مجلة الرسالة/العدد 705/هجرة الرسول والطبع العربي
مجلة الرسالة/العدد 705/هجرة الرسول والطبع العربي
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب
زود الله الشعب العربي المجيد بصفتين كريمتين لعلهما لم يتوفرا في أي شعب آخر بمقدار توافرهما لديه: إحداهما شدة التعلق بالوطن الأصلي؛ والأخرى شدة الميل إلى التنقل والهجرة، وشاءت قدرة البارئ الحكيم - وقد كرم هذا الشعب، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا، وخصه في سلم الرقي الاجتماعي واللغوي بأمور تعد من قبيل المعجزات - أن يخصه بمعجزة أخرى في ميوله النفسية، فزوده بهذين الميلين المتضادين المتنافرين (التعلق بالوطن والميل إلى الهجرة)، ولكنه ألف بينهما في نفوس أفراده، فأصبحا بنعمته منسجمين تمام الانسجام، يشد كلاهما أزر الآخر ويكمل نقصه ويخفف من غلوائه.
فما كان العربي لتنسيه هجرته حقوق وطنه الأول، ولا لتنال من مكانته عنده، أو تنقص من حبه له أو حنينه إليه. وما كان تعلقه بوطنه الأول ليحول بينه وبين الهجرة منه إذا كان في هجرته رفع لشأن بلاده، أو توسيع لرقعة ملكها، أو مد لنفوذها وسلطانها، أو تخفيف من أعبائها، أو دفاع عن مذهب يقتنع به، أو فرار من ضيم أصابه، أو ابتغاء للرزق، أو سعي لبغية المكارم والمجد. وفي هذا يقول الشنفري شاعرهم الجاهلي.
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ ... سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
ويقول أدباء العرب أن أقذع ذم وجه إلى عربي هو قول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر ويناضل عن بغيض بن لأي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أما حبهم لأوطانهم الأولى، وشدة حنينهم إليها، فلا أدل على ذلك من حنين الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة بعد هجرته منها، مع أن أهلها قد أخرجوه منها وساموه وشيعته سوء العذاب، ومع أنه قد كان في هجرته منها نشر للإسلام وتوطيد لدعائمه. فقد روى أن أصيلا الغفاري قدم المدينة على رسول الله ﷺ من مكة قبل أن يضرب الحجاب؛ فقالت له عائشة: (كيف تركت مكة؟)؛ فقال: (اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأحجن ثمامها، واغدق إذخرها، وأنشر سلمها)؛ فقال رسول اللهﷺ، وقد أثار هذا حنينه إلى وطنه الأصلي: (حسبك يا أصيل لا تحزني) وفي رواية: (إيهاً يا أصيل! تدع القلوب تقر) وعن أبن عباس رضى الله عنهما قال، قال رسول اللهﷺ في مكة: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك). وعن الضحاك رضى الله عنه أنه قال: (لما خرج النبي ﷺ من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله تعالى عليه: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (قال أي إلى مكة) - ولا أدل كذلك على حب العرب لأوطانهم الأولى وشدة حنينهم إليها من عنايتهم في وثنيتهم بالحج إلى مكة، حتى لقد ارتقت هذه الشعيرة لديهم إلى مصاف الفرائض الدينية الهامة. وما الحج في نشأته الأولى إلا مظهر من مظاهر حنين العرب إلى وطنهم الأول ومنشأ أجدادهم الأولين وهو الحجاز. فمن المحقق أن الحجاز كان المهد الأصلي للشعب العربي، ومنه انتشر هذا الشعب الكريم في جميع أنحاء الجزيرة العربية وغيرها من بلاد العالم.
وأما شدة ميلهم إلى الهجرة كلما دعاهم إلى ذلك داع جدي فلا أدل عليه من هجراتهم المتوالية في فجر تاريخهم وفي عصور جاهليتهم وإسلامهم.
فمن الحجاز واليمن اتجهت في فجر التاريخ موجات الهجرة العربية إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية وإلى غيرها من بلاد العالم. - فمن هذا القسم نزح الساميون إلى العراق وغزوا بلاد السومريين وغلبوهم على أمرهم وأنشئوا مملكة بابل - ومن هذا القسم كذلك نزح الساميون إلى الشمال فتكونت من سلالاتهم الشعوب التي عرفت باسم الشعوب الكنعانية وهي التي تفرع منها الفنيقيون والعبريون - ومن هذا القسم كذلك هاجر بعض قبائل الإسماعيليين (أي أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) إلى خليج العقبة حيث تكون من سلالاتهم الشعب النبطي وهو مخترع الخط النبطي المتصل الحروف الذي انشعب منه خطنا العربي الحالي. - ومن هذا القسم كذلك هاجر عرب الرعاة أو الهكسوس إلى مصر حيث أنشئوا ملكاً كبيراً ونشروا حضارتهم العربية على ضفاف النيل. - ومن هذا القسم كذلك هاجر في أقدم العصور قبائل عربية إلى الهند والحبشة والسودان وشمال أفريقيا وشرقها. - ومن هذا القسم كذلك هاجر في أوائل التاريخ الميلادي بعض القبائل المعدية (أولاد معد) التي كانت تقطن الحجاز إلى الشام وبعض القبائل القحطانية التي كان موطنها اليمن إلى الشمال والشرق. فنزلت منها غسان بالشام والأوس والخزرج بالمدينة (وهاتان القبيلتان الأخيرتان قحطانيتان هاجرتا من اليمن إلى المدينة وإليهما هاجر الرسول عليه السلام، وفيهما تكون الأنصار رحمة الله عليهم ورضوانه).
وكذلك كان شأن العرب في عصورهم التاريخية السابقة للإسلام مباشرة، والتي اشتهرت باسم العهد الجاهلي. وقد جمعت لنا كتب الأدب طائفة كبيرة من أخبار هجراتهم وتنقلاتهم إلى مختلف أرجاء الجزيرة العربية وإلى غيرها من بلاد العالم؛ حتى أننا لا نكاد نجد قبيلة استقرت في موطنها الأصلي. وقد ساعد على تتابع هجراتهم وكثرة تنقلاتهم عدم خصوبة أرضهم، واشتغال معظمهم بمهنة الرعي، وسعيهم وراء الكلأ والماء. وساعد على ذلك أيضاً كثرة حروبهم الأهلية التي لم يكد يخمد لها سعير في هذه العصور؛ فكانت القبيلة التي تكون في موطنها عرضة للعدوان أو تغلب على أمرها تنزح في الغالب عن ديارها؛ كما حدث لمعظم بطون تغلب بعد أن هزمتها بكر في حرب البسوس.
أما هجراتهم بعد الإسلام فحدث عنها ولا حرج؛ فقد انتشروا في جميع بلاد العالم المتحضر في ذلك العصر من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، ومن أقاصي السودان جنوباً إلى آسيا الصغرى والبلقان وفرنسا وإسبانيا شمالاً، فنشروا في هذه البلاد دينهم وأخلاقهم وتقاليدهم ودمهم العربي. وأسسوا بنيان ملكهم فيها على تقوى من الله ورضوان. وفي هذا يقول شاعرهم الرحالة أبو دلف (وهو خزرجي من سلالة الأنصار الكرام).
فنحن الناس كل الن ... اس في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق ... من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك ... ل أرض خيلنا تسري
إذا ضاق بنا قطر ... نَزُل عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها ... من الإسلام والكفر
فلم يكن إذن حادث هجرة الرسول عليه السلام وجماعة من أصحابه من مكة إلى المدينة غربياً على الطبع العربي؛ بل كان هذا الطبع يحتمه تحتيماً في مثل الظروف التي تمت فيها هذه الهجرة، كما حتم من قبل ذلك في ظروف مشبهة لهذه الظروف هجرة نفر إلى بلاد الحبشة وإلى المدينة نفسها من السابقين الأولين إلى الإسلام. فقد أشرنا فيما سبق إلى أن العربي كان يندفع بطبعه إلى الهجرة من بلاده إذا دعاه إلى ذلك داع من مصلحة عامة أو خاصة أو أصابه ضيم بين عشيرته. وهذه الأسباب جميعاً كانت متوافرة في هجرة الرسول عليه السلام.
ومع أن أهل المدينة كانوا يتألفون حينئذ من قبائل قحطانية تختلف في أصولها الشعبية عن القبائل العدنانية التي ينتمي إليها الرسول عليه السلام، فقد آثر الهجرة إليهم دون غيرهم لأسباب كثير أهمها في نظري ثلاثة أسباب:
(أحدها) أن أخوال أبيه عليه السلام كانوا قحطانيين من أهل المدينة. فكان طبيعياً، حسب مألوف العرب، وقد خذله عصبته وساموه سوء العذاب ووقفوا في سبيل دعوته، أن يلجأ إلى بعض فروع خئولته يلتمس منهم العون والحمامة. فالخئولة أقرب الناس إلى العربي بعد عمومته. بل يظهر أن العرب في مرحلة ما من أقدم مراحل تاريخهم كانت لحمة نسبهم بخئولتهم أوثق من لحمة نسبهم بعمومتهم.
(وثانيها) أنه قد آمن به قبل هجرته عدد كبير من أهل المدينة وبايعوه على الدفاع عن دينه. فكان طبيعياً أن يؤثرهم على غيرهم بهجرته ويتخذ منهم أنصاراً لنشر رسالته. (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
(وثالثها) أن أهل المدينة وضواحيها كانوا أكثر استعداداً لقبول فكرة التوحيد التي جاء بها الدين الإسلامي من بقية أهل الحجاز. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كثرة احتكاكهم بالموحدين من اليهود والنصارى الذين كانت تتألف منهم حينئذ جاليات كبيرة عربية وغير عربية في المدينة نفسها وفيما يتاخمها من مواطن.
صحيح أنه قد ظهرت بمكة قبيل الإسلام مدرسة الحنفيين الموحدين الذين انحرفوا عن الشرك والوثنية (ومن أجل ذلك سموا بالحنفيين أي المنحرفين) وعبدوا الله وحده على ملة إبراهيم وأقاموا الصلاة وصاموا رمضان وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله نفسه قبل أن يبعث رسولا، كما كأن منهم نفر من قريش، ولكن أعضاء هذه المدرسة كانوا يتألفون من بعض النابهين والمتفلسفين من سكان مكة، أما دهماء الشعب نفسه فكانت شديدة التعلق بدينها الوثني، سادرة في ظلالها القديم، تقتفي آثار آبائها فيما كانوا يعبدون. وهذا هو عكس ما كان عليه الأمر في المدينة. فمع أنه لم ينشأ في الأوس والخزرج مدرسة متفلسفة كمدرسة الحنفيين بمكة، فإن السواد الأعظم من الشعب نفسه كان مهيئاً تهيئة كبيرة لعقيدة التوحيد.
علي عبد الواحد وافي