مجلة الرسالة/العدد 703/إلى وزارة المعارف:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 703/إلى وزارة المعارف:

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1946



وعلى هذا فنحن ندور. . .

للأستاذ كامل السيد شاهين

والظاهرة التي تتجلى في وزارة المعارف بوضوح وقوة، أنها لا تنظر إلى الدراسات التي تجد في مصر نظرة المستفيد، فقد قامت في مصر ثورة قوية على البلاغة ودراساتها العتيقة، حمل لواءها أول الأمر الدكتور طه حسين ثم الأستاذ أحمد أمين، ورسما للنقد الأدبي منهجاً إن لم يكن واضحاً كل الوضوح، فهو - على أية حال - يصح أن يتخذ بذرة لطرق الدراسة التي تصحح الذوق وتقوم الأدب. ورسم الأستاذ الزيات رسماً صحيحاً لطريقة تناول الدراسات الأدبية، ولو أنه لم يعرض للناحية المنهجية، ولكن وزارة المعارف لم تعبأ بهذه الصيحات، وكأنها لا تعنيها هذه الثورة على تلك الدراسات القديمة العقيمة، فليبق تلاميذ المدارس حيث هم - يتلون سورة الاستعارة التصريحية، والمكنية، ويخرجون المجاز المرسل والعقلي، دون أن يصححوا ذوقاً، أو يفهموا نقداً. وآية أخرى على غفلة الوزارة عن الدراسات العلمية أن الأستاذ إبراهيم مصطفى كتب كتابه (إحياء النحو) وفيه ثورة قوية على العوامل، وتيسير كبير على الدارسين، ولكن الوزارة مضت على غلوائها سادرة لا تتلفت ولا تنظر، ولا تقف لإهابه مهيب، ولا تصيخ لصوت داع!.

وها هو ذا المجمع اللغوي يعزم عزمته لتيسير الكتابة، وتسهيل القراءة، ويجمع اللجان ويناقش الآراء ثم يكتب في ذلك الكتب واسعة البسط، وتلقى المحاضرات طويلة الذيل، وتفحص الآراء في المجلات الأدبية والصحف السيارة، ووزارة المعارف مغمضة العين، سائرة في طريقها المعهودة ولو كانت ممتلئة بالأشواك والوحول.

ذكرت ذلك كله عندما أمسكت بكتاب المطالعة المقرر على آخر سنة في المرحلة الابتدائية فوجدته كله مضبوطاً ضبطاً تاماً، على زعم أن في هذا تسهيلاً للقراءة، وإفادة للقارئ ولكن الممعن لا يجد من هذا التسهيل شيئاً، وأكاد أزعم أن فيه إرباكاً له وتشويشاً عليه، ولو أن الكاتب - سهل الله له - ضبط ما هو بحاجة إلى الضبط، ولم يعن نفسه بالضبط التام لكان في ذلك الخير كل الخير. خذ مثلا جملة: (حضارة قدماء المصريين) تجد أن الذي يحتاج إلى ضبط هو (تاء) حضارة (همزة) قدماء، (ميم) المصريين، وليس وراء ذلك ما يد إلى تعنيه الكاتب والطابع قد نقول: إنه محتمل، ولكن - لسوء الحظ - نجد في هذا الإمعان في الضبط مساءة إلى القارئ نفسه، ومشغلة له عن القراءة، فهو لا يستطيع أن يتابع الحروف والضبوط، والمعاني في وقت معاً.

ولو أن للوزارة عيناً ترى وأذناً تعي، لفقهت ما قاله الأستاذ الجارم بك، في تقريره بشأن الضبط فهو يقرر أن القارئ للكلام التام الضبط (يقطع أوصال العبارات، لأنه مشغول بتحديد البصر، وإعمال الفكر، تحسساً لضبط ما يقرأ قبل أن يقرأ حتى يستطيع أن يقرأ).

ولو عنيت بأبنائها لرحمتهم من تلك حال، حال المطالعة في كتابها المضبوط التي يقول فيها عبد العزيز باشا فهمي: (فتراه كالمجذوب المتوجد، أو المكروب المتجلد، جاحظ العينين تارة، أخرزهما أو أخوصهما تارة أخرى، مضروب اللسان باللعثمة أو الغمغمة أو الفأفأة أو غيرها من ضروب الارتتاج).

أفلا يجدر بنا - بعد - أن نقتصر على الضروري في الضبط، حتى نخلص بالتلميذ في بعض الجرائد بعد ضبط ما تلجئ الضرورة إلى ضبطه فكنت أجدهم في القراءة أسرع، وعلى الفهم أقدر، إذ لا يعتور ألسنتهم تلك العقل العاقلة التي تحبسها وتلويها وتحول بينها وبين الانطلاق والإسراع.

وإذن، فما كان أجدر أن يشتمل كتاب المطالعة على موضوعات قصيرة يسيرة خالية من الشكل سهلة حتى يمكن التلميذ أداؤها في ثقة واطمئنان، وتكون محكا لاستفادته في قواعد اللغة، وامتحاناً لقدرته على ضبط أواخر الكلمات ومتونها.

فإذا جاوزنا الضبط، وذهبنا نفتش موضوعات الكتاب وجدناها شكولا وأنماطاً، مجموعة من كل ما تباعد وتناءى وازور ووجدنا الرابط بينها هو التنافر والتناكر، فمكة المكرمة، تجاور الموز وفائدته، وسياسة الرعية تتاخم الورق، وقناة السويس تصاحب الحية والأخوان، والإمام علي يرافق البريد في مصر. فهذا الخلط الذي لا يرعى للقربى ذماماً، محال من المحال أن يكون هذا الترابط الذي ننشده وتنشده المعلومات لتتداعى وتتماسك، وأيا ما كان فالكتاب من حيث موضوعاته يعتبر ثورة قوية ناجحة على طريقة المشروع التي ترمى إلى تأليف المعلومات واجتذاب بعضها إلى بعض! ولو أن ثمت لفته يسيرة لأمكن أن يقوم الكتاب على وحدات متناسقة متآخذة، فإذا جئنا بموضوع مثل مصر، جاز أن نضم إليه: نهر النيل - قناة السويس - حضارة قدماء المصريين - مصر في عصر فاروق - واجب المصري - مصطفى كامل - سعد زغلول. الخ فنكون بذلك وحدة وثيقة خالية من التكرير المربك بعيدة عن التشتيت المزري.

وأشنع من هذا وأبشع أن الكتاب - الذي يعاد طبعه كل عام - قد خلا من كل ما يتصل بالأحداث الجديدة التي شهدتها التلاميذ وسرت في عروقهم، واستشرفوا للقراءة عنها والحديث فيها - كالحرب الأخيرة، وغلاء الأسعار، وجشع التجار، واختراع القنبلة الذرية، ولؤم الاستعمار، وخطر الصهيونية، ونكبة فلسطين، فكل هذا يشوق التلميذ مطالعته وحرام أن نقتل هذا الشوق في نفس التلميذ ونرميه بموضوعات جامدة صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الأحداث.

ومن المضحك المبكي أن تقرأ في القطعة الثانية من الكتاب فتجده، يتمدح بالمعاهدة معاهدة سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف، وقد طواها الزمن فيما طوى، وأطفأ لمعانها، وأسقط شهابها، وبرئ منها أهلها، ونادت مصر كلها بسقوطها، وطالبت بإلغائها، ويتمجد بدخول مصر في عصبة الأمم، وقد أصبحت العصبة اليوم في ذمة التاريخ، وذهبت غير مذكورة ولا مشكورة.

ومما ينبغي الالتفات إليه بعين يقظى أن المدرسين يعمدون إلى كتاب المطالعة فيختارون منه قطعا شعرية يحفظها التلاميذ، وقد خبرت هذه القطع فوجدت كثيراً منها خاليا من الروح الشعرية والجمال الفني، ميتا مدرجا في كفن بال، وما يصح قط أن يكون من محفوظات ذلك العصر الذي يعج عجاجه بالممتع الرائع من الشعر الحديث المتصل بالأحداث القائمة أو القريبة العهد. خذ مثلا قصيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه، في الحث على السفر:

ما في المقام لذي عقل وذي أدب ... من راحة، فدع الأوطان واغترب

سافر، تجد عوضاً عمن تفارقه ... وانصب، فإن لذيذ العيش في النصب

ابحث عن الروح الشعرية الجميلة بين هذا الرصف المرصوف فلن تجدلها أثراً، بل لن تجد مزية له على الكلام المبتذل، إلا مزية النظم، وهي أهون المزايا. حكم، وإن أردت التجديد فقل: نصائح، لا قيمة لها في وزن التلميذ، وأكاد أكتب: لا قيمة لها في نفسها. فهل بمثل: سافر تجد عوضاً، يلتذ التلميذ، ويجد النشوة والسرور؟ وهل بمثل: فانصب فإن لذيذ العيش في النصب يستفيد فكرة أو عبارة طريقة؟ اللهم لا.

ثم ابحث معي عن كلمة واحدة شعرية في البيتين فلن تجد، وما أكثر ما تجد هذه الطرافة والجدة في قصيدة مثل (العصفور الصغير) للأسمر، و (أنا. .) لإيليا أبى ماضي وغيرهما مما يهز قلب التلميذ، ويثير عواطفه، ويفتح عينه وقلبه للحياة فتحا.

ولست أزعم أن ذلك خاص بالشعر الحديث فالقديم غني حافل ففي رثاء (السلكة) (للسليك) وفي غزل (المنخل اليشكري) وفي تهكمات (ابن الرومي) جمال وإمتاع وشاعرية نابضة قوية ممتنعة على عقول العلماء الذين يقتسرون الشعر اقتسارا، ويعنفون عليه بقوة اللغة، ولا يقودونه بفيض العاطفة، وسلاسة الطبع، وقوة الشاعرية!

ومما يؤسف أن يخصص للمطالعة حصتان قصيرتان لا تقرئان ولا تفيدان، والمطالعة، مادة العربية، تستغل في الثقافة فلابد من المعنى، وفي الإملاء فلابد من تكرير النظر إلى الكلمات الصعبة وفي الإنشاء فلابد من استعادة الجميل من العبارات، وإدخاله مدخلا كريما في مناسبات جديدة، وهيهات أن تتسع الحصتان لذلك كله.

فهذا كتاب المطالعة يا قوم، لا عون فيه على القراءة، ولا انسجام بين موضوعاته ولا تناول لطريف الأحداث، ولا حسن اختيار لقطع الشعر، فماذا بقي؟

لا تبكوا على التلاميذ إذ يكبون في الامتحان، لا تصرخوا ولا تستصرخوا. . .

أيها القوم. . . السم في الدواء!!

كامل السيد شاهين

المدرس بالمدارس الأميرية