلا عنك سر مماته ... وموطن ذكراه ودمع رثائيا

بعدْلِكَ لا تمنح سواي مثيله! ... ولا تَرْوِ عني ما طواه اعتزازيا!!

وبارك شهيداً مات بالأمس ظامئاً ... وما زال مثواه أمامك صاديا!!

منحت جميل الصبر كل مُرزَّأ ... سواي فلم يلمس هُداك عزائيا

زهورٌ على قبر الشهيد عبيرُها ... أهاج ضميري واستعاد اللياليا

وأخرج أسراري وعاد بماضى ... وكشَّف ما بيني وبين زمانيا

لك الأمر. مالي أرتجيك فيلتوي ... لساني وأمضي بالتوسِّل شاكي ذكرتك في نفس هَداها ضلالها ... إليك وعافت وحدتي وارتيابيا

ومنيت روحي من سناك بلمحة ... أضمِّد آلامي بها وجراحيا

وأرسلته فيما لديك لعله ... يعود بأسباب المحبة راضيا

وأنسى تكاليف الظلام وما اختفى ... وراء تَعِلاَّتي وخلفَ ابتساميا!!

وأشرعُ ألحان السماء فلم يَعدْ ... جميلا بسمع الدهر لحن شقائيا

تعاليت لم أذكر سواك بمحنتي ... ولم أرْجُ إلا من يديك جزائيا

وفوَّضتُ عن علم إليك إرادتي ... وحسبي ما أدَّى إليه اختياريا

ورائيَ آثام وخلفي خطيئة ... كفاك شعوري نحوها وكفانيا!!

تهافتُّ ظمآن الجوانح ساغباً ... وأيأسني مما سواك انتباهيا!

وأجْهدَني ما لا أُطيق بيانه ... فجئتك مشبوب الوسيلة عارياً!!

لك الأمر. شاقتني سماؤك وانتهي ... إليك بأحلام الضمير مطافيا

وأنزلتُ آمالي وفيها ملامح ... تردُّ أمامي ما تركت ورائيا!

يُطالعني منها زمان عرفتُه ... بريح لياليه ولون سهاديا!!

تُقلِّب ذكراه الدفين وماضياً ... تهرَّب منه في الشعاب خياليا!!

أطلَّت مآسيه ببابك فاسمعْ ... إليها حديثاً لم يسعه بيانيا

ضياؤك أغرى باليقين جوارحي ... وفجَّر أعماقي وأفضى بذاتيا

وألهمني حتى لخِلْت مشاعري ... أذابتْ كياني في سناك معانيا!

وأفردني حتى رأيتُ معالماً ... تلاشى زماني عندها ومكانيا!!

وأحسست أن الدهرَ لمحة خاطرٍ ... وأن امتدادَ الكون بعض امتداديا!!

وأن دويَّ الحادثات بمسمعي ... رواسب حلم زارني في مناميا!

وأوشكت أنسى غير أن هواجسا ... من الأرض نادتني ومست كيانيا

لك الأمر. أسبابي ضعافٌ وخاطري ... ببابك يخشى رجعتي وانحرافيا

دعوتك ملَْء النفس ألا تردَّه ... مغيظاً وألاّ تستعيد سؤاليا!!

ويشفع لي أني أتيتك عاتباً ... وأن لي العُبْتى وأجر انطوائيا!

وهذا رجائي في حماك وهبتُه ... لعدلك حتى تستجيب دعائيا!! وحاشاك أن أرضى مع النفس مذهباً ... بغير يقين منك يهدي شعاعيا!

كفاني أوهاماً فهب لي تميمة ... بها أتَّقي نفسي وشرَّ ذكائيا!!

وبارك فجاج الأرض إلا مواضعاً ... شربن دموعي أو شهدن عِثاريا

تناسيتها لولا حديث أهاجه ... تلفت أشواقي وخوف ارتداديا

وجدَّد لي همس الرحيل مكارها ... تولَّى شجاها والجراح كما هيا

وأيامي اللاتي ذهبن وعالماً ... دفنت به عهدَ الصِّبَى وشبابيا

وأودعته سرا حراما ولم أزَلْ ... أعود فأبكيه دموعاً غوالياً

لك الأمر. هذا من يديك عدالة ... وهذا قليل في مقام اتصاليا

أتيتك والحق الصريح يمدُّني ... إليك ولحن البشر ملءُ فؤاديا

وحولي من عرش الجمال ملائك ... ترف أزاهيراً وتسري أغانيا

وفي النفس فجر من يقين وموكب ... من الخير يحدوه إليك ولائيا

وفيها رجاءٌ فاض منك جلاله ... وآفاق نور يستحيها ضيائيا

وأحببت حتى أسكرتني مودَّتي ... وذاب يميني رحمة وشماليا!!

وهامت بآلام الحياة وسائلي ... وفاضت على ما ليس مني هِباتيا

وأرسلت أنسامي عبيراً وبهجة ... لتنفح أشواك الرُّبى والأفاعيا!!

وآمنت حتى كاد يذهب خاطري ... وتصعد أنفاسا إليك حياتيا!

ولم يبق حرف منك إلا أسرَّه ... ضميري وأبدَته إليك سماتيا!!

وزُرْتُك ألحاناً ورَجْعَ مواهب ... وأشهدت سمع الدهر فَيْضَ انسيابيا

لك الأمر آفاق تراءت لخاطري ... وعادوني منها دبيب شكاتيا!

وذكرني بشرُ السماء منازلا ... أتيتك منها عابس الوجه داميا

أُقلِّب أوهامي يميناً ويسرة ... وأرفع آمالا إليك روانيا!!

ينازعني ماض شرقت بعذبه ... وراودت فيه ما أشاب النواصيا

إذا طاف منه حول نفسي طائف ... ذكرت زماني والسنين الخواليا

هناك وفي أرض عليها ملاعبي ... وأطياف آبائي ولغْوُ دياريا

وفيها تَعِلاَّتي وراح مشاربي ... وزلات أهوائي ودمع متابيا وأحلامي الموتى وذات مواجعي ... وأطلال مأساتي ورجع بلائيا

على وطن أفنى شعوري هواجساً ... وألبسني ثوب الشبيبة باليا!!

ولم يرع لي حق الحياة بأرضه ... ولم يرع آلامي له ووفائيا!!

بعدلك لا تمنح مشارق نوره ... حياتي ولا تمنح ثراه رفانيا!!!

لك الأمر. ألهاني حديث أعاده ... عليك ضميري واستحاه لسانيا!!

وأسرفت في ذكر المساء ولم اكن ... لأسرف لولا رجفة من صباحيا

وعذْرِيَ أن الكأس فوق مواهبي ... وأن مقام الحب يشجي المآسيا!

وأن تباشير الصباح تنفست ... وفاح شذاها واستنار ضلاليا!

ولاحت على وجه السماء بشائر ... ولاحت أغاريدي ولاحت ظلاليا

وطاف ضيائي بالمواكب رحمة ... لمن ذاق أيامي وذاق عذابيا

أرد جراحاتي عليهم مسرة ... ونار جحيمي عزة وتساميا

وأنثر أشواكي عليها أزاهراً ... وألوان يأسي حكمة وأمانيا

وأمنح أرض الظامئين موارداً ... تفجر فيهم نشوتي وسلاميا

رجاءً وإيماناً وفيض محبة ... وتفتح للدنيا كنوز انفراديا!!

بعدلك مالي بعد ذلك غاية ... من العيش إلا أن تصون اتجاهيا

لك الأمر. نادت بالرحيل خواطري ... وهبت على نفسي رياح اغترابيا

وذكَّرتها أن الشعاب جديدة ... وأن عليها من سناك هواديا!

وأن شعابَ الأمس واجهتُ غَيْبها ... على غير إيمان فكانت مهاويا!!

هي الأرض تبلوني لتبلو خطبها ... على نور إدراكي وضوء نفاذيا!!

لك الأمر. زلات الشعور تردُّني ... إلى الظن والأيغال فيما أماميا!

ضميران. . هذا ملء نفسي غناؤه ... وذاك يداري ظنَّه في غنائيا!!

لك الأمر. مالي في وداعك باهتاً ... ومالي أخطو شاحب النفس نائيا

لك الأمر. ليست للجديد روائح ... وليس لهذا الدهر لون ولا ليا

لك الأمر. لاحت من بعيد مذاهبي ... وآذن حاديها وآن ارتحاليا!!

ورفت عليها من سناك مآثر ... ورفت عليها غايتي وصلاتيا تنسمت أمواج الرحيل وأشرقت ... عليّ أمانيه فبارك شراعيا!!

(الزقازيق - كفر الحمام)

محمد العلائي