مجلة الرسالة/العدد 703/العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 703/العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1946



للأستاذ عبد المنعم ماجد

لم تكن هناك فروق تميز أهل البيت من بني العباس وبني علىّ، حتى وقت قيام الدولة الأموية على يد معاوية بن أبي سفيان الذي جمع في يده سلطة قوية وحوّل الخلافة من بساطتها وديمقراطيتها إلى نوع من الأرستقراطية المتعجرفة المتعصبة، لذلك أطلق العلويون على أنفسهم لقب الشيعة وعُرف أعداؤهم باسم بني أمية. أما أسم أهل السنة فلم يكن له وجود ولم يظهر إلا بعد قيام الدولة العباسية. وبالرغم من أن العباسيين لم يكونوا قد طالبوا بالخلافة لأنفسهم أيام الخلفاء الراشدين إلا أنه أثناء قيام الدولة الأموية في أواخر عهدها التجئوا إلى الدعوة للرضا من آل محمد، أي من يقع عليه اختيار آل البيت يصير هو الخليفة. وقد وجدت هذه الدعوة أذناً صاغية وقبولا من الشيعة، وذلك لأنهم كانوا يأملون أن تؤول الدعوة إلى بني علىّ، وذلك لأن علياً كان أفضل من العباس باعتراف معظم أهل البيت لأنه زوج بنت رسول الله ولسيرته وسبقه في الإسلام. أما العباسفلم تكن له سابقة ولا سيرة. . . ثم بجانب هذا لم يكن العباس ولا ابنه عبد الله قد طالبوا بالخلافة. . . ولكن لما نجحت الدعوة التي بشر بها أبو مسلم الخرساني في خراسان، وانتهت بقلب الخلافة الأموية والإجهاز عليها في موقعة الزاب حولوا الخلافة لأنفسهم وأقصوا الشيعة عنها وادعوا أن العم أحق بالخلافة من ابن العم، ولذلك كانوا يرون أي فتق يجئ من غير ناحية العلويين سهل الرتق. أما هؤلاء أبناء عليّ فهم الخصم الألد الذي يخاف جانبه ويُخشى بأسه، ولذلك طاردوهم، وشردوهم، وضيقوا عليهم الخناق.

إزاء هذا التعنت الذي ضاقوا به ذرعاً أخذ العلويون من أبناء فاطمة يدعون لأنفسهم سراً؛ ليستردوا هذا الحق المغصوب ويقضوا على هؤلاء الذين أقصوهم عن حقهم الشرعي في الخلافة، فلما ضاقت بهم وبدعوتهم أرض المشرق اتجهوا للمغرب حيث كان مركز الخلافة ضعيفاً، ونجحوا في تأسيس دولة هناك، وكان هذا مبدأ الاحتكاك الفعلي بينهم وبين العباسيين، وأول ضربة توجه للخلافة العباسية في جزء من أملاكها في أفريقيا من أبناء فاطمة بالذات. . ولن تكون الضربة الأخيرة. . .!! لأن غرضهم الأساسي كان القضاء على الخلافة العباسية التي اغتصبت ملكهم وشردتهم وطاردتهم. هذا فضلا عن رغبت نشر دعوتهم ونظرياتهم في الدين. لذلك شهر المعز لدين الله الفاطمي سيفه في وجه العباسيين، وطعن الخلافة في مصر والشام والحجاز واليمن، ومنع الناس في هذه الأرجاء لبس السواد شعار العباسيين، وخطب له ولحلفائه على المنابر، وارتفع صوت المؤذن منادياً: (حيّ على خير العمل)، وهو آذان خاص بالفاطميين كما ظهر بطبيعة الحال كفاح وتنافس وحزازات بين الدولتين شأن كل قوتين تعتقد كل منهما أنها أحق بالخلافة والسلطان دون الأخرى. وسنلخص العلاقة بين هاتين القوتين المتزاحمتين في ثلاث مراحل:

الأولى - تبدأ حيث عاصرت فيها الدولة الفاطمية عظماء بني بويه وهم المتربعون في الحكم في بغداد والمتغلبون على الخلافة العباسية فيها.

الثانية - التي عاصرت فيها الدولة الفاطمية البويهيين إبان ضعفهم.

الثالثة - التي عاصرت فيها الدولة الفاطمية الدولة السلجوقية التي انتزعت الحكم من الدولة البويهية.

الفترة الأولى:

تبدأ من سنة 258هـ وهي السنة التي دخل فيها الفواطم مصر إلى سنة 372هـ أي إلى موت عضد الدولة البويهي آخر عظماء البويهيين. . استولى الفاطميون على مصر والشام ومست حدود الدولة الفاطمية أملاك العباسيين التي كانت آنذاك تحت رحمة البويهيين وهم الذين ملكوا زمام الدولة وصارت بيدهم مقاليد الأمور منذ سنة 334هـ أو سنة 945م. فاسمهم يقرن باسم الخليفة العباسي في خطب المساجد، وتضرب الدفوف أمام القصر الملكي البويهي في الضُحى والعشى، وهذا تكريم لم يكن يحظى به غير الخليفة من قبل، والبويهيون متشيعون كالفاطميين بل من الشيعة الغالية التي لا تعترف بالخلافة العباسية رغم سيطرتها عليها. بل وتعتبرها مغتصبة من العلويين الذين هم أحق بها في نظرهم، ولذلك في مناسبات عدة يعملون دائماً على إذلال الخليفة العباسي وإشعاره ببطلان خلافته؛ فمثلا الخليفة القاهر عُزل والمستكنى سُمل والطائع أهين، والمطبع عزل حتى قال ت. و. أرنولد في كتابه الخلافة:

ومعنى هذا أن الفواطم حينما امتد ملكهم شرقاً وجدوا تشيعاً في بغداد، ومركز الخلافة والأراضي الخاضعة لها في العراق والمشرق، وأن صاحب هذا التشريع هو صاحب الأمر والنهي، وكان هذا بطبيعة الحال من شأنه أن يقرب بين الفواطم في مصر والمسيطرين على بغداد أصحاب الأمر والنهي، وأن يوجد نوعاً من العلاقات الحسنه بينهما، وإن كانت العلاقة الطيبة تظهر من ناحية البويهيين أكثر جلاء من ظهورها من ناحية الفواطم، وكان هذا طبيعياً لأن الخليفة الفاطمي كان يُعد في نظرهم إمامهم والرمز الروحي لهم، وهو من النبعة الطاهرة التي يدينون بنحلتهم لها. نلمس هذه الروح والميل الصريح نحو الفواطم مما حاوله معز الدولة البويهي بالكشف عما في قلبه بالبيعة للخليفة الفاطمي لولا أن أشار عليه أصحاب النظرة البعيدة من أتباعه بتركه هذا الأمر خوفا على سلطانه وسلطانهم، ونفوذه ونفوذهم فالخوف هو الحائل الوحيد في سبيل إعلان الفاطميين أئمة عليهم؛ ومع ذلك فالخضوع الروحي للفواطم كان يعلمه الملأ في كل مكان وتحت سمع الخلافة السنية وبصرها؛ فمبدأ الاحتفاظ بسطوتهم في بغداد لا يتنافى أبداً مع إظهار ولائهم للفاطميين، ولعل العلاقة الرسمية لم تكن من القوة والصفاء مثلما كانت في عهد عضد الدولة البويهي. وقد احتفظ لنا أبو المحاسن برسالة من العزيز الفاطمي رداً على رسالة عضد الدولة فيها يشكره على ولاءه وخضوعه، وقد انتهز عضد الدولة هذه الفرصة ووصول مندوب العزيز بهذا المكتوب لُيذل الخلافة السُّنية فأمر المطيع وهو الخليفة السني آنذاك بالخروج لاستقباله. بل تمادى عضد الدولة وقرأ الرسالة مع ما تحمله من خضوع سافر وولاء ظاهر للفواطم في حضرته حتى دهش أبو المحاسن وتعجب، وإن كان ليس هناك ما يدعو للعجب لاجتماع البويهيين والفواطم في رمز واحد وإمام واحد هو (عليّ). ويجعل بنا أن نعرض بعض ما جاء في هذه الرسالة ففيها (,. . إن رسولك وصل إلى حضرة أمير المؤمنين مع الرسول المنفذ إليك فأدى ما تحمله من إخلاصك في ولاء أمير المؤمنين ومودتك ومعرفتك بحق إمامته ومحبتك لآبائه الطائعين الهادين المهديين. . ثم ذكر كلاماً طويلا في المعنى). أما بقية الكتاب فيستدل منها على أن العلاقة لم تقف عند تبادل عبارات المودة والصداقة بل تعدتها إلى تبادل الرأي والمشورة فيما يحيط بهما في العالم الإسلامي من خطر خارجي.

هذه هي مظاهر العلاقة الرسمية بين بغداد والقاهرة. . وهناك مظاهر أخرى لها تتمثل في اشتراك أهل مصر من الشيعة وبغداد في بعض الأعياد الدينية مثل النوح في أيام عاشوراء، وهذه الظاهرة استمرت منذ أن استقر البويهيون في العراق. . .

هذه هي مظاهر التفاهم بين بغداد والقاهرة، والتي كانت نتيجة للرابطة التي بينهما كما ذكرت فخنقت هذه المعاملة الحسنة كما أنها هي التي منعت كلا من الفاطميين والبويهيين على أن يقضى الواحد منهما على الآخر، وذلك بالرغم من أن غرض الفواطم الرئيسي كان تدمير العباسيين المغتصبين للخلافة، ولكنهم لما وجدوا تشيعاً في بغداد مالكا لها أحجموا عن اتخاذ هذه الخطوة العدائية. ولكن مع هذا لم تكن العلاقة صافية تماماً في هذه الفترة، لأن وجود قوتين متواجهتين يؤدي حتما إلى نوع من التنافس قد يتعدى إلى حوادث أخرى وبخاصة في أول هذه الفترة، ولكن رغم تقلب الحوادث سرعان ما تعود الأمور إلى مجراها بحكم اتفاقهم في المبدأ؛ فمثلا نرى عز الدولة باختيار قد أمدَّ القرامطة بالمال والسلاح عند ما تقدم الفواطم وكادت نارهم تلفح وجه العراق وقد كان مدفوعاً لاتخاذ هذه الخطوة خوفا على ملكة، ولكن سرعان ما عادت الحال إلى الصفاء بعد ذلك. إذ ظهرت بأجلى صورها في عهد معز الدولة وعضد الدولة.

الفترة الثانية:

تأتي هذه الفترة بعد عضد الدولة إلى نهاية الدولة البويهية. كان طبيعياً، العلاقة الحسنة بين بغداد والقاهرة والتي استمرت على أتم صفاء، وبلغت أقصاها في عهد معز الدولة، وعضد الدولة آلا تستمر إلى الأبد، لأن السلطان البويهي الذي كان عاملا مهماً على التفاهم بدأ يضعف، أصبح الخلفاء العباسيون قادرين على التدخل في أمور الدولة والسياسة وانتهزوا فرصة هذا الضعف لإظهار ما يكون من عواطف البُغض والحقد للدولة الفاطمية. لذلك يجب أن نعتبر أن العلاقة في هذه الفترة على نقيض الفترة السابقة إذ اتخذت مظهراً آخر من القسوة والكفاح وظهرت نيات الطرفين واضحة بالبغضاء. ولعل أول مظهر لاسترداد الخلفاء العباسيين سلطانهم المفقود هو منعهم (كما يذكر أبو المحاسن) الرافضة من أهل الكرخ والطاق من النوح في يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح، ولكن هذا التحرر نوعاً من قيود البويهيين ليُعنى أن الخليفة العباسي قد أُطلقت يده أو أن في استطاعته أن يعمل شيئاً إيجابياً فهذا من المحال. لأن الخلافة العباسية كانت في أخريات أيامها عاجزة عن كل هجوم إيجابي على من قاسموهم سلطانهم وإن كانت لا تعجز عن الهجوم بسلاح آخر هو سلاح الكلام، والطعن في نسبهم إلى فاطمة، خاصة أن لدولة تأسست على هذا الإدعاء، وكانت دعوتهم قبل أن ينشرها داعيهم أبو عبد الله الشيعي سرية، وذلك خوفا على أئمتهم المستورين من ولاة العباسيين في ذلك الوقت فساعد هذا الجو على الطعن في الظلام، ولذلك صدر محضران الأول في سنة 402هـ في عهد القادر بالله المعاصر للخليفة الفاطمي المستنصر وذلك بعد مضي قرن على إنشاء الدولة الفاطمية، وقد قرأت هذه المحاضر المملوءة بالقدح في نسب الفاطميين ونسْبهم إلى مجوس، في المساجد وأعلنت للناس. ولا يعنى هذا التجريح في نسب الفاطميين بعد قرن أنه لم يكن موجوداً قبل ذلك أي قبل المحاضر فقد أيد هذا الطعن في نسبهم بعض المؤرخين أمثال ابن خلدون، وأما سبب ظهور هذا الطعن بعد مضي قرن فيتحصل كما يظهر للأستاذ الأمير مأمور في كتابة:

1 - الكراهية المتأصلة في العباسية من نسل علي وفاطمة.

2 - المرارة من مقاسمتهم أملاكهم وذلك حينما هددوا سلطانهم.

3 - الحقد الذي تولد من منافسة القاهرة قاعدة الفواطم لبغداد قاعدة العباسيين كمركز للعلم والثقافة والفن والأدب الإسلامي.

4 - الخوف من امتداد سلطانهم لما بقي في أيديهم.

5 - الفرصة مواتية لاختلاف العلويين وعدم تضامنهم. فهذه هي الاثنا عشرية والفواطم والأدارسة.

6 - إمكان التأثير على بعض العلويين وضمهم لجانبهم.

7 - كذلك البويهيون لا يمانعون؛ لأنه قد نالهم الضعف فقدروا الخطر الفاطمي حقَّ قدره.

8 - إمكان إثارة العناصر السنية التي توجد في الأجزاء التي امتلكها الفاطميون.

9 - إعلان هذه المحاضر في مثل هذه الظروف يضعف نفوذ الفواطم، ومن ناحية ثانية فهو لا ضرر منه على العباسيين.

10 - ملاءمة الوقت لوجود خليفة مكروه وهو الحاكم.

على أية حال كتب المحضران، وحرص الحليفتان على أن يوقع عليهما كبار العلويين والقضاة والفقهاء وذلك حتى يحوز الطعن بعض الأهمية ولا يتسرب الشك إلى الناس ويذكر مأمور في كتابه رأى بعض المؤرخين في المحاضر؛ فمثلا قال جرايف في دائرة المعارف الإسلامية (لم يظهر الشك في نسب الفاطميين إلا في وقت متأخر، وكما يظهر بوضوح أراد العباسيون اتخاذ أي وسيلة شرعية للقضاء على منافسيهم الخطرين).

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم ماجد