مجلة الرسالة/العدد 702/صور من العصر العباسي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 702/صور من العصر العباسي:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1946



أطباء الخلفاء العباسيين

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 1 -

كان أهل جنديسابور يعنون بالطب. وكان لهم حذق بهذه الصناعة وعلم من زمن الأكاسرة. ذلك أن سابور لما تزوج إبنة القيصر فيليبس بعد افتتاحه أنطاكية بنى لها مدينة على شكل قسطنطينية، وهي مدينة جنديسابور ونقلها إليها، فأنتقل معها من كل صنف من أهل بلدها ممن هي محتاجة إليه، ومنهم أطباء أفاضل. فلما أقاموا فيها، بدءوا يعلمون أحداثاً من أهلها، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم، ويتزايدون فيه، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم، حتى برزوا في الفضائل، وصار أناساً يفضلون طريقتهم على اليونانيين والهند، لأنهم أخذوا فضائل كل فرقة فزادوا عليها بما استخرجوه من قبل نفوسهم، فرتبوا لهم دساتير وقوانين وكتباً جمعوا فيها كل حسنة. ولم يزالوا كذلك حتى جاءت الدولة العباسية، فأصبح أهل جنديسابور أطباء للخلافة والخلفاء ما عدا قلائل منهم.

وقد كان هؤلاء الأطباء من أهل جنديسابور ينالون منزلة كبرى من كل مكان. وكان وجودهم في بلد ما سبباً لكساد الأطباء الآخرين. وقد ذكر الجاحظ عن أسد بن جاني الطبيب البغدادي أنه أكسد مرة. فقال له قائل: السنة أوبئة والأمراض فاشية، وأنت عالم، ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة. فمن أين تؤتى في هذا الكساد؟ قال: أما (واحدة) فإني عندهم مسلم، وقد أعتقد القوم قبل أن أطبب، لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب. واسمي (ثانية) أسد. وكان ينبغي أن أكون صليباً ومرايل ويوحنا. . . وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون (أبو عيسى) (وأبو زكريا). . . وعلى رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود. (وأخيراً) لفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جنديسابور.

والحق أن الخلفاء حفلوا بهؤلاء الأطباء. وكانت أسرة بختيشوع ذات مكانة كبرى عندهم، ومنها كان أطباؤهم ووزراؤهم ومنها كان أيضاً الأطباء المحترفون، وأطباء البيمارستانات، ومعلمو الطب والفلسفة.

أول من تقدر بإحضار رأس هذه الأسرة إلى بغداد، هو المنصور. فانه لما بنى مدينة السلام بغداد سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة وكان كلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع بجمعهم، فلما اجتمعوا قال لهم المنصور: أريد من الأطباء في سائر المدن، طبيباً ماهراً. فقالوا: ما في عصرنا أفضل من جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور؛ فهو ماهر في الطب. فأمر المنصور بإحضاره، فأنفذه العامل بجنديسابور إلى حضرة الخلافة بعد ما امتنع عن الخروج، ووصى ولده بختيشوع بالبيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك. واستحصب معه تلميذيه إبراهيم وعيسى. فلما وصل إلى مدينة السلام أمر المنصور بإحضاره. فلما أحضر دعا للمنصور بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره، وأمره بالجلوس، وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون. فقال: قد ظفرت منك يا جورجيس بما كنت أطلب. وخبره بابتداء علته، وكيف جرى أمره منذ ابتداء مرضه. فداواه حتى برئ وعاد إلى الصحة فأنزل في أجمل موضع من دوره، وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل. وأهدى إليه ثلاث جوار روميات حسان مع ثلاثة آلاف دينار. فأنكر جورجيس أمرهن وقال لتلميذه عيسى: يا تلميذ الشيطان! لم أدخلت هؤلاء إلى منزلي؟ ردهن إلى أصحابهن. فأعادهن. فسأله المنصور لم رددت الجواري؟ قال: لا يجوز أن يكون مثل هؤلاء في منزلي لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة، فما دامت المرأة حية فلا نأخذ غيرها، فحسن موقع هذا من الخليفة، وأمر في الوقت أن يدخل جورجيس إلى حظاياه وحرمه بلا إذن، وزاد موضعه عنده.

وظل جورجيس يخدم المنصور حتى مرض سنة اثنتين وخمسين ومائة مرضاً صعباً. وكان المنصور يرسل إليه في كل يوم يتعرف خبره. فلما أشتد مرضه أمر بحمله على سرير إلى دار العامة وخرج ماشياً إليه وتعرف خبره وسأله عن حاله. فخبره جورجيس بها، وقال له: أن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانصراف إلى بلدي لأنظر أهلي وولدي؛ فإن مت قبرت مع آبائي. قال له: يا جورجيس اتق الله وأسلم؛ وأنا أضمن لك الجنة. قال جورجيس: قد رضيت حيث آبائي؛ في الجنة أو النار. ثم خلف بين يدي المنصور تلميذه عيسى، ومضى إلى جنديسابور ومعه عشرة آلاف دينار وخادم، فوصلها حياً.

وحل عيسى محل جورجيس. فأخذ يبسط يده في التشارر والأذية، خاصة على الأساقفة والمطارنة، ومطالبتهم بالرشى وأخذ أموالهم. وكان فيه شرارة وطمع فلما خرج المنصور في بعض سفراته ووصل إلى قرب (نصيبين) كتب عيسى إلى مطران نصيبين يتهدده ويتوعده إن منع عنه ما ألتمسه. وكان عيسى قد ألتمس أن ينفذ له من آلات البيعة أشياء جليلة ثمينة لها قدر، وكتب في كتابه: أليس تعلم أن أمر الملك في يدي، إن أردت أمرضته، وإن أردت شفيته. فأحتال المطران في التوصل إلى الربيع وشرح له صورة الحال وأقرأه الكتاب، فأوصله الربيع إلى الخليفة، فأمر المنصور بأخذ جميع ما يملكه عيسى، وتأديبه، ونفيه ففعل به ذلك.

ثم أن المنصور سأل عن جورجيس ليؤتى به. فأمتنع لضعفه وأنفذ إلى الخليفة تلميذه إبراهيم. فقربه المنصور وأكرمه وخلع عليه، ووهب له مالاً، واستخلصه لخدمته. ولم يزل في الخدمة إلى أن مات المنصور.

وكان أبو قريش طبيب المهدي. وكان يعرف بعيسى الصيدلاني، ولم يكن طبيباً، وإنما كان صيدلانياً ضعيف الحال جداً، فتشكت حظية للمهدي ذات يوم، وتقدمت إلى جاريتها بأن تخرج القارورة إلى طبيب غريب لا يعرفها. وكان أبو قريش بالقرب من قصر المهدي. فلما وقع نظر الجارية عليه أرته القارورة، فقال لها: لمن هذا الماء؟ فقالت: لامرأة ضعيفة. قال: بل لملكة عظيمة الشأن، وهي حبلى بملك! وكان هذا القول منه على سبيل الرزق. فانصرفت الجارية من عنده وأخبرت الحظية بما سمعته منه، ففرحت فرحاً شديداً، وقالت ينبغي أن تضعي علامة على دكانه حتى إذا صح قوله اتخذناه طبيباً لنا. وبعد مدة ظهر الحبل، وفرح به المهدي فرحاً شديداً؛ فأنفذت الحظية إلى أبي قريش خلعتين فاخرتين وثلاثمائة دينار. وقالت: استعن بهذا على أمرك، فإن صح ما قلته اصطحبناك. فعجب أبو قريش من ذلك وقال: هذا من عند الله، لأنني ما قلته للجارية إلا وقد كان هاجساً من غير أصل. ولما ولدت الحظية، وهي الخيزران، موسى الهادي، سُرّ المهدي به سروراً عظيماً. وحدثته جاريته بالحديث، فاستدعى أبا قريش وخاطبه، فلم يجد عنده علماً بالصناعة، إلا شيئاً يسيراً من علم الصيدلة. إلا أنه أتخذه طبيباً لما جرى منه واستخصه وأكرمه غاية غاية الإكرام وحظي عنده، وخاصة عندما علم أنه عنّين.

واستبقاه الهادي، وظل مكرماً عنده. وعندما مرض الهادي جمع الأطباء. وكان فيهم أبو قريش، فقال لهم: أنتم تأكلون أموالي وجوائزي وفي وقت الشدة تتغافلون عني. فقال له أبو قريش: علينا الاجتهاد، والله يهب السلامة.

ثم استدعى له بختيشوع بن جورجيس من جنديسابور، فداواه وشفى. ثم كادت له الخيزران فاعاده المهدي إلى جنديسابور.

وكان ممن حظي عند الهادي الطيفوري المتطبب، وكان حاذقاً، وكان متطبب ومربيه في رضاعه وطفولته وكبره. وهو جد إسرائيل بن زكريا الطيفوري طبيب الفتح بن خاقان.

أما الرشيد، فقد أعاد بختيشوع؛ فقد مرض سنة 171هـ. من صداع لحقه، فقال ليحيى بن خالد: هؤلاء الأطباء ليسوا يفهمون شيئاً. فقال له يحيى: لما مرض أخوك الهادي، أرسلوا إلى جنديسابور فأحضروا رجلاً يُعرف ببختيشوع. فقال الرشيد: كيف أعاده وتركه؟ قال لما رأى والدتك، والطبيب عيسى أبا قريش يحسدانه، أذن له بالانصراف إلى بلده، فأمر الرشيد بحمله. فورد بختيشوع ودخل على الرشيد فداواه. وأكرمه الرشيد وخلع عليه خلعة سنية. ووهب له مالاً وافراً، وقال له: تكون رئيس الأطباء، ولك يسمعون ويطيعون.

ثم حل جبرائيل بن بختيشوع عند الرشيد محل أبيه. وقد خص بادئ أمره بجعفر بن يحيى؛ وذلك أن جعفر هذا مرض، فتقدم الرشيد إلى بختيشوع بن جورجيس بأن يخدمه. وكان من أدب الطبيب إذا كان خاصاً بالملك أن لا يخدم أحداً من أصحابه إلا بأمره، ولما أفاق جعفر من مرضه قال لبختيشوع: أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه. قال له بختيشوع: لست أعرف في هؤلاء أحذق من أبني جبرائيل وهو من أمهر مَنْ في الصناعة. فقال: أحضرنيه. فلما أحضره شكا إليه مرضاً كان يُخفيه، فدبره في مدة ثلاثة أيام وبرأ. فأحبه جعفر مثل نفسه وصيره رئيس الأطباء، وكان لا يصبر عنه ساعة، ومعه يأكل ويشرب.

وقد أتصل جبرائيل بالرشيد بسبب حظية له. فقد كان للرشيد حظية فُتن بها، تمطت ذات يوم ورفعت يدها، فبقت منبسطة لا يمكنها ردها. والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان ولا ينفع ذلك شيئاً. فقال الرشيد لجعفر بن يحيى: قد بقيت هذه الصبية بعلتها. قال له جعفر: لي طبيب ماهر، وهو ابن بختيشوع تدعوه وتخاطبه في معنى هذا المرض، فلعل عنده حيلة في علاجه. فأمر بإحضاره. ولما حضر قال له الرشيد: ما اسمك؟ قال: جبرئيل. قال: أي شيء تعرف من الطب؟ قال: أبرّد الحار، وأسخن البارد، وأرطب اليابس وأجفف الرطب. فضحك الرشيد وسر. وشرح له حال الصبية. فقال جبرئيل: إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة. قال له الرشيد: ما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى هنا بحضرة الجمع حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي ولا تعجل بالسخط، فأمر الرشيد بإحضار الجارية، فخرجت، وحين رآها جبرئيل أسرع إليها ونكس رأسه، وأمسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها، فانزعجت الجارية، ومن شدة الانزعاج والحياء استرسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل وأمسكت ذيلها. فقال جبرئيل: قد برأت يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للجارية: ابسطي يدك يمنة ويسر، ففعلت، فعجب الرشيد وكل من كان حاضراً، وأمر لجبرئيل في الوقت بخمسمائة ألف درهم، وأحبه، وجعله رئيساً على جميع الأطباء.

وكان محله يقوى ويعلو، حتى أن الرشيد قال لأصحابه: كل من كانت له حاجة إلى فليخاطب فيها جبرئيل، لأني أفعل كل ما يسألنه ويطلبه مني. فكان القواد يقصدونه في كل أمورهم. ومنذ يوم خدم الرشيد إلى أن انفضت خمس عشرة سنة لم يمرض الرشيد، فحظي عنده حظوة كبرى.

ونستطيع أن نعلم حال هذا الطبيب وأبوه وجده من كلمة له قالها لإبراهيم بن المهدي: (إن عيش جبرئيل، وبختيشوع ابيه، وجورجيس جده، لم يكن من الخلفاء، وإنما كان من الخلفاء، وولاة العهد، واخوة الخلفاء، وعمومتها، وقرابتها، ووجوه مواليها، وقوادها. وولى أبوان خدما الخلفاء وافضلوا عليهما، وأفضل عليهما غيرهم ممن هو دونهم. وقد أفضل علي الخلفاء، ورفعوني من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة، وليس لأمير المؤمنين أخ ولا قرابة، ولا قائد ولا عامل إلا وهو يداريني إن لم يكن مائلاً بمحبته وشاكراً لي، على علاج عالجته به، ومحضر جميل حضرته له، ووصفته وصفاً حسناً عند الخليفة فنفعه).

صلاح الدين المنجد