مجلة الرسالة/العدد 701/الأمير عبد القادر وتحرير الجزائر لمناسبة مضي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 701/الأمير عبد القادر وتحرير الجزائر لمناسبة مضي

مجلة الرسالة - العدد 701
الأمير عبد القادر وتحرير الجزائر لمناسبة مضي
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1946


65 سنة على وفاته

(مهداة إلى الأمير سعيد الجزائري)

للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد

المدره الأفيق كبير زعماء الجزائر، وموحد اتجاهها السياسي، ومؤلف شتاتها، الأمير العظيم، العالم الشاعر الباسل عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني.

ولد بوهران سنة 1223هـ في مهد العلم والتقوى، وتلقى علوم الشريعة والأدب والتاريخ والحكمة العقلية وغيرها، حتى حذقها، وتوفر على المثاقفة بالسلاح وركوب الخيل، فجمع بين السيف والقلم، واشتهر بالذكاء والفصاحة والطلاقة وسمو الفكر وقوة البدن وشدة البأس والإقدام وصلابة الرأي فيما يزمع والإخلاص وقوة الإيمان.

فعلقت به القلوب واتجهت إليه الأنظار، كل ذلك مع ما كان لأبيه وأجداده من المكانة الرفيعة في البلاد.

رحل إلى المشرق حوالي سنة 1241 مع والده وجماعة من أهله وحاشيته بقصد الحج، فمروا بمصر فأنزلهم محمد علي باشا منزلا كريما، ثم حجوا وزاروا المدينة المنورة والشام وبغداد، فأزداد عبد القادر بهذه الرحلة التي استغرقت أكثر من سنتين رسوخا في العالم وخبرة بالسياسة.

وفي أواخر عام 1830م احتلت فرنسة عاصمة الجزائر، وأخذت تفكر في الاستيلاء على سائر القطر الجزائري، فبدأت الحرب بين أهل الجزائر والفرنسيين، واقتحم أهل وهران الحرب بقيادة السيد محي الدين، فبدأ في هذا القتال من بسالة عبد القادر ومواهبه الحربية وأصالة رأيه وثورة نفسه الإسلامية الحرة وإخلاصه لقضية أمته وبلاده وقوة أيمانه بصدق جهاده ما عقد به أماني الناس.

ولما أراد أهالي تلك البلاد مبايعة السيد محيي الدين أميرا عليهم اعتذر بعلو سنه، فبايعوا ولده عبد القادر عام 1832م فاتخذ مدينة العسكر عاصمة، ولم شعث القبائل، وجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتغير، ودفعها بروح دينية واحدة لا تختلف، وجعل عرق الجه يفور كما يفور العرق المجروح بالدم، وبعث صولة الحياة في الشعب كله، ورتب جنده وكان يتقدم جيشه ببسالة عجيبة، وكأن بينه وبين أرواح جنده نسبا شابكا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر، فكانت فيه التكملة الإنسانية لجنده، وكأنه خلق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع، وأن القوى الشديدة تعمل كالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها، فالأمير قد عدى جنده بقوة شجاعته العجيبة.

ومن نظمه:

تسألني أم البنين وإنها ... لأعلم من تحت السماء بأحوالي

إلا فاسألي جنس الفرنسيس تعلمي ... بأن مناياهم بسيفي وعسّالي

ومن عادة السادات بالجيش تحتمي ... وبي يحتمي جيشي وتمنع أبطالي

واستمر في الحب حتى دانت له كل عمالة وهران تقريبا بعد محاصرته للجنرال بويه وجيشه. ثم تولى قيادة الجيش الفرنسي الجنرال ديميشيل، فكانت بينه وبين الأمير معارك انتهت بعقد المعاهدة المشهورة (بمعاهدة ديميشيل عام 1834) التي اعترفت بها فرنسة للأمير بجميع العمالة الوهرانية عدا مدينة وهران وآرزاو ومستغانم، وكان له الحق بموجب هذه المعاهدة أن يعين قناصل في وهران والجزائر ومستغانم وغيرها، وأن يستورد الأسلحة من أي جهة شاء؛ فعظم شأن الأمير وامتد سلطانه وصار الأمير الشرعي لجميع أهالي الجهات الغربية من المغرب الأوسط. ثم مد رواق ملكه على البلاد التي لم تكن داخلة في حدوده مثل ميدية ومليانة، وأقام فيها معامل للأسلحة، مع احتجاج حاكم الجزائر العام.

وفي غضون ذلك ثار على الأمير قبيلتا الدوائر والزمالة وانضمتا إلى فرنسة، فطلب الأمير تسليم رؤسائهم إليه فأبى الجنرال تريزيل، فبرز عبد القادر إلى القتال فانتصر على الفرنسيين في (يوم المقطع) في 26 يولية 1835 فأرسلت فرنسة جيشا كثيفا بقيادة المارشال كلوزل فاستولى على عاصمته (المعسكر) وناوشه من ورائه بقية من الأتراك كانوا في قلعة تلمسان، وبعثت فرنسة الجنرال بوجو لإغاثة الجنرال دارلنج الذي حصره الأمير، فانهزم عبد القادر ولكنه بقي ثابت العزم، واستطاع بدهائه السياسي عقد صلح مع الفرنسيين على شروط ضمنت له أكثر مما ضمنته معاهدة ديميشيل، وذلك في (معاهدة التفنة) في 30 مارس 1837 التي اعترفت فرنسة له فيها بجميع عمالة وهران وقسم كبير من عمالة الجزائر.

وشرع بعد ذلك يقوي سلطته على البلاد التي أدخلت حديثا تحت حكمه، واخضع عرب الازارقة، وانشأ معامل للأسلحة والعدد الحربية وملابس الجند في تلمسان ولاغوات وميجانة وزيبان، وبنى حصونا لخزائن بيت المال، وأقام على كل حصن بلدة، منها تاقدت وتازة وسعيدة وبوغار وعريب وسبدو وغيرها.

ثم رتب جيشا منظما على نمط جيوش الدول، وقسمهم إلى فرسان مشاة سماهم العسكر المحمدي، ومدفعية وسماهم الرماة، واختار لتدريبه ضباطا من الجيش التونسي ومن الجند التركي الذي بطرابلس ومن الفارين من الجيش الفرنسي، ووضع لهذا الجيش قانونا لمأكله وملبسه ورواتبه ومدة التعليم وشروط الترقي فيه ومنح الأوسمة، ونظام المرابطة والحرب، وضرب نقودا وسماها المحمدية، وعنى بشؤون الزراعة والتجارة والتعليم، وأقام دهاليز لادخار الحبوب وانابير للأقوات ورمم القلاع، ولم يهمل شيئا مما يجب لتأسيس الحكومات الشرعية. ولم تكن همته زمن السلم اضعف منها إبان الحرب.

ولما كانت معاهدات الدول الاستعمارية مع الأقطار التي تود الاستيلاء عليها هي في الغالب منازل استجمام بين مراحل الحرب فقد تعللت فرنسة في تفسير بعض فقرات (معاهد التفنة) وأرادت التخلص منها بعد أن أعدت العدد وعززت الجيش، مع أن الأمير كان يعمل بها، فاستأنف القتال بينهما فزحف الماريشال فالي والدوق دومال، فنادى الأمير بالجهاد في 20 نوفمبر 1839 فاستمرت الحرب من هذا التاريخ إلى عام 1843 بلا انقطاع وقام فيها الأمير مقامه المحمود الذي طار ذكره في الآفاق، واثبت فيه عبد القادر للدنيا كلها أن الجزائر الجبارة متى شاءت بنت الرجال من أمثاله في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة.

وعدم تكافؤ القوتين المتقابلتين سبب سقوط أكثر حصون الأمير واحتلال العدو أكثر معاقله ومدنه مثل تاغت والمعسكر وتازة ووادي الشليف، فتحول إلى الغرب، فزحف العدو إلى تلمسان ونواحي ندرومة واحتلها، فقصد الأمير إلى الجنوب فباغته الدوق دومال وغنم كثيرا من عتاده، ففت هذا الحادث في عضده وخذله أكثر أعوانه ففر إلى المغرب، وسعى لحمل سلطان المغرب الأقصى على شد أزره فأمده بجيش فكانت بينه وبين الجيش الفرنسي (واقعة إيسلي) في 12 أغسطس 1844.

ولما كان المغاربة يعوزهم من أدوات القتال ما يملكه الفرنسيون انتصر الجنرال بوجو على الجيش المغربي، وكانت بوارج فرنسة ضربت طنجة ومغادور، فاضطر سلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام إلى عقد الصلح بالشروط التي تريدها فرنسة وأولها منع الأمير عبد القادر من تجاوز حدود الجزائر، فلبث زهاء سنتين متربصا غرة من العدو ينتهزها، فلما بدت له في ثورة عام 1846 انقض على بلاد الجزائر ثانية وأمعن في الغارة حتى بلغ بلاد البربر، واستأنف الأمر كما بدأ، إلا أن قوته كانت قد تناقصت، وقدم الفرنسيون قد رسخت في الجزائر فلم تستمر غارته، وأحاطت به الجيوش من كل ناحية، فرجع إلى الحدود المراكشية، فطلبن فرنسة من سلطان المغرب تسليمه وما زالت تلح في ذلك حتى ناصرهم وساق عليه قوة عظيمة دهمته فإذا هو بين نارين، فاشتد به الغضب، فاشترط شروطا للاستسلام رضى بها الفرنسيون، وسلم نفسه على يد الجنرال لاموريسيال في ديسمبر 1847 واتفقوا على أن يسافر بأسرته من الجزائر إلى الإسكندرية أو عكا، ولكن فرنسة أخذته إلى طولون ثم إلى إنبواز وأنزلته في قصرها معتقلا إلى عام 1852 إذ بشره لويس نابليون بنفسه بإخلاء سبيله في يوم اهتزت له باريس احتفالا بمقدم الأمير.

اجل لم ينتصر البطل بعد جهاد 15 سنة جهادا عزيز المثال في تاريخ الأبطال، ولكن الأمم احتفت به لأنه يمثل كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار.

ثم سافر الأمير إلى الأستانة وزار السلطان عبد المجيد، ثم أقام ببرصا، وفي سنة 1855 هاجر إلى دمشق، ومر ببيروت فقام واليها وامق باشا بالحفاوة به. ثم بجبل لبنان فاحتفل به مشايخ الجبل وأمراؤه. فلما اشرف على دمشق خفت المدينة إلى استقبال مدره الإسلام، وتقدم الجمع محمود نديم باشا رئيس العسكرية، والعلماء والأعيان، ثم دخلوا المدينة تتقدمهم الجنود بموسيقاها، ونزل ضيفا بدار عزت باشا، إلى أن اختاروا له دار القباقيبي التي كانت مقر الحكومة فحط رحله فيها.

وقضى بقية حياته بدمشق في مثافنة العلماء، والتحقيق العلمي ولاسيما التصوف. ومن أمتع آثاره العلمية المطبوعة (كتاب المواقف) الذي يدل على رسوخه في التصوف علما وعملا، و (ذكرى العاقل) في الحكمة والشريعة و (ديوان شعره).

وقد صرح مؤرخو الفرنج أن مملكته العلمية والدينية كانتا من أكبر أعوانه على تأسيس الكومة التي أسسها، وإنه كان ينال باللسان ما قد يعجز عنه بالسنان.

وقال الماريشال سوليت الفرنسي في سنة 1840 (لا يوجد الآن أحد في العالم يستحق أن يلقب بالأكبر إلا ثلاثة رجال كلهم مسلمون وهم: الأمير عبد القادر، ومحمد علي باشا، والشيخ شامل).

ولما وقعت دمشق حادثة سنة 1860 عنى الأمير عبد القادر بحماية المسيحيين وإنقاذهم ورد العوادي عنهم، فأخلى لهم دوره والدور المجاورة لها حتى هدأت الفتنة، فأجمعت صحف العالم على حمده وشكره، واستحق بهذا الصنيع ثناء الجميع، فأرسل إليه الخليفة السلطان عبد المجيد وفرنسة وأمريكا وأكثر الدول الأوربية أوسمة رفيعة مع رسائل الشكر والحمد.

وفي عام 1863 حج ثانية ودعاه الخديوي إسماعيل باشا فيمن دعا من أعيان العالم وملوكه وأمرائه لحضور الاحتفال بفتح قناة السويس.

وما زال مثالا للبر والإحسان والتقوى والأخلاق الكريمة يتهجد الليل ويمارس في رمضان رياضة الخلوة على طريقة الصوفية، إلى أن قبض رضى الله عنه في سنة 1300هـ ودفن إلى جانب ضريح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي بصالحية دمشق. وذاع نعيه في الآفاق وأسف عليه الملوك والأمراء ومن عرفه من الخاصة والعامة، ورثاه الكتاب والشعراء، وابنه العلماء والأدباء.

هذا موجز من سيرة الأمير الكبير، وتاريخ حياته وأخبار نضاله مع الفرنسيين مبسوطة في كثير من كتب المسلمين والفرنج. وللعالم الجليل السد أحمد أخي الأمير تاريخ مفصل لحياة أخيه لم يطبع بعد، فيه حقائق لا توجد في (تحفة الزائر) واذكر بهذه المناسبة أن الشيخ شهاب الدين محمودا قال: عدت قاضي القضاة ابن خلكان فأنشدني لبعض أهل الأدب شعرا في نقيب الأشراف بالمدائن خلب عقلي، وهو هذا:

قد قلت للرجل المولى غسله ... هلا أطاع وكنت نصحائه

جنبه ماءك ثم غسله بما ... أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أواني للحنوط ونحها ... عنه وحنطه بطيب سنائه

ومر الملائكة الكرام بنقله ... شرفاً ألست تراهم بازائه لا توهِ أعناق الرجال بحمله ... يكفي الذي حملوه من نعمائه

قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعي نفسه فمات في ذلك الأسبوع، وقال الصوفي الذائق السيد محيي الدين بن أخي الأمير عبد القادر: وأحق الناس بهذا الرثاء أستاذي العارف الرباني أمير العلماء وعالم الأمراء سيدي الأمير عبد القادر الحسني الجزائري.

محمد عبد الوهاب فايد