مجلة الرسالة/العدد 701/إلى وزارة المعارف:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 701/إلى وزارة المعارف:

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1946



وعلى هذا فنحن ندور. . .

للأستاذ كامل السيد شاهين

- 2 -

فإذا طرحنا النظر في منهج التعليم الابتدائي ألفيناه مؤلفا من: قواعد، وإنشاء، ومحفوظات، وإملاء، وخط. وبنظرة فاحصة في كل فرع من هذه، تنثال علينا مثالب لا نجد إلى ردها سبيلا. ولنتعقبها فرعا فرعا لعلنا نجد من تكشيف هذه العيوب سبيلا إلى الإصلاح، وعونا على العلاج.

فأما القواعد، فقد وضعت الوزارة بين أيدي تلاميذ السنة النهائية كتابا ضاق غلافه - على سعته - بأسماء المؤلفين والمراجعين، ومع هذا فقد خرج الكتاب غير مناسب لروح التطور التربيبي، فهو يعقد الباب بعنوان، ثم يجري وراء الأمثلة فيجمعها من كل طريق، مثال من الصحراء، وآخر من السماء، وثالث من الحيوان، غير مراع نسقا خاصا، ولا حافل بانسجام، ثم يناقش الأمثلة أو بعضها ويخلص إلى القاعدة.

وقد كان هذا كافيا وجميلا في وقت ما، أما اليوم فلا كفاية فيه ولا جمال، ذلك بأن التلميذ يتلقى القواعد تلقيا جافا لا روح فيه فيمجها ويملها، وقد درسنا ولا زال المربون يدرسون أن التربية الصحيحة تملى أن يكون درس القواعد بسبب من الإنشاء وان تكون الأمثلة مرتبطة موضوعا، أو شبه موضوع، يقوم في ذهن التلميذ ويتحيز، ويدرك منه أن هناك رباطا وثيقا بين هذه وتلك، ويفيد من ذلك ترابط المعلومات وتغذية ملكة الإنشاء وطرافة العرض، ومن ثم فنستطيع أن نقول إن الأسلوب الذي اتخذه الكتاب أسلوب لا يسد الحاجة، ولا يسير طويلا في طريق التربية الحديثة، ولا يساعد على تغذية وتنمية ملكة الإنشاء، ويضرب في الجفاف والعقم إلى حد بعيد.

فإذا ما ضربنا عن الأسلوب صفحا، ورحنا نبحث في ترتيب المعلومات وتبويبها، ألفينا الجناية الكبرى التي لا تخص مرحلة دون مرحلة ولا جيل دون جيل - ذلك بان القوم في الأزهر ودار العلوم داروا حول كتاب واحد لا يجدون عنه حولا، هو ألفية ابن مالك، فه يدرسونه بشرح ابن عقيل، ثم بأوضح المسالك، ثم بالاشموني؛ ومن ثم نجد أن طابعه قد مثل في أذهانهم وتبويبه وترتيبه قد استقر فيها، فتجدهم لا يسيغون طريقة المفصل للزمخشري، ولا ينظرون في كافية ابن الحاجب، وأهملوا الكتب والأصول شر إهمال، فلم يدرسوا شيئا قط من كتاب سيبويه، ولم يعرفوا شيئا قط عن مقتضب المبرد، وكانت عقبى ذلك أن اتجهوا اتجاها خاصا هو اتجاه ابن مالك في بعض كتبه، وفاتهم بهذا الإهمال أن يوازنوا بين اتجاهه واتجاه غيره من النحاة في الترتيب والتبويب، فذلك عسى أن يقودهم إلى اختيار أي السبل أهدى وأقوم

وقد جنت هذه المتابعة على تلاميذنا شر جناية، لأن الأساتذة المؤلفين لم يكلفوا أنفسهم رهقا، فلم يبحثوا عن طريق غير الطريق التي رسمها لهم ابن مالك، ومن يدري فلعلهم لا يعرفون أن هناك سبيلا آخر يصل بهم إلى هذه الغاية.

ابن مالك - ومن ورائه مؤلفينا الفضلاء - يرسم كتابه على: الكلام وما يتألف منه - ثم المعرب والمبنى - ثم النكرة والمعرفة، ثم المرفوعات فالمنصوبات فالمجرورات - ثم التوابع.

مسلك الرجل في الكتاب مسلك من ينظر إلى الصنعة النحوية فقط، مسلك من يهمه آخر الكلمة رفع أو نصب أو جر، ولا يهمه تناسق المعاني، أو افتراقها، وتنافرها أو انسجامها. حسبه أن هذا الحرف ينصب فيجب أن يكون في باب المنصوبات وأن هذا الحرف يجر، فيجر إلى باب المخفوض، وهلم خلطا ومزجا والشر في هذا أكبر من أن يهون، فالتلميذ يعرف أن (لن) تنصب، ويعرف أن (لم) تجزم ويعرف أن (ليس) تنصب الخبر، وأن (ما) في النفي لا تعمل شيئا، وكذلك (لا) ولكنه إذا طلب إليه نفي جملة اسمية أو فعلية، دار بين هذه جميعها وحار، أينفى بلن، أم بلم. . . الخ. والجناية على المعاني جد عظيمة ولا تعدلها بحال الجناية على الضبط، فالذي يقول: لم يتفق المفاوضون، أخف جرما من الذي يقول لم المفاوضون متفقون، وإذن فلا بد أن تكون المعاني مساوقة للإعراب إصبعا إصبعا فيعقد باب للنفي تجمع فيه أدواته وتبين خواص كل أداة، وفي ذلك من اللذة والفائدة ما فيه. ولكن طريقة ابن مالك ومتابعيه لا تعبأ بهذا، بل ترمي (لم) في صندوق الجوازم لأنها تجزم، و (لن) في صندوق النواصب لأنها تنصب، و (ليس) في صندوق النواسخ ناصبة الخبر، ولا تعرض لما، لماذا؟ لأنها مسكينة فارغة، متصعلكة لا عمل لها في اللفظ، أما أثرها في المعنى فليس للقوم على بال، وكذلك (لا) مستضعفة فارغة فلا ذكر لها ولا وجود!

والجناية في التوكيد مثلها في النفي؛ (فإن - المفعول المطلق المؤكد - ونون التوكيد - والتوكيد المعنوي) كلها مثبتة في الكتاب ولكنها مختصمة متفرقة أبدى سبأ، كل منها في باب، فتوكيد الجملة الاسمية تجده في الحروف النواسخ، وتوكيد الفعل بالاسم تجده في المفعول المطلق، وتوكيد الاسم بالاسم تجده في التوابع، فإذا رمت أن يؤكد لك التلميذ جملة اسمية فقد رميت به في متاهة لأنك بذكر لفظ (التوكيد) قد صرفت ذهنه كله إلى الباب المعقود للتوكيد، وليس فيه إلا الألفاظ التوابع وهي من الضآلة في العربية ما هي.

تلك جناية اللفتة السقيمة إلى آخر الكلمة، تفرق ما بين اللفق ولفقه، وتصيب عقل الوليد بالالتواء والتشويش.

لابد أن نعقد أبواب النحو على طريقة أخرى تتوخى فيها المعاني، فنعقد بابا للتوكيد، وبابا للنفي، وبابا للربط، وبابا للطلب. أمره. ونهيه. واستفهامه. ودعائه. وتمنيه، وهلم جرا؛ فذلك أعود بالفائدة واقرب إلى أن تكون الدراسة ممتعة شائقة غير جافة غثة باردة تعلق نظر الغلام بآخر الكلمة لا يعدوه.

وقد رأيت أن متابعة طريقة ابن مالك قد عادت على المؤلفين بوضع أبواب لا فائدة من دراستها في المرحلة الابتدائية، ذلك بان محط الخطأ إنما هو الأعراب، أما المبني فهو بعيد عن مجال الخطأ كل البعد، وقد جاءت الحروف مبنية، والأفعال كذلك، ونصب المضارع وجزمه سهل التدبير، فإن أدواتهما معدودة ومحدودة، ومدار الخطأ إنما هو في معرب الأسماء التي يتلون آخرها بالضم والكسر والفتح، والذي يتولى كبر الضلال من هذه الأحوال إنما هو الفتح، فأما الضم فإنه يدور حول محور واحد وهو الإسناد، فإسناد الاسم أو الإسناد إليه مقتض رفعه، لا يخرجه عن ذلك إلا ناسخ، وأما الجر فإنه يكون بحرف أو إضافة - فإذا حدد الاسم المرفوع وذلك هين، والمجرور وهو أهون، فما بقي من اسم فهو منصوب لا يكون إلا كذلك، فأما أنه منصوب على المفعولية أو الحالية، فذلك مما لا يعني مادمت احرص على النطق السليم الصحيح، فأنا أبيح التلميذ أن ينصب الاسم متى ظهر أنه ليس مسندا إليه ولا مسندا، ولا مستحقا للجر بالإضافة أو الحرف، وليس في الناس من يقول إن التلميذ لا يفهم معنى (عاد التلميذ مصابا) حتى يعرف أن مصابا حال، فحسبه إذن أن يقول أنها فضلة. وبذلك وحده نكون قد اهتصرنا ثلث النحو، ونستطيع أن نستغل القراتح في نواحي أخر أجدى وأعود بالفائدة. وبذلك نكون قد خففنا من هول هذا الشبح المفزع الذي يتراءى للتلميذ في يقظته ويروعه في منامه، وهو شبح القواعد.

ولست أزعم إنني مبدع هذا النسق من الدراسة والاختصار فقد سبق إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى في كتابه النحو، ولكنه وا ضيعتاه لم يجر عليه في كتب صغار التلاميذ التي هو أحد عشر كوكبا رقشوا غلافها بأعلامهم الكريمة!

وهنا نترك أمر التبويب والترتيب والاختصار والحشو، إلى أمر آخر أقذى من العين، وأشجى للنفس، فإن الكتاب كثيرا ما يغفل عن المقرر إلى أي حد وقف، وعن التلميذ إلى أي مدى درس، فيطلب منه إعراب شيء ما عرفه بعد، فيقف التلميذ حائرا مبهوتا دهشا، أو يجتازه على ضرب من الحدس والتخمين، وما شر من ذاك إلا هذا، فأما المعلم فإنه يبيت - من رحمته بتلميذه وإشفاقه عليه - قلق غير موسد!.

خذ مثلا: مطالبته في آخر تمرين على الضمائر بأعراب الجملة (إننا سلمنا من القادمين) على حين أن التلميذ لم يعرف بعد أن من الخبر ما هو جملة، وبينه وبين معرفة ذلك مدى طويل، فالله أنشدكم ماذا يقول المدرس؟ وكيف يتخلص من أسئلة تصوب إليه في حرص وقوة؟ وكيف فات ذلك المؤلفين الستة والمراجعين السبعة؟

وخذ مثلا آخر: مطالبته بإعراب: (أمسى القانع وهو مغتبط) آخر باب الحال، وأمسى هنا دائرة بين التمام والجملة بعدها حال، أو النقصان والواو زائدة كما قالوا في (فأمسى وهو عريان) فأي البابين افتح على التلميذ الغض، باب تمام أمسى، وهو لا يطيقه، أم باب زيادة الواو، وهو لا يسيغه؛ على أن الواضع - عفا الله عنه - إنما قصد إلى الأول لأنه ذيل بهذا المثال باب الحال. واللجوء إليه يصدم عقول الأطفال الصدمة المضللة بين الناقص والتام، ويفتح عليه بابا من التخليط ليس له رتاج!

وبينما تجد الكتاب في تطبيقاته يحاور التلميذ محاورة الملغز المحاجي، تجده يقف عند بعض الأمثلة في بابين متباعدين لا يعدوهما، فهو يمثل في باب الحال، لشبه الجملة بقوله (وزنت القطن في غرارة) فإذا عددت خمسة أبواب بعدها تقع في نحو خمس عشرة ورقة، وجدته يمثل في باب النعت، لشبه الجملة بقوله: (رأيت قطنا في غرارة) يا لله، أضاق الأفق عن كل شيء إلا عن القطن والغرارة، نحيرهما بين باب الحال وباب النعت؟ ولو أن الواضع أجرى موازنة بين المثالين في البابين، لقلنا حكمة حكيمة، ولكن الذي اضطره إلى ذلك الكسل العقلي، ولا نقول الأجداب العقلي، فذلك ما لا رضاه وصفا للجلة الفضلاء.

وبعد: أفأنتم مصرون بعد على أن نذوق غصص هذا الكتاب وهذا المنهج؟ إن كان ذلك فحسبكم الله على ما فرطتم في جنب التلاميذ , والأساتيذ! ولي عودة في نقد المطالعة والمحفوظات إذا شاء الله.

كامل السيد شاهين

المدرس بالمدارس الأميرية