مجلة الرسالة/العدد 701/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 701/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1946



على هامس النقد:

كتب الأستاذ علي العماري في عدد الرسالة الماضي يسألني رأيي في الآيات:

(انطلقوا إلى ما كنتم به تكذَّبون. انطلقوا إلى ظلٍّ ذي ثلاثٍ شُعبٍ، لا ظليلٍ ولا يُغني من اللهب. إنها ترمي بشررٍ كالقصر، كأنه جِمالةٌ صُفر).

فهو يرى أن حكمي على بيتي شوقي عن قصر انس الوجود:

قف بتلك القصور في اليم غرقي ... ممسكا بعضها من الذعر بعضا

كعذارى أخفين في الماء بضا ... سابحات به وأبدين بضا

بأنهما يكشفان عن تزوير في الشعور، لأنهما يبعثان شعورين متناقضين في النفس، ويدلان على أن الشاعر لم يحس بالموقف الذي يصوره إحساسا صادقا. . . الخ.

يرى أن حكمي هذا يصطدم بهذه الآيات القرآنية. ويقول في تعليل هذا:

(فالجو العام للآيات هو تهديد وإنذار وتخويف، يقذف باللهب، ويرمي بالشرر؛ ولكن التشبيه لا يبعث في النفس إلا الطمأنينة والهدوء والظل الأبيض الناصع. نعم إن منظر الجمال الصفر متتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب هوهو منظر الشرر، ولكن هذا المنظر لا يبعث في النفس، ولا سيما نفس العربي إلا المسرة والبهجة والشعر والجمال، فالجمل أليف إلى نفسه حبيب إليها، وهو حين يكون اصفر يزيد في إعجابه وبهجته. الخ)

وهذا المشهد من مشاهد القيامة قد تحدثت عنه بتوسع في كتابه (مشاهد القيامة في القرآن)، وهو في المطبعي الآن. فأكتفي هنا بكلمة قصيرة إلى أن يظهر الكتاب!

ولست ادري وجها هنا للبس ولا للموازنة بين البيتين والآيات؛ فإن مشهدا يصور جهنم، وقد انبعث منها الدخان الكثيف المتشعب كأنه الظل، ولكن (لا ظليل ولا يغنى من اللهب)! وهي لضخامتها وهولها ترمي بالشرر كل واحدة منها في حجم القصرة - أي الشجرة الغليظة - أو في حجم الجمل. . . وهي تقذف بها في عنف وشدة (ترمي بشرر كالقصر) لا متتابعة في هينة وهدوء كما يريد الأستاذ أن يصور المشهد

وإن مشهدا مفزعا كهذا المشهد، لا يدع للحس فرصة ولا فسحة، يتملى فيها على هينة واتئاد، وراحة بال واطمئنان خاطر. . . منظر الجمال المتتابعة في رتابة الجمال، ومتتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب) فكل هذا لا أثره له هنا.

وقد استلقت لفظتا (القصر) - جمع قصرة - و (جمالة) جمع جمل - استقلتا بتصوير الضخامة - وهي المقصودة أولا في المشهد - واستقلت كلمة (ترمي) بتصوير العنف - وهي المقصودة ثانيا في المشهد - ثم جاءت كلمة (صفر) لتعطي لهذا المشهد مجرد اللون، ولتتم الصورة بحجمها وحركتها ولونها على طريقة التصوير في القرآن.

ولو أراد مجرد الضخامة واللون دون العنف لقال مثلا: ترسل بشرر ولم يقل (ترمي بشرر)، فكلمة (ترمي) تجئ هنا لتكمل خاصة معينة للصورة.

واللون الأصفر في هذا المجال لا يشيع في المشهد ما أراد الأستاذ أن يشيع من الوضاءة والهدوء والصفاء!

وأنا أعيذ الأستاذ أن يقف لحظة أمام هذا المشهد الوضئ! ولو - لا قدر الله - شهده، ووقف حياله وقفة المهدد به، لما أغنى اللون الأصفر فتيلا في تخفيف هوله، ولما وجد في خاطره فسحة لتملئ وضاءته! في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من اللهب، وهي ترمي بشرر كالقصر كأنه جمال صفر. إنها هنا صفرة النار التي ترمي بالشرر لا صفرة الظل الأبيض الناصع الذي يمتع النظر!

سيد قطب

تأبين المرحوم الأستاذ طه الراوي:

ستقوم دار المعلمين العالية ببغداد بالاتفاق مع وزارة المعارف العراقية ولجنة الترجمة والتأليف والنشر العراقية بحفلة تأبينية كبرى للمرحوم الأستاذ طه الراوي أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد سابقا، وذلك في ذكرى وفاته الستينية في اليوم العشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1946. وقد تشكلت لجنة لتنظيم هذا الاحتفال برئاسة عميد دار المعلمين العالية وعضوية الأساتذة؛ محمد هاشم عطية، والدكتور محمد مصطفى زيادة، والدكتور عبد العزيز الدوري، الأساتذة في المعهد. وقد رأت اللجنة الاتصال بكافة الهيئات والمؤسسات والشخصيات التي لها صلة وثيقة بالمرحوم لتساهم في الحفلة التأبينية. فنرجو ممن له هذه الصلة ويرغب في المساهمة في الحفلة المنوه عنها أن يتفضل بإرسال كلمته إلى الملحق الثقافي بالمفوضية الملكية العراقية في القاهرة (7 شارع محمد مظهر باشا بالزمالك) ليقوم بدوره بإرساله إلى لجنة التأبين.

إلى اليد ذات السوار رقم 2:

لم تأمرينني بالاعتذار يا سيدتي؟ أبهذا الأسلوب - أسلوب الأمر - تسوق الأديبة طلبها؟ مم اعتذر؟ لم اجن ذنبا ولا جريرة استحق عليهما اللوم والتثريب. إنني لم أسئ إلى قلم الأستاذ الطنطاوي في كثير ولا في قليل. واشهد الله على ما في نفسي أني احمل له كل توقير وتبجيل. ولو كنت غصت إلى أغوار مقالتي لأدركت الرأي الذي أبديه، والقصد الذي ابغيه.

وما كان لي أن استتر تحت اسم مستعار من تلقاء نفسي. ولكن المقام اضطرني إلى هذا على غير رغبة مني. وإن كنت تخشين أن يحاسبك الناس في حاضرهم حسابا عسيرا على مستقبلك فإني والله لا أخشى إلا الذي برأني وسواني. وإن تلك النفخة التي تخافين منها على أدبك الناشئ، فلله الحمد ليس لي حتى كتابة هذه السطور شيء أرتاع لمرآه إن طيره نفخ النافخين، أو أتت عليه أقلام الكاتبين. وعلى كل حال إن المستقبل بيد الله.

إن مقالتك لم تبعث في نفسي وحشة ولا يأسا، وإنما زادتني أنسا بالأدب والأدباء. لو كان في مقالي شيء من التجريح لما احتاج الأمر إلى دفاعك، ولهب الأستاذ من فوره يسوق إلى النقاش، وهو الأديب الأريب الذي له - ولزملائه كتاب الرسالة - مكان الثريا في سماء الأدب.

وما دخل لتشاؤم في موضوعنا؟ إن من سعادة الحياة أن انظر إليها من خلال منظار التفاؤل، ومن حسن الطالع أن حباني ربي صديقات هن مبعث فرحتي ومصدر مسرتي.

دعي هذا يا سيدتي، وتعالي لتشاهدي ضربا من الحياة جديدا. هل سمعت أو رأيت الأصم والأبكم كيف يتكلم؟ إن تلاميذي وتلميذاتي من هذه الشرذمة البائسة التي قضي عليها بفقدان السمع والنطق. وها نحن أولاء أخواتك ذوات الأساور نخفف بلواهم، ونسعى إلى تحقيق مناهم، حتى تربطهم بالحياة وشائج يستطيعون معها مسايرة المجتمع.

لعلك اقتنعت بوجهة نظري بما سقته إليك في هذه العجالة، ولست اختم حديثي بالاسم المستعار الذي استعرته لنفسك، لأني في الواقع ممن لا يألفن التحلي بالسوار. وهأنذى أكشف لك عن حقيقتي كما احب أن تكشفي لي عن حقيقتك، وإلا ذهبت بي الظنون مذاهب شتى. وعسى أن يكون اصطفاق قلمينا فاتحة صداقة كنت أنت البادئة بها. ومما يشرفني ويعلي قدري أن نبرم سويا عهد هذه الصداقة تحت ظلال دوحة الرسالة الغراء التي لها الشكر أولا وآخره، إذا أفسحت وما تزال تفسح لنا في رحابها مكانا لنشر أحاديثنا، والسلام.

بديعة محمد سبح الله

مدرسة بمعهد الصم والبكم - بمطرية القاهرة

حواء الخالدة:

قصة مسرحية ألفها الأستاذ محمود تيمور بك، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية بدار الأوبرا الملكية.

وبطلا القصة عنترة بن شداد العبسي وصاحبته عبلة، وليست القصة كما روتها أو زعمتها كتب التاريخ والقصص القديمة محيطة بطليها بتهاويل البطولة والحب، وإنما اتخذ المؤلف من زمانها ومكانها وأشخاصها، جوا جديدا، ومادة جديدة، لعمل فتى جديد، قوامه التحليل وعرض العواطف والميول الإنسانية على طبيعتها.

فعبلة امرأة تزهي بحب الرجال إياها، وتتخذه لعبتها، فتشتط في مطالبها، ولا تبالي أن تدفعه إلى الأهوال، وتحمله على ترك الديار وتجشم الأسفار، لتحقيق رغباتها التي يمليها مجرد العبث والزهو.

وعنترة رجل شجاع محب، ذو بأس وذو قلب، يبطش بالفوارس، وترتد عن صفاته الآسنة، ولكن تنفذ إليه سهام الأنوثة ويفعل به سحرها، فينصاع لعبلته، ويسعى في إجابة مطالبها غير مكترث بما في طريقها من المشاق والمصاعب؛ وترمي به الحبيبة المدلة في سفر بعيد يمتد به الزمن، ثم يؤوب كمن صحا قلبه فسلا واقصر باطلة، ولكن لا يلبث أن يتسلل نشيد الحب إلى مكمنه في فؤاده، فيعود به إلى مغانيه، ويظل يروض تلك القطة المزهوة الشرسة حتى ينالها. . .

وواضح من سياق القصة أن المؤلف أراد أن يصور المرأة في إدلالها وزهوها وتمعنها وتحايلها وأفانينها في اللعب بالرجل - تصويرا أريد أن أقول إنه (كاريكاتوري) مستعيرا له هذه التسمية من ذلك التصوير الذي يقوم على المبالغة في إبراز الخصائص، وعلى هذا يمكن أن تحمل تلك المواطن التي بدت فيها عبلة على خلاف ما تجري به العادة في واقع الحياة، كدؤوبها على العبث واللهو بعد ما قيل من موت عنترة، وكفتورها في استقباله بعد غيبته الطويلة على رغم حبها له.

ولكن ما بال عنترة يستقبل منافسه في خطبة عبلة بالترحيب والتكريم حيث كانت تقتضي طبيعة الموقف وطبيعة الفارس البدوي أن يلقاه بسيفه؟ حدث ذلك عندما جاء هذا المنافس بعد إحضاره النياق العصفورية التي طلبتها منه عبلة، فوجد عندها عنترة، وكان عنترة أيضاً قد عاد من سفره الطويل الذي دفعته إليه لجلب الزمرد الذي اشترطته ليتم زواجهما، ونراه بعد أن يأتي لها به وبعد ما تجشم في سبيله يستقبل خاطبها الآخر ويهنئهما. . . وقد يقال إن أحداث السفر قد غيرته وجعلته يسلو، ولكن ماذا يبرر ذلك الموقف الغريب حينما بعث حبه، وعاد في هواه سيرته الأولى، واستحر العناق بينه وبين عبلة، وفاجأهما منافسه، وإذا عنترة الفارس الذي استعاد صبابته يسلم إلى هذا المنافس حبيبته التي أفلتت من بين ذراعيه، ويخاطبه كالمعتذر. . . ويغادرهما ذاهبا إلى شانه.؟

وهنا نقول إن المؤلف آثر المرأة بعناية، إذ كان يهدف إلى إبراز خصائصها بذلك التصوير (الكاريكاتوري) ولكنه أهمل الرجل فصوره ذلك التصوير العجيب، ولم يدبر أمره على سنن الواقع ومقتضيات الطبيعة، ولم يبد لنا من هذا الصنيع هدف يبرره.

وقد كانت هذه الرواية على مسرح الأوبرا مجلي بالإخراج الفني البارع المتقن، وعرس اللغة العربية في جلوتها ورنين جرسها على السنة الممثلات اللائى أثبتن أنها لغة رقيقة. . . رقيقة. . .

وهي مدعاة إلى استخذاء مؤلفي التمثيليات باللغة العامية الذين صدعوا رءوسنا بهرائهم، ووجعوا بادعاءاتهم التي لا تدل إلا على العجز المبين.

ومن العجيب انهم يمثلون بالعربية الروايات المترجمة، ويؤلفون بالعامية التمثيليات المصرية، كأن العربية في البئية الغربية أبين منها في البيئة المصرية! واعجب العجب تمثيل قصص باللغة العامية وقعت في العصور العربية من جاهلية أو أموية وعباسية! وما تزال أغانيها العامية تتردد على الألسنة كسلامة القس مثلا! فإلى متى يظل هذا التهريج الفني؟ ومتى يرتفع الفن بالأذواق الساذجة بدلا من تملقها والانحدار إليها؟

وأخيراً، نسوق الحديث إلى محطة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، لعل عربية (حواء الخالدة) تقنعها باصطناع اللغة الفصيحة في إذاعة التمثيليات القصيرة التي أكثرت أخيراً من إذاعتها بالعامية، وأهملت الفصحى في هذا المجال كل الإهمال فيما عدا المترجم الذي تقدم العجب من الاقتصار عليه في التمثيل بالعربية.

عباس حسان خضر